ثانيًا: التاريخ الرأسي
ويعني التاريخ الرأسي تاريخ العالم وفيضه من أعلى إلى أدنى، كما هو الحال في نظرية الفيض، ثم الصعود من جديد من أدنى إلى أعلى بالإشراق. الفيض في الكون، والإشراق في النفس، الذهاب والإياب، الخروج والدخول، البداية والنهاية.
(١) التاريخ النازل (نظرية الفيض)
(أ) فيض الوجود ومراتب الموجودات
وفي «رسالة في إثبات المفارقات» يُبرهن الفارابي على صحة نظرية الفيض؛ الله، والعقل، والنفس الفلكية، والنفس الإنسانية. لا تموت ولا تفسد، مُدركة لذواتها، ولكلٍّ منها سعادة فوق سعادة المادة. وتكثُر العقول والنفوس الفلكية بالأنواع، في حين تكثُر النفوس الإنسانية بالأشخاص، بالرغم من سؤال الحكماء: كيف يمكن الجمع بين البساطة والكثرة في النفوس لأن البساطة قرين الوحدة؟
وأحيانًا يكون الجدل الداخلي، أي البرهان، صعبًا لا يتَّفق مع علوم الحكمة التي تقوم على البرهان لا على الجدل؛ مما يدل على بقاء علم الكلام، موضوعاته وبعض مناهجه، في علوم الحكمة؛ إذ يقوم إثبات المفارقات على براهين داخلية منها علم الكلام، دون الاكتفاء ببداهة التصور في الفلسفة؛ فعلوم الحكمة لم تتخلَّ بعدُ عن المنهج الجدلي.
وبالرغم من وضع رسالة الفارابي وتركيزها إلا أنها رسالةٌ تطهرية عُلوية إشراقية لا تتَّفق مع فلسفته المنطقية العقلية. وهو نفس التضاد في فلسفة ابن سينا بين «الشفاء» و«النجاة» من ناحية، و«الإشارات والتنبيهات»، خاصةً في القسم الأخير عن «المقامات والأحوال»، بين الفلسفة العقلية المنطقية والفلسفة الصوفية الإشراقية. وهو نفس التضاد الذي وقع فيه أيضًا الرازي بين «القدماء الخمسة» والطب الروحاني. ولم يصمد أمام الإشراق إلا الكِندي العقلاني الطبيعي، المنطقي العلمي، وابن رشد المعتزلي الأرسطي. والمطلوب الآن ربما ليس إثبات «المفارقات»، بل تحقيق «الحالات» من أجل عودة الفكر إلى الواقع وتأثيره، والقضاