في مصر فلسفة
نعم في مصر فلسفة.
ونحمد الله على ذلك كما حمد فردريك الكبير ربه على أن في برلين قضاءً.
ولكننا نحن أولى بالحمد من فردريك الكبير؛ لأن القضاء العادل ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية يتفقدها الناس إذا فقدوها، ويجدونها إذا طال تفقدها، وكان بهم صلاح لوجودها.
أما الفلسفة فلا يبحث عنها من يفقدها؛ لأن من يفقدها يجهلها ولا يحفل بها، وقد يسخر منها إذا سمع بذكرها، وقد يتفق أصدقاؤها وأعداؤها على أنها نافلة من النوافل وزيادة من الزيادات، وإن قال الأصدقاء: إنها نافلة الكمال، ولا غنى عن الكمال، وزيادة الفضل ولا تطيب للفاضلين حياة المفضولين.
فإذا كان القضاء العادل ضرورة محسوسة فصناعة الفلسفة ليست بضرورة من ضرورة المعاش، أو هي على الأقل ليست من الضرورات المحسوسات: تلك ضرورة وطن وزمن؛ وهذه ضرورة لا يشعر بها الإنسان إلا إذا تجاوز نطاق الأوطان، وأصبح نطاقه الكون كله، في كل زمان.
أو هي العلم الكلي كما قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي: «فإن العلوم منها جزئية ومنها كلية، والعلوم الجزئية هي التي موضوعاتها بعض الموجودات أو بعض الموهومات … مثل علم الطبيعة فإنه ينظر في بعض الموجودات، وهو الجسم من جهة ما يتحرك ويتغير ويسكن عن الحركة، ومن جهة ما له مبادئ ذلك ولواحقه، أما العلم الكلي فهو الذي ينظر في الشيء العام لجميع الموجودات مثل الوجود والوحدة، وفي أنواعه ولواحقه، وفي الأشياء التي لا تعرض بالتخصيص لشيء؛ شيء من موضوعات العلوم الجزئية مثل التقدم والتأخر والقوة والفعل والتام والناقص، وما يجري مجرى هذه، وفي المبدأ المشترك لجميع الموجودات، وهو الشيء الذي ينبغي أن يسمى باسم الله جل جلاله؛ لأن الله مبدأ للموجود المطلق لا لموجود دون موجود، فالقسم الذي يشتمل منه على إعطاء مبدأ الموجود ينبغي أن يكون هو العلم الإلهي؛ لأن هذه المعاني ليست خاصة بالطبيعيات، بل هي أعلى من الطبيعيات عمومًا، فهذا العلم أعلم من علم الطبيعة، وواجب أن يسمى علم ما بعد الطبيعة …»
وكلام صاحبنا الفارابي على تركيَّته العربية أو عربيته التركية كلام صحيح في التعريف بفضل الفلسفة، أو البحث فيما وراء المادة وما وراء الزمان والمكان، ولكننا بعد ما قدمناه في موقع الفلسفة من الضرورة نعود فنقول: إنها ليست من البعد عن حياتنا الفردية أو حياتنا الاجتماعية بحيث تخرج من عالم الطبيعة إلى ما وراءها، وإن الإنسان ما عاش ولن يعيش بغير فلسفة حياة منذ بحث في العلاقة بينه وبين العالم المنظور والعالم المحجوب، ومرحلة الحياة كما قلنا في بعض كتبنا الحديثة: «كجميع المراحل التي نقطعها من مكان إلى مكان، لا تركب القطار حتى تحصل على التذكرة، ولا تحصل على التذكرة حتى تعرف الغاية التي تسير إليها، غاية ما هنالك من فرق بين راكبين أن أحدهما يقرأ التذكرة والثاني لا يقرؤها، أو أن أحدهما يؤدي ثمنها من ماله والثاني يؤدى له الثمن من مال غيره …»
والعجب أن بعض الفضلاء من طلاب الحقيقة لا ينظرون إلى الفلسفة هذه النظرة، ولا يحجمون عن نعتها باللغو الفارغ والهذر الذي ليس وراءه طائل، وكذلك فعل الكاتب النزيه الأستاذ نقولا حداد حين جرى البحث على صفحات «الرسالة» عن وحدة الوجود، فضرب المثل على سخف المذاهب الفلسفية القديمة بقول فيثاغورس: إن العدد هو سر الوجود، وإن النسبة بين الأشياء هي نسبة بين أعداد.
قال فيثاغورس ذلك قبل خمسة وعشرين قرنًا، فكان فرضه هذا أقرب إلى الصدق من فروض علمية كثيرة فتن بها الناس إلى سنوات.
