احتكار الأدب
كثير من الأدباء يتهمون إخوانهم بالأنانية وحب النفس، فأدباء الشيوخ الذين يحتكرون ميدان الأدب لا يبذلون أي جهد في تسديد خطى الشباب الناشئ، ولا أعرف السبب الذي يمنع أديبًا مثل الأستاذ العقاد من تأليف كتاب عن الشعراء الناشئين، الذين يدل شعرهم على نبوغ وعبقرية مثلما فعل الشاعر الإنجليزي المعروف و. ب. يتس الذي كتب عن روبرت بردج، وولتر دي لمار، وهيلار بلوك، وليونيل جونسون، وأرنست دوسون، في مؤلفه كتاب أكسفورد للشعر الحديث.
فشيوخ الأدب في أوروبا لثقتهم بأنفسهم وحبهم لفنهم، وإخلاصهم له، يسددون خطى الأدباء الناشئين، ويشيدون بذكر الموهوب منهم.
وفي هذه الكلمة الموجزة كثير من الخطأ الذي يشيع بين بعض المتأدبين الناشئين، ولا ينفرد به صاحب السؤال وحده، كما لاح لي من بعض الرسائل والأحاديث، أو مما تكتب الصحف في هذا المعنى، وهو خطأ يحتاج إلى تصحيح؛ ونعتقد أن تصحيحه هو أنفع وجوه التسديد التي ينشدها صاحب الخطاب.
فمن الخطأ «أولًا» أن يشايعهم صاحب السؤال على دعواهم أن أدباء الشيوخ يحتكرون ميدان الأدب؛ لأنهم يظهرون من حين إلى حين بمقال في صحيفة أو بكتاب جديد يؤلفونه، أو يجمعون فيه ما سبق لهم نشره من المقالات.
فلا معابة على الأدباء الشيوخ أن يصنعوا ذلك، بل المعابة ألا يصنعوه، وهو واجبهم المفروض عليهم، وقد يعاب عليهم مع ذلك أنهم قليلو الإنتاج بالقياس إلى ما ينبغي لهم أو ينتظر منهم، وإنما يعذرهم أناس؛ لأن جمهور قراء الأدب عندنا لا يقبلون على المؤلفات إقبالًا يملي للكاتب في أسباب المثابرة، ومتابعة التأليف؛ ويلومهم أناس لأنهم يجهلون العقبات التي تحول دون الانقطاع للكتابة الأدبية في بلادنا الشرقية، فالمفروض على أدباء الشيوخ خاصة أن يزيدوا إنتاجهم لا أن ينقصوه؛ ولو أريد من الأديب أن يؤلف في سن المرانة والابتداء، ثم ينقطع عن التأليف بعد النضج والاكتمال، لكان هذا بدعة أخرى من بدع انقلاب الأحوال التي حقت على المتخلفين من شعوب الشرق أجمعين.
وإذا كان الغرض هو الكتابة في الصحف دون التأليف والتصنيف، فليس بصحيح أن شيوخ الأدب يحتكرون الكتابة الصحفية، أدبية كانت أو غير أدبية بأي معنى من معاني الاحتكار، بل ربما اقترنت بكل مقالة يكتبها أديب مشهور خمس مقالات أو ست أو سبع يكتبها أدباء ناشئون أو غير مشهورين، وتكفي مراجعة قليلة للصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية لتصحيح الخطأ في هذا الباب.
أما أن أدباء الشيوخ لا يبذلون جهدًا في تسديد خطى الكتاب الناشئين، فما هو هذا الجهد المطلوب؟ وعلى من التبعة إن صح أنه دون الكفاية؟
أي جهد يسدد الخطى إن لم يسددها التدريس للطلاب، أو الكتابة لمن يقرأ ويستفيد؟
أما التسديد بالمحادثة والمناقشة فما هو الجهد الذي يطلب فيه من أدباء الشيوخ؟ ولماذا نفرض هنا على الأديب الشيخ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاهم، ولا نفرض على الناشئ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاه، إذا اتسع له الوقت وساعفته شواغل الحياة؟
إن الكتاب الذي أشار إليه صاحب الخطاب لا يصلح للتمثيل به في هذا الصدد من أي ناحية من نواحيه، فهو كتاب يشمل الشعر منذ خمسين سنة، ولا ينحصر في شعر هذه الأيام؛ وهو كتاب ندب الشاعر «يتس» لتأليفه ولم يفرغ لتأليفه، ولا كان في وسعه أن يفرغ له لو لم يندب لهذه المهمة وهو معفي من تكاليفها ونفقاتها التي يعجز عنها، والكتاب بعد هذا وذاك يشتمل على أسماء أناس لا يعدون من الناشئين، سواء من ذكرهم صاحب الخطاب أو لم يذكرهم في خطابه، فروبرت بردج مات قبل تأليفه وعمره ست وثمانون سنة، وروبرت بروك — إن كان هو المقصود دون روبرت بردج — مات في الثامنة والعشرين، وليس له في الكتاب غير قطعة واحدة، وولتر دي لمار كان يدلف إلى السبعين عند ظهور الكتاب، وقد بلغها هلير بلوك في ذلك الحين، وليونل جونسون قد توفي قبل ظهور الكتاب بنحو أربعين سنة وهو في الخامسة والثلاثين، وأرنست دوسون توفي في نهاية القرن الماضي وهو في الثالثة والثلاثين.
فليس بين هؤلاء شاعر واحد يعد بين الناشئين، ولم يكن يتس مسددًا لخطاهم؛ لأنهم بين صامد على قدميه مستقل عن الأساتذة والمرشدين، ومفارق للحياة في ريعان الفتوة أو بعد مقاربة الشيخوخة.
وليست المسألة هنا مسألة ثقة بنفس أو حب لفن كما اعتقد صاحب الخطاب، بل هي مسألة تاريخ محدود قد طلبت ملاحظته في الاختيار، وأُعْفِيَ يتس فيه من أعباء المجازفة والانتظار.
وفيما عدا هذه الحالة لا نذكر حالة أخرى فرغ فيها شاعر أوروبي كبير للتأليف في الغرض الذي يقترحه صاحب الخطاب على أدباء الشيوخ المصريين.
وللأدباء الشيوخ العذر كل العذر بين المصريين، أو بين الأوروبيين إذا اختاروا للتأليف أغراضًا غير هذا الغرض الذي تنعكس به أوضاع الأمور، فإن الرجل الذي بلغ الخمسين وجاوزها يحق له أن يقصر مطالعته على المفيد المحقق الفائدة؛ ليثابر على واجبه وعلى الانتفاع بمقروءاته، فليس في وسعه أن يقرأ ست ساعات أو سبع ساعات كل يوم كما كان يفعل في بواكير الشباب، وليس في وسعه إذا اقتصر على ساعتين أو ثلاث أن ينفقها في البحث عمن يجربون الكتابة، أو يشرعون في تجربتها ليقرأ مائة مقال، أو مائة كتاب عسى أن يظفر بينها بشيء يستحق التنويه، وإنه ليستغني عن التنويه لا محالة إذا كان له من القيمة والجودة ما يكفل له البقاء.
إنما يتيسر التشجيع للأديب الشيخ في عمل واحد، وهو عمل الصحافة الأدبية حين يتولى الإشراف عليه، فهو يقرأ ما يرد إليه من الشعر والنثر، ويعنى بتنقيحه وتقديمه ونشره ولفت الأنظار إليه، وهذا ما كنا نصنعه في الصحف التي أشرفنا على أبوابها الأدبية، ولو كلفنا الجهد المجهد في القراءة والتصحيح والتنقيح.
أما الرجل الذي تشغله الحياة بمطالبها، ويشغله الأدب بمطالبه بين قراءة وكتابة، فتسديده مقصور على من يتصلون به على ما هو مستطيعه، وليس مما يستطيع أن يترك كتابًا يؤلفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة، ويضمن نفعه ومتعته ليقرأ خمسين كتابًا لا يضمن نفعها … عسى أن يعثر بينها على شيء مرجو النتيجة بعد تكرار التجربة مرات.
هذا ضياع للوقت وضياع للجهد وضياع للأدب، وعبث تستغني عنه الكفاءة المرجوة، ولا نفع فيه لمن خلا من الكفاءة، ويمنعه مع هذا كله أنه غير مستطاع.
على أن الأمر خطير جد الخطر من إحدى نواحيه التي يدل عليها، وهي ناحية الروح التي ينم عليها شيوع هذه الأماني والتعلات بين طائفة ولو قليلة من الناشئين.
فإنها روح تدل على إعفاء النفس من كل واجب، وإلقاء التبعة على كل كاهل، ونسيان كل حق غير حق الأنانية بغير عناء ولا مقابل.
يبدأ الناشئ بالكتابة اليوم، ويريد أن يشتهر غدًا بمقال واحد أو قصيد واحد ولا نقول بكتاب واحد، فإن لم يشتهر فليس اللوم عليه وعلى طمعه فيما لا يكون ولا ينفع الأدب والناس لو كان … كلا، بل اللوم على المشهورين الذين كان ينبغي أن يستأصلوا شهرتهم، وأن يكفوا عن الكتابة وأن يفرغوا جهودهم، وجهود قرائهم لشهرته هو دون غيره من الشيوخ والكهول والناشئين، وإلا كانوا محتكرين للأدب الذي يحق له هو أن يحتكره، ولا يحق ذلك لأحد من العالمين!
وهؤلاء الأدباء المشهورون «الشيوخ» ما لزومهم في هذه الدنيا؟ ما لزوم تجاربهم الماضية ودراساتهم الطويلة، وجهودهم المضنية وحياتهم التي يعيشون فيها أبدًا بين الأذى والإنكار والكنود؟
هل لهم لزوم في نفع أنفسهم ونفع قرائهم، ونفع الأدب بالاطلاع على المفيد المضمون؟
كلا … ليس لهذا كله لزوم! وإنما هم لازمون لشيء واحد، وهو شهرة من يريد الشهرة العاجلة … على شريطة أن يشتهر وحده، ولا يشتهر واحد من أنداده في السن والقدرة!
وهل لهؤلاء الأدباء الشيوخ حق؟ هل لهم فضل يجب الاعتراف به على أحد؟
معاذ الله … من أين لإنسان غضب الله عليه، فنشأ في الدنيا أديبًا شرقيًّا أن يطمع في حق أو في اعتراف؟
إنما عليه أن يقرأه القارئ الناشئ عشر سنين وعشرين سنة، ولا يقول له مرة واحدة: أحسنت واستحققت مني الكرامة والثناء، ولكنه هو عليه أن يقف على باب كل مطبعة؛ ليتلقف منها كل كتاب ألفه كل شاب في العشرين، فلا ينام ليلته قبل أن ينفخ كل بوق ليقول كل ما يحلو للمؤلف من ثناء وتنويه، فإن لم يفعل فيا للاحتكار، ويا للأنانية، ويا للغدر والكفران بالحقوق!
تعس الشرق إن كانت هذه روح الجد في شباب يتولى قيادته الفكرية بعد جيل، ومن رحمة الله بالشرق ألا تسري هذه الروح في غير القليل من المتواكلين.
وتجربتي أنا في هذا الميدان قد يعرفها المتعقب لتاريخ الكتابة الحديثة بغير بحث طويل.
فما لجأت قط إلى أديب مشهور لأتكئ إلى شهرته وأستفيد من ثنائه، وما استبحت قط في كتاب من كتبي التي أطبعها أن أذيع كلمات التقريظ التي يخصني بها الكبراء، ومنهم زعيم مصر «سعد زغلول».
هذه تجربتي مع من تقدموني وسبقوني إلى ميدان الكتابة والشهرة، أما الذين لحقوا بي فإذا استثنيت أفرادًا جد قليلين من صحبي — وإن شئت فقل: تلاميذي — فلا حق لي عندهم، ولهم عندي جميع الحقوق.
قرءوني عشر سنين فما نبسوا بكلمة تقدير واحدة، وتعرضوا للكتابة أيامًا فاعتقدوا أنني قصرت غاية التقصير؛ لأنني لم أفرغ نهاري وليلي للثناء عليهم والتبشير بدعوتهم، ووجب إذن أن أفعل ما يريدون وإلا …
وهنا العثرة كما يقول شكسبير!
وإلا ماذا؟ إنني رجل لو جاءني أحد فقال لي: عش ألف سنة سعيدًا وإلا … لأوشكت أن أجيبه بالرفض بعد هذا الاشتراط قبل إتمامه.
فإذا جاءتني شرذمة من خشاش الأرض لا يعرفون لي حقًّا، ويفرضون علي أن أنتحل لهم كل حق مصدوق أو مكذوب، وإلا حطموني وهدموني، وذروا ترابي في الهواء فماذا ينتظرون مني؟ ولماذا يغضبون إذا تركتهم يهدموني؟ ألأنهم لم يستطيعوا هدمي؟ أكان من الاحتكار أيضًا أنني لم أنهدم كما أرادوا فعرفوا أنهم عاجزون وأنهم هازلون؟
إن حق التشجيع في معاملة الناشئين مقرون بحق الأدب والتوقير في معاملة الشيوخ والكهول.
بل حق الأدب والتوقير مقدم بحكم السبق في الزمان؛ لأن الشيوخ والكهول كتبوا قبل الناشئين، وبحكم الحق لأن الأديب الناشئ يستفيد حين يقرأ سابقيه، وليس الأديب الكهل أو الشيخ على ثقة من الفائدة إذ يقرأ للناشئين، وبحكم الاستطاعة؛ لأن القارئ الناشئ قد استطاع أن يقرأ فعلًا ما هو مطالب بتقديره، وليس لأحد أن يفرض استطاعة الكهل أو الشيخ أن يقرأ كل ما يكتبه الدارجون في طريق الكتابة.
ولكنهم هنا يطلبون التشجيع ويعفون أنفسهم من واجب التوقير … ويهددون!
ومن طلب ذلك فما هو بأهل للتشجيع.
ومن قبل ذلك فما هو بأهل للتوقير.
أما الذين يعرفون الحقوق ثم لا يحتكرونها كلها لأنفسهم، فليس عندهم من سبب لاتهام المشهورين أو غير المشهورين بالاحتكار، ولا يلومون أحدًا على الاشتهار؛ لأنهم هم يتعجلون الاشتهار.