السلفية والمستقبلية
عني الأديب الفاضل الأستاذ الحوفي بالرد على اللغط الذي يلوكه باسم التجديد ذلك الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها ولا يتكلف لها كلفة في العمل أو في المال.
فهو يشتري الأرض، ويتجر بتربية الخنازير، ويسخر العمال، ويتكلم عن الاشتراكية التي تُحرِّم الملك وتحارب سلطان رأس المال.
وهو يعيش من التقتير عيشة القرون الوسطى في الأحياء العتيقة، ويتكلم عن التجديد والمعيشة العصرية.
وهو ينعي الحضارة الآسيوية، وإنه لفي طواياه يذكرنا بخلائق البدو المغول في البراري السيبيرية.
ومن لغطه بالتجديد ذلك اللغط الذي لا يفهمه، قوله الذي رد عليه الأستاذ الحوفي وهو: «التفت إلى عبارة قالها الأستاذ العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا، إذ هم يدعون على غير ما يجب إلى اللغة العامية، وقد حسب عليهم هذه الدعوة في فاتحة رذائلهم؛ لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية، وهي أن الاشتراكيين شعبيون يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضًا مستقبليون وليسوا سلفيين … في حين أنه هو سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه …»
وهذا كلام عن السلفية والمستقبلية ببغاوي العبارة لا يعقل قائله ما يقول: لأن الكتابة في الموضوعات التاريخية ليست هي مقياس السلفية أو المستقبلية، وإلا كان المؤرخون كلهم سلفيين؛ لأنهم ما كتبوا ولن يكتبوا في غير العصور السالفة، وفي غير الماضي البعيد أو القريب، وإنما المقياس الصحيح هو طريقة الكتابة في الموضوعات التاريخية والأبطال التاريخيين، وبهذا المقياس يحسب الإنسان سلفيًّا رجعيًّا ولو كتب عن المستقبل الذي يأتي بعد مئات السنين؛ إذ هو قد يكتب عنه بروح الجهل القديم والعصبية الرجعية، وهي العصبية التي عششت في دماغ ذلك الكاتب الببغاوي، فلا ينساها في موضوع قديم ولا حديث.
ومن أصدق المقاييس للمستقبلية الإيمان بالحرية الفردية والتبعة الشخصية.
فليس في التاريخ الإنساني كله مقياس للتقدم أصدق ولا أوضح ولا أكثر اطِّرادًا في جميع الأحوال من مقياس حرية الفرد بين أمة وأمة، وبين زمان وزمان، وبين خليقة وخليقة، وبين تفكير وتفكير.
فإذا قابلت بين عصرين اثنين، فأرقاهما ولا ريب هو العصر الذي يعظم فيه نصيب الفرد من الحرية والتبعة الشخصية.
وإذا قابلت بين أمتين في عصر واحد، فأرقاهما ولا ريب هي التي تدين بالنظم القائمة على تقرير حرية الفرد، وتحميله التبعة في السياسة والأخلاق.
وهذا الفارق الحاسم هو أيضًا مقياس الفارق بين العالم والجاهل والرفيع والوضيع والرجل والطفل، والرئيس والمرءوس وكل فاضل وكل مفضول.
ولهذا كنا نحن مستقبليين؛ لأننا ندين بمذاهب الحرية الفردية، ولا ندين بمذاهب الفاشية والشيوعية، ولا نرى واحدة منها خيرًا لبني الإنسان. وقد حاربنا الفاشية والنازية في الوقت الذي كان فيه الببغاوات من أمثال ذلك الكاتب يطبلون لها ويزمرون ويسجدون لأبطالها ويركعون، وعشنا وعاش الناس حتى رأوا ورأينا مصداق ما أنذرنا به وأكدناه وقررناه، وسنرى عن قريب مصداق ما أنذرنا به وأكدناه وقررناه في أمر الشيوعية الماركسية على الخصوص؛ لأنها هي المذهب الذي نحن على يقين من سوء مصيره وسوء وقعه وسوء فهمه بين أدعيائه، وليس هو الاشتراكية في صورتها الحرة المهذبة كما يغالط ذلك الكاتب الببغاوي في التسمية، وهو يتعمد أو لا يتعمد التغليط والتخليط.
وقد بدرت البوادر التي لا خفاء بها، فعلم الشرقيون والغربيون أن سياسة بطرس الأكبر — لا سياسة المستقبل — هي التي يترنم بها الببغاوات في هذا البلد وفي غيره من البلدان، وسيرون المزيد من دلائل الرجوع إلى القديم في كل مسألة من مسائل الخلاف بين السلفيين والمستقبليين.
•••
ومن مقاييس المستقبل التي لا تخطئ، ولا تكذب في الدلالة على الوجهة التاريخية العامة مقياس التعاون بين الدول، أو التعاون بين الطبقات، أو التعاون بين الأفراد، فإن هذا التعاون ملحوظ الخطوات في السياسة الدولية من الزمن القديم إلى الزمن الحديث، وهو كذلك ملحوظ الخطوات في المعاملات التي تشيع بين أبناء الوطن الواحد، وسيكون له الشأن الأكبر في علاج مشكلات الاجتماع والاقتصاد على توالي السنين.