وقال فيثاغورس حين رأى أن الأوصاف كلها قد تفارق الموجودات من لون أو لمس أو صلابة أو ليونة أو وزن، أو ما شابه هذه الأغراض الكثيرة إلا العدد؛ فإنه ملازم لكل موجود، فردًا كان أو أكثر من فرد، وكاملًا كان أو غير كامل، وأن الفروق بين الأشياء هي فروق بين تركيب وتركيب، أو فروق بين نسب الأعداد، وأن الكون كله «دور موسيقي» هائل يدور على قياس منسجم كما يدير العازف الماهر ألحان الغناء.
وأنشد الكون ألحانه التي لا عداد لها، وتوالت الفترات التي نعدها نحن بالسنوات والقرون، وظهر اليوم للباحثين أن الأجسام نسب بين أعداد، وأن الفارق بينها فارق في هذه النسب دون غيرها، وأن التناسق في هذه النسب أصدق من أجرام المادة الملموسة باليدين، وأن الأصح في تركيب الذرة أن يقال: إنه «عددي» لا إنه «مادي» ملموس.
وإذا قال فيثاغورس هذه المقالة قبل خمسة وعشرين قرنًا، فليس من حقه أن توصف مقالته بالفراغ، وهي أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود وفوارق الأجسام، وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء: إن أصل المادة أثير.
•••
وكان الفلاسفة يبحثون في العقل والمادة من عهد الفراعنة إلى عهد اليونان إلى عهد العرب إلى عهد الأوروبيين المحدثين.
يسأل سائل: أهما محدثان أو قديمان؟
ويسأل آخر: وإذا كانا محدثين فمن الذي أحدثهما؟
ويسأل غيرهما: وإذا كانا قديمين فكيف يتفق قديمان ليس لواحد منهما بداية ولا نهاية؟
ويعود هذا السائل أو ذاك فيقول: وإذا كان أحدهما سابقًا للآخر وموجدًا له، فأيهما الأول وأيهما الثاني في ترتيب الوجود؟
ويفترق المجيبون فيقول فريق منهم: إن الحيوان ظهر بعد الجماد، وإن الإنسان ظهر بعد الحيوان، فالمادة إذن أسبق من العقل في الترتيب.
ويقول فريق آخر: إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن العقل أشرف من المادة، فهي لا تخلقه وهو أولى بأن يخلقها، ويسبقها في الوجود على الأقل سبق العلة للمعلول.
أكلام فارغ هذا؟
أهو كلام لا يعنينا ولا يدخل في حسابنا؟
كلا … لأن التفسير المادي للتاريخ مذهب عمليٌّ في الحياة الاجتماعية قام على القول بأن المادة هي القديمة وأن العقل هو الحديث، وتوطدت عليه دعوة «كارل ماركس» التي فعلت بعد ذلك الأفاعيل في مجرى السياسة العالمية، وفي مجرى العلاقة بين الطبقات، ولو استطاع فيلسوف أن يقنع الإمام وأتباعه بقدم العقل وحدوث المادة لتغير تاريخ الكرة الأرضية، وتغيرت نظرات الملايين من الناس إلى الحياة.
فهذه الصناعة التي تسمى بالفلسفة لا تغادر الطبيعة كل المغادرة، ولا تنطلق منها إلى ما وراءها بغير رجعة إلينا في حياة الغذاء والكساء.
وإهمال هذه الصناعة غير مأمون على مهمليها؛ لأن الفرق بين الفلسفة الصالحة والفلسفة الطالحة قد يكون فرقًا بين ثورة واستقرار، أو بين حرب وسلام، أو بين هداية وضلال.
ونحن حين نذيع البشارة بقيام الفلسفة في مصر لا نذيع بشارة سماوات الخيال، ولا ننسى الذين يعيشون ويعلمون أنهم يعيشون؛ لأنهم يأكلون ويشربون ويلبسون؛ أو لأنهم لا يطلبون من هذا الوجود مطلبًا غير المأكل والمشرب واللباس.
•••
نعم في مصر فلسفة.
نعم وفيها عناية بالكتب الفلسفية.
وآية ذلك أننا تلقينا في عام واحد نحو عشرين رسالة في المباحث الفلسفية وما إليها، وعلمنا أنها تقرأ في بيئة المتعلمين الذين يؤدون الامتحان المدرسي، وتقرأ في بيئة المطلعين الذين يقنعون بالاطلاع.
من هذه الرسائل القيمة رسالة للأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق باشا عن فيلسوف العرب، والمعلم الثاني، والشاعر الحكيم، وابن الهيثم، وابن تيمية، فيها أوفى تعريف ينال بمثل هذا الإيجاز.
ومنها كتابا الأسرة والمجتمع والمسئولية والجزاء للدكتور علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، وقد نوهنا بالكتاب الأول في «الرسالة»، وثانيهما في طبقة الأول من حيث الإفادة والتحقيق.
ومنها كتب ثلاثة في «الفلسفة الرواقية» وسيرة الإمام محمد عبده، وشخصيات ومذاهب فلسفية للدكتور عثمان أمين، وأولها أوفى كتاب بالعربية في موضوعه، ويضارع خيرة الكتب الأوروبية في هذا الموضوع، وقد أنصف الأستاذ الإمام في سيرته الوجيزة، وصحح أوهامًا شائعة في الشخصيات والمذاهب الفلسفية، وأغنى المتطلعين إلى هذه البحوث عن كثير من المراجعات.
ومنها التعليم عند القابسي للدكتور الأهواني، وهو بيان لفن من الفنون كان المظنون أن العرب أهملوه، فألم الدكتور بتاريخه وشرح آراء القابسي فيه.
ومنها كتاب التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام، وكتاب الشعراني إمام التصوف في عصره، وكتاب الأحلام للدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بجامعة فاروق الأول، وكلها نمط واحد في حسن التقسيم وتقرير المعلومات وفطانة التعقيب.
وظهرت إلى جانب هذه الكتب القيمة والرسائل المسعفة مجلة مقصورة على علم النفس للأستاذين يوسف مراد ومصطفى زيور، تعنى بأشرف البحوث المتخيرة في موضوعها، وتشغل مكانًا لم يكن بالجميل أن يفرغ بعد الآن في اللغة العربية.
ويجب أن نقرر هنا أننا أحصينا ما رأيناه، ولم نحص كل ما صدر للجمعية الفلسفية، أو لغيرها من دراسات الفلسفة والتصوف وعلم النفس وما إليها.
وبعض هذا يكفل للمباحث الفلسفية حيزًا موقرًا في هذا البلد، ويجيز لنا أن نقول: إن في مصر فلسفة، وإنها بشارة تذاع؛ لأنها بعض الأدلة على انتقال المصريين من عالم الضرورة إلى عالم الحرية والاختيار، ومن أسر الحاجة التي لا تخلو من عبودية إلى شرف الكماليات التي لا تخلو من عزة وارتفاع.
وقد وددنا لو استطعنا أن نبسط القول في كل كتاب من هذه المجموعة النفسية لولا أنها حرب خاطفة تقابل بإشارات خاطفة، وإذا بلغ بأصحاب الفلسفة أن يشكو الناس سرعتهم ونشاطهم، فتلك علامة خير وحجة على من يحسبون الفلسفة قرينة للدعة والركون إلى السكون.
لكن نشاطهم هذا يغريني باقتراح عليهم أوحاه إلي حديث مع أستاذ الجيل وكاشف أرسطو للعرب في هذا الزمان العلامة الكبير أحمد لطفي السيد باشا، مد الله في عمره وأدام به النفع والهداية.
فالأستاذ قد ترجم لأرسطو كتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، وكتاب السياسة، وينوي أن يترجم له كتاب الروح أو كتاب ما بعد الطبيعة.
وما ترجمه الأستاذ الجليل هو أصح ما نقل عن المعلم الأول إلى اللغة العربية، وقرينٌ في الصحة والوضوح لأفضل الترجمات في اللغات الأوروبية.
ولكن لا يزال الغلط البالغ محيطًا بالمنقولات الأخرى عن أرسطو منذ تصدى له النساطرة والإسرائيليون الأندلسيون؛ لأن الجلة من أولئك المترجمين كانوا يجهلون معاني الفلسفة ويجهلون دقائق العربية، ولا ندري الآن مبلغ علمهم باليونانية، وليس أولى بتصحيح أغلاطهم من عصرنا هذا الذي تيسرت فيه مراجع الفلسفة اليونانية، وتيسرت فيه العناية بها والترجمة عنها.
وقد خطر لي أن ترجمة أرسطو وأفلاطون عسيرة على الفرد إذا استقل بها، ميسرة للجماعة إذا تعاونت عليها، فماذا على شبابنا الفضلاء المتفرغين للفلسفة بأنواعها لو تقاسموا بينهم آثار الحكيمين جميعًا، ففرغوا منها في عام واحد أو عامين؟
إن في أرسطو وأفلاطون لما يصلح العقول ويقوِّم التفكير حتى في هذا الزمان، وما تباعد فيه الخلف بين آرائهما وآراء عصرنا حقيق بالدراسة كتلك الآراء الخالدة التي لم يطرأ عليها الخلف والتغيير؛ لأن دراسته دراسة لعقل الإنسان، وهو موضوع الدراسة في كل أوان.
وعمل الجمعية الفلسفية ناقص إذا بقيت اللغة العربية بين لغات الحضارة خلوًا من ترجمة صحيحة للحكيمين الخالدين، وظننا بها أنها قادرة على التمام.
وطلب التمام على من يستطيعه فرض عين في لغة الحكماء، وهي هنا قريبة من لغة المتصوفة ولغة الفقهاء.