حول الحرب والشعر
«كتب بعض القراء الأدباء يعقبون على مقالنا في الحرب والشعر، وطلب إلينا بعضهم مزيدًا من الإيضاح، فنحن نجمع هذه الملاحظات التي لعلها تلخص جميع الخواطر التي ترد على آرائنا في ذلك المقال، ونجيب على ما يحتاج منها إلى جواب في شيء من الإيجاز.»
•••
قال أحد الأدباء: «لما رأيته يسير في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية، فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر، جعلت أستضيء بالشعر العربي والحروب العربية، فرأيت الحرب كانت لدى العرب من أفعل مثيرات الشعر كما يقولون: الشعر يوحيه الحب والحرب والموت.» إلى آخر ما قال الأديب في هذا المعنى.
والذي نراه أن الشعر العربي الذي قيل في الحرب كان ينبغي أن يبلغ عشرة أضعاف القصائد والمقطوعات التي قيلت في الأغراض الأخرى؛ لأن القبائل البادية قضت أيام الجاهلية في قتال، ثم اشتغل العرب بحروب الإسلام وفتوحه، ثم أصبحت الشجاعة الحربية معرضًا لمدائح الشعراء في الملوك والأمراء.
ومع هذا جميعه لا يبلغ شعر الحرب في اللغة العربية ما بلغه شعر العشاق في جيل واحد، سواء نظرنا إلى قيمة الشعر أو مقداره.
وقد استغرقت الحروب الصليبية ما استغرقت من الزمن، وشملت ما شملت من الأمم، وتناولت ما تناولت من الأقطار، وليس محصولها الشعري كله بمساو لقصائد عاشق واحد من المشهورين في معشوقة واحدة، وحسبك هذا دليلًا على مبلغ إيحاء الحروب لقرائح الشعراء حتى في الزمن القديم.
ونقول: «حتى في الزمن القديم.» لأن للزمن القديم في هذا حكمًا يخالف حكم الزمن الحديث؛ إذ كان الشاعر يومئذ يؤدي «وظائف شتى» كوظائف الخطيب والداعية والمسجل والشادي على السنة المعهودة في اجتماع الوظائف، ثم تفرقها بالتخصيص والتنويع، وعلى هذا النحو كان الرجل الواحد كاهنًا وطبيبًا، ثم أصبح طبيبًا لجميع الأمراض وبطل عمله في الكهانة، ثم أصبحنا في الزمن الحديث وعندنا خمسون طبيبًا لا يعالج أحدهم مرض الآخر، وكلهم أطباء قادرون.
وهذا ما أومأنا إليه في مقالنا السابق عن الحرب والشعر فقلنا: إن الملاحم المنظومة كانت «هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين، فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر …»
فإذا تعرض الشعراء لموضوعات الخطباء والمسجلين في الزمن القديم، فذلك شأن لا يدوم في زماننا هذا الذي تعددت فيه مطالب الخطابة ووسائل التدوين، فأصبح تضييع الشعر فيها من الفضول، أو من صرف الشيء في غير منصرفه المعقول.
•••
وقال أديب آخر: «أما الشاعر فلا بد له من سويعات يجمع فيها أشتات فكره، ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعرًا حقًّا عبقريًّا استطاع أن يغتصب منبر الخطيب، ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته كالشاعر الإنجليزي كبلنج، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل، ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير، ويحملهم على قراءة شعره.»
وليس الأمر كما قال الأديب؛ لأن ما نظمه كبلنج إنما كان من قبيل الأناشيد التي قلنا: إنها اجتماعية وليست فردية، فحكمها في هذا الصدد كحكم الخطب والمقالات.
وقد حضر الثورات والحروب شعراء فحول في الذروة العليا بين أقوامهم، فلم ينظموا فيها إلا قليلًا جدًّا بالقياس إلى سائر الأغراض والمعاني.
فهذا ملتون كان أشعر أبناء عصره من الإنجليز، وكان في حومة الثورة الإنجليزية، فماذا نظم بالقياس إلى ما نظمه في الأغراض الأخرى؟
وهذا فكتور هوجو كان أشعر أبناء عصره من الفرنسيين، وقد حضر الثورة وحرب السبعين، فماذا نظم فيها؟ وماذا نظم في سائر الموضوعات؟ وما يقال عن هوجو يقال عن شاتوربريان ولامرتين وشينيه، وجملة الشعراء الذين لابسوا الثورة الفرنسية في عهد من العهود.
وكذلك كارودتشي الإيطالي كان أشهر شعراء قومه، وحضر الثورات الإيطالية وكان ثائرًا ابن ثائر، ولكنه فضل الإعراب عن آرائه السياسية في نشيد الشيطان على تسجيل الحوادث التي لا تنحصر في الحروب.
وكذلك جيتي وشيلر وهيني أعظم شعراء الألمان في زمانهم لم ينظموا في حروب عصرهم — وهو عصر نابليون والثورات الوطنية — إلا شذرات مهملة من شعرهم القيم المقدم على غيره.
ولقد شغلت الحرب الماضية أقطار العالم قاطبة أربع سنوات، وفيه مئات الشعراء من غربيين وشرقيين، ثم لم يعقبوا جميعًا من الشعر القيم ما يضارع ديوانًا واحدًا، وجاء الشاعر الناقد ييتس الذي عهد إليه في اختيار مجموعة أكسفورد من الشعر الإنجليزي في خمسين سنة، فلم يثبت من قصائد الحرب إلا النادر الذي نظم بعد انتهائها، وقال في مقدمة المجموعة: إنه أهمل تلك القصائد؛ لأن الموضوع بحذافيره لا يستحق الإثبات.
وتلك هي الحقيقة التي تنجلي لنا من مراجعة دواوين الفحول، ومن مراجعة أوقات الحروب الكبرى، فمن أين نأتي بزعم من يزعمون أن النظم في الحروب شرط من شروط الشاعرية، وأن إهماله معيب في أساطين الشعراء؟!
•••
ولكن طالبًا أديبًا في الجامعة كتب إليَّ يلفتني إلى رأي للأستاذ أحمد أمين أذاعه في يوم ذكرى حافظ — رحمه الله — وقال فيه عن قراء الصحف: إنهم «يقلبونها اليوم فلا يجدون فيها شعرًا في غارة، ولا في هجرة الريف، ولا في طاقة البترول كما لم يجدوا فيها ما هو أهم من ذلك في آلام مصر والشرق وآمال مصر والشرق … قد كان يقول حافظ بذلك كله، ثم لم نجد له خلفًا.»
ويسألني الطالب رأيي فيما أفتى به الأستاذ أحمد أمين، ورأيي أنه كان أولى به أن يسأل أستاذه: علام اعتمد في هذه الفتوى التي قرر بها أن ميزان الشاعرية هو النظم في الغارات وبطاقات البترول والهجرة إلى الريف؟
إن مشاكلنا التي من هذا القبيل لتغرق في نظائرها من مشاكل الأوروبيين كما يغرق الجدول في العيلم الزاخر، فما بالهم لم يفرغوا همهم للنظر في تلك الموضوعات، التي يقترحها الأستاذ أحمد أمين؟ أليس في أوروبا كلها شاعر في طبقة حافظ — رحمه الله؟
نحن لا نحرم على الشاعر النظم في بطاقات البترول وما إليها، ولكننا نحرم على الناقد أن يجعل بطاقات البترول ميزان الشاعرية، ونحسب أن إيمان الأستاذ أحمد أمين بخطئه أحرى به من هذا الجزم العجيب بخطأ الشعراء الذين لا يجارونه في فهمه للشعر … وليس هو بشاعر ولا ناقد، ولا صاحب سند فيما يرتئيه، وليست له إحاطة بما نظم الشعراء في مختلف المقاصد ومختلف المناسبات.
•••
- (١)
ليس صحيحًا أن مجلة البنش الإنجليزية نشرت قصيدة جون ماك كراي، التي عنوانها «في سهول الفلاندرز» إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها، بل في التفاتهم إليها كما قال الأستاذ العقاد. والحق والواقع كما قال برنهارد راجنر الأمريكي في مجلة نيويورك تيمس: إن محرر المجلة قدر ما في القصيدة من جمال، ونشرها بالحروف الكبيرة التي لا تستعملها البنش إلى في المناسبات الأدبية العظيمة.
- (٢) ذكر الأستاذ العقاد في الترجمة ما يأتي: «كنا أحياءً وكنا نحيا.» والواقع أن هذا تكرار من الأستاذ المترجم لا معنى له؛ لأن الأصل الإنجليزي هكذا We Lived فقط.
- (٣) ترجم الأستاذ كلمة Torch بالعنان وهذا غريب، ولو أنه قال: شعلة النضال لكان أصدق؛ لأن الشاعر يقول على لسان الموتى: إن الشعلة أسلمناها إليكم من أيدينا المتخاذلة.
- (٤) ويقول المترجم: «وارفعوا الشعلة عالية … ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات، وليس في كلام الشاعر الكندي مطلقًا ما يشير إلى هذا الشرط الأخير؛ أي: بقاء الشعلة سنوات، وأظن أن الأستاذ العقاد قرأ years yours وشتان بين الاثنين …»
فأما أن تردد البنش في استحسان القراء للقصيدة ليس صحيحًا، فهو ليس بصحيح.
وترجمته: «إنه بعيد جدًّا أن الناظم أو محرر البنش الذي نشرها أول مرة توقعا أي توقع ما سيكون لها من السلطان على خيال الأمة.»
وأما أن قولنا: «كنا أحياءً نحيا.» تكرار لا معنى له، فهو خطأ يدركه من يدرك أن اللغة العربية لغة المفعول المطلق، ولغة التوكيد بتكرار اللفظ والمعنى، وأن قولنا: «كنا أحياءً.» غير قولنا: «كنا أحياء نحيا.»
ونحن نترجم إلى اللغة العربية، والعرب يعرفون الأخذ بالعنان حين يراد به الاستلام، ولا يعرفون رفع الشعلة إلا للذكر والذكرى والنظر من بعيد، كما يتحدثون عن العلم الذي في رأسه نار.
وأما ذكر السنين فهو مفهوم بمعناه وإن لم يرد بلفظه، وإلا فما هو بقاء الشعلة إن لم يقصد بها البقاء طول السنين؟
ونصيحتي لصاحب الخطاب أن يتعلم قبل أن يتهجم، فذلك أنفع له وأسلم.
•••
وبعد فخلاصة القول في الحرب والشعر أن نصيب الحادث من الشاعرية لا يقاس بالضخامة ولا يحسب بالعدد، فرب شاعر تناول حياة فرد واحد، فصور منها فاجعة خالدة تعيش حين تنسى الحروب التي نشبت في زمانها، وربما مات فيها مئات الألوف.
وقد تستغرق الحروب ما استغرقته الحروب الصليبية، ولا يترك لنا معاصروها أثرًا يضارع تلك القصيدة الواحدة التي تدور على حياة فرد واحد.