وبهذا المقياس — بعد مقياس الحرية الفردية — تعتبر الشيوعية من المذاهب الرجعية، التي ترجع بنا إلى سيادة الطبقة الواحدة، وإن كانت تزعم أنها طبقة وحيدة وأنها هي طبقة الصناع والأجراء، فسيادة الطبقة الواحدة أقدم الصور الاجتماعية التي عرفها الناس، والشيوعية لا تغير في الأمر غير عنوان الطبقة … إن صح ما تدعيه.
•••
وأسخف السخف قول ذلك الكاتب الببغاوي: إن الشيوعيين «يفضلون اللغة العامية؛ لأنهم شعبيون مستقبليون.»
ومصيبة الدنيا أن تحشو هذه الببغاوات أفواهها بما تسميه تفسير الظواهر الاجتماعية، وهي لا تفسر تحت آنافها ما تسمعه بالآذان وتبصره بالعيون.
فاللغة العامية لغة الجهل والجهلاء، وليست بلغة الشعبيين ولا من يحبون الخير للشعوب.
لأن الغني الجاهل يتكلم اللغة العامية، ولا يقرأ اللغة الفصحى، ولا يمتاز بفهمها على الفقراء.
ولأن الفقير المتعلم يفهم الفصحى ويكتبها، كما يفهمها سائر المتعلمين من العلية أو السواد.
فأعداء الشعب حقًّا هم أولئك الذين يفرضون عليه الجهل ضربة لازب، ولا يحسبونه في يوم من الأيام صاعدًا من حضيض الجهل إلى طبقة المعرفة والثقافة.
وأصدقاء الشعب حقًّا هم الذين يفتحون له أبواب المزايا العالية، ويسوون بينه وبين القادرين على التعلم والمتكلمين بلغة المتعلمين.
والمسألة هنا — أيتها الببغاوات التي تفسر الظواهر الاجتماعية — ليست مسألة شعبيين وطبقات، وأجور ورءوس أموال كما يهذي كارل ماركس وأتباعه المفتونون.
وإنما هي مسألة الفارق السرمدي بين المعيشة اليومية وبين الحياة الإنسانية الباقية على اختلاف الأمم وتعاقب العصور.
فكل ما هو من باب القيم الإنسانية الباقية، فلا مناص له من تعبير غير تعبير السوق والبيت، وكلمات التسلية والاستلقاء، ولو أجبرنا الناس جميعًا في هذه الساعة على الكلام بالعامية دون غيرها لما استطاعوا أن يتجنبوا اللغة الخاصة والمصطلحات الخاصة والتراكيب الخاصة سنة واحدة حين يكتبون في الطب، أو الرياضة العليا أو الكيمياء أو القانون، ولكان عسيرًا عليهم أشد العسر أن يكتبوا بالعامية مذهبًا كمذهب كانت أو مذهب لمبروزو، أو قصيدة كقصائد المتنبي وبيرون وشكسبير.
فإذا كانت اللغة الخاصة لازمة للمتعلم على كل حال لاستيفاء علم الطب، أو علوم الرياضة أو علوم القانون، فلماذا تحرم عليه لاستيفاء علوم الأدب والقدرة على التعبير الذي لا يتجاوز حدود اليوم، ويصاحب الأمم الإنسانية عدة أجيال؟ ومن قال: إن الإنسان يستخدم لغة واحدة حين يساوم على بطيخة أو حين يغسل القدور، ويخرط الملوخية، وحين يتكلم عن غبطة النفس بالربيع وسمو الأمل بالحب، ونبل الفداء في سبيل المثل العليا؟
ما هذا الولع بالتسفل وهذا الإنكار لكل ارتفاع؟ ما هذا التمرغ في كل وضيع، وهذا الحرد الذي لا يطاق على كل شريف رفيع؟
فاللغات الفصحى لم تحفظ حتى اليوم لأن الأغنياء وأصحاب رءوس الأموال يتكلمونها في البيت والسوق، ولم تحفظ حتى اليوم لأنها مزية طبقة من الطبقات الاجتماعية، أو مزية الأغنياء القادرين على التعليم، فإن أغنى الأغنياء كثيرًا ما كانوا من أضعف المعبرين، وأفصح الفصحاء كثيرًا ما كانوا من الفقراء والمعدمين، وإنما اختلفت اللهجتان على مدى الزمن بضرورة الاختلاف بين حياة البيت والسوق، وحياة المعرفة والتهذيب التي تتجاوز حاجة اليوم إلى حاجة الأجيال.
وإنما الحقد على كل شريف رفيع هو الذي يسول للببغاوات أن يحاربوا اللغة الفصحى باسم الشعبية، والشعبية منهم براء.
والمرجع بعد إلى الذوق والشعور وخصب الخيال، وهي ملكات حرمتها الشيوعية وذووها من كارل ماركس إلى أذنابه الذين لا يفقهون ما يقول، ولو فقهوه لما عظم شأنهم بين شئون النفوس والعقول.