المال
… لن أقول كلمة في الوارثين بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لانعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعًا أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم، ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال.
ورأيي في الميراث أنه حق وعدل، وأن المذاهب الاجتماعية التي تحرمه تجور على الآباء والأبناء، ولا تتحرى سنن الطبيعة فيما جرت عليه بين جميع الأحياء؛ لأن المجتمع لا يستطيع أن يحول بين الأب وبين توريث أبنائه ما اشتمل عليه من عيوب الخلق والفكر، ومن دمامة الوجه وشوه الجسم وضعف التركيب؛ فليس من العدل أن يحول بينه وبين توريثهم الخير أو نصيبًا من الخير، وإن كان عدلًا أن تفرض للمجتمع حصة وافية من ذلك النصيب.
كذلك تجري الطبيعة على سنة الوراثة في جميع السلالات، وهي سنة أعرق من المجتمعات الإنسانية وغير الإنسانية، ولم تنشأ عبثًا ليلغيها الإنسان كل الإلغاء بقانون أو نظام.
لكنني أخالف الدكتور في قوله: إن الميراث لو عطل «لآثر الناس جميعًا أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم …»
فإن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث، ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء، وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه؛ ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة، وهو على يقين أنه لن يخلف لأبنائه زادًا من علومه ودروسه إلا ما يخلف المعلمون للمتعلمين، وقد يفوتهم منه حتى هذا النصيب.
وبين طلاب المال من بلغ أرذل العمر، وليس له عقب ولا هو ممن يبسطون الكف بالإنفاق، فيخشى نفاد ماله الكثير، ومنهم من لو بسط يده بالإنفاق عشرات السنين لما خشي على ماله النفاد.
أعرف رجلًا له نظراء كثيرون كان يملك القصور، ويدخر الأموال في المصارف، وله معاش لا ينقطع من خزانة الحكومة، وهو مع هذا يبخل على نفسه بالقليل، ويعيش معيشة الفقراء، ويراه الحوذية في الطريق فيهربون منه؛ لأنه يأبى أن ينقدهم الأجر إلا على حساب ما تعود قبل أربعين أو خمسين سنة … يوم كان للمليم سعر القرش في هذه الأيام، وأعجب العجب أن هذا الرجل الشحيح كان مجدودًا في أوراق المصارف التي يناط بها النصيب، فكان يربح جوائزها الأولى من حين إلى حين، وحدث مرة أن وكيله تسلم جائزة من هذه الجوائز وأخَّر إيداعها المصرف الذي يعاملونه بضعة أيام، فلما راجع الغني الشحيح حسابه قطع أرباح الجائزة في هذه الأيام القليلة من مرتب الوكيل المسكين، وهو شيء يبذله من يربح مثل هذه الجائزة هبة لمن يحمل إليه بشارتها ولا يندم عليه.
ولم يكن لهذا الرجل عقب ولا كان له مطمع في العيش الطويل بعد السن التي ارتفع إليها؛ ولكنه يطلب المال لأن طلب المال شهوة، ولا يشترط أن تتعلق بالإنفاق والتوريث.
ولو نظر الناس إلى الواقع في أمر الورثة لما حرصوا على ترك المال بعدهم للأبناء والأحفاد؛ فإن أبناء الفقراء الذين عاشوا في الدنيا عيشة راضية بغير ميراث يبلغون أضعاف الوارثين عدة، سواء ورثوا الكثير أو القليل، وإن الذين أشقاهم الميراث لا يقلون عن الذين سعدوا به وحفظوه أو زادوا عليه، وإن الذين يموتون وهم خائفون من تبديد أبنائهم أكثر جدًّا من الذين يموتون وهم مطمئنون إلى حسن التصرف ودوام الحال.
كان العلامة يعقوب صروف — طيب الله ثراه — يوصيني كلما لقيته أن أدخر وأن أحسب حساب المال والثراء، وكأنه أنس مني التواني في الإصغاء إلى هذه النصيحة، فروى لي حديثًا جرى بينه وبين تاجر من كبار التجار السوريين العصاميين رآه مشغول البال معنًّى بما يخشاه على ثروته وأبنائه بعد موته من تقسم وبوار، قال: وهكذا الدنيا دواليك بين جيل عصامي يجمع، وجيل عظامي يضيع ما جمعه الآباء، ويأتي بالمعذرة لمن يتركون الأبناء فقراء ناشطين في طلب الجاه والثراء.
قال العلامة صروف: ومنذ أيام طرق علينا الباب أبناء صاحب من أصحابنا مات فجأة، وليس في الدار ما يشيعونه به إلى لحده؛ وكان هذا الصاحب مفراحًا، يأكل ما يشتهي ويلبس الفاخر من الثياب، ويطعم أبناءه أحسن مطعم، ويكسوهم أجل كسوة، ويقضي سهراته بينهم ضاحكًا متهللًا على صينية من الحلوى أو الفاكهة، وهو لا يشغل باله لحظة بما يكون، ولا يبالي بعد موته ما يأكلون ويشربون، فأي الأبوين أسعد؟ وأي الأبناء أحظى بحسن المصير؟
وهذا السؤال الذي سأله الدكتور صروف سيظل أبد الزمان مسئولًا يجيبه من يشاء كما يشاء؛ ولكنه جواب لن يجعل المفراح مشغولًا بتوريث أبنائه، ولا المشغول بتوريث الأبناء مفراحًا ينعم بالحاضر، ولا يعنِّي نفسه بالغيب المجهول.
فخديعةٌ من خدائع النفس أن تعلل حرصها على المال بحب الأبناء، ولو كان حبٌّ مانعًا أن ينفق الإنسان كل ما عنده لكان حبه لنفسه وخوفه على غده أحرى أن يمنعه ويقبض يديه، ولكنها خديعة النفس كما نقول تتراءى لها في مختلف الذرائع والتعلات.
إنما تفسَّر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات. وإذا قيل لنا: إن فلانًا يجمع المال؛ لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره؟! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات التي قد يتفقون عليها من جانب التأمل والتفكير.
المال يطلبه الإنسان لباعث قبل أن يطلبه لغاية، ومن بواعث طلبه الخوف والمنافسة والطموح، وحب الكسب للكسب، كما يفرح اللاعب بالرهان الذي ليس من ورائه طائل، وهنا موضع التحذير للمصلحين الذين يعالجون مسألة الغنى والفقر على أساس الأرقام والقواعد الاقتصادية، ويغفلون علاجها على أساس الشعور والبواعث النفسية، فأنت إذا أعطيت الفارس قصبة السبق قبل دخوله الميدان لم ترحه، ولم تعطه ما يريد؛ وإذا منعت المتنافسين أن يتنافسوا؛ لأنك ضمنت الرزق لأبنائهم أو ضمنت الأمان لهم في عقباهم لم تستأصل أسباب التنافس، ولم تعطهم الحياة التي جعلتهم يتنافسون.
إنما الواجب أن ندع الناس يطلبون المال كما يطلبون العلم أو يطلبون الجاه، أو يطلبون السرور، أو يطلبون الفرص النادرة والمقاحم المجهولة، وليس علينا أن نسألهم لماذا يطلبونه، وإنما علينا أن نمنعهم إنفاقه فيما يضير الآخرين، فغاية ما يحق للمجتمع في هذا الصدد أن يحرم الغش والجور، وتخويل أناس بغير حق ما يحرمه غيرهم من العاملين.
كان أوليفر لودج عالمًا رياضيًّا من الطراز الأول، وكانت له بحوث مشهورة في مخاطبة الأرواح وما وراء المادة، وربما انصرف أحيانًا من الرياضيات والروحيات إلى المباحث الاجتماعية، وشئون الثروة والسياسة، ولكنه كان يأتي فيها إذا انصرف إليها بمقطع الرأي وفصل الخطاب؛ لأنه بعيد من الهوى والتشيع لهذا المذهب أو ذاك … فمن نصائحه في هذا الباب أن تتولى الدولة مراقبة المال كما تتولى مراقبة السلاح؛ لأن الخطر من سوء استخدام المال لا يقل عن الخطر من سوء استخدام السلاح، وربما ظهرت جريمة السلاح بعد اقترافها بقليل، ولقي صاحبها من الجزاء ما فيه عبرة لغيره، أما جريمة المال فقد ينقضي العمر وهي خافية، وقد يقترفها أناس بعيدون من الشبهات؛ لأنهم ليسوا من حثالة الخلق الذين يعتدون بالخناجر والمسدسات.
فإذا وجبت مراقبة المال في أيدي المسيطرين به على سواد الناس، فمن الواجب أن تكون الرقابة على النحو الذي قصد إليه الرياضي الكبير، ولا سيما في العصر الذي أصبح المال فيه مرادفًا لمعنى الثقة والائتمان، فلا يجوز في هذا العصر أن توضع الثقة الاجتماعية في أيدي أناس يعبثون بها جهرة أو خفية، ولا يجوز إذا هي وضعت في بعض الأيدي أن تترك هملًا بغير رقابة أو حيطة، أو بغير علم بما تتجه إليه وتجري فيه.
وهنا نسأل: ما هي حدود الرقابة الاجتماعية على سيطرة الأموال في أيدي الأفراد أو الجماعات التي تسوس أموال الأفراد؟
وجواب هذا السؤال أن الرقابة الوحيدة الممنوعة هي الرقابة التي تشل الدوافع النفسية والبواعث الحيوية، وتخرجها في نظامها مخرج الجهود الآلية والأرقام الحسابية، فإن المجتمع الإنساني لن يكسب شيئًا من تنظيمه النفوس تنظيم الآلات التي تتحرك بأمر وتسكن بأمر، ولا تتخطى ما يرسم لها من الخطوط والغايات.
فللمجتمع أن يراقب المال، وأن يأخذ نصيبه منه للمصلحة الاجتماعية التي يشترك فيها الأغنياء والفقراء، ولكن ليس للمجتمع أن يمسخ الطبيعة، ويجور على حركات النفوس وبواعث الحياة؛ لأنه يتعرض بالقوانين لأمر لم تخلقه القوانين، ويأخذ ما ليس في وسعه أن يرده أو يعوضه بمثله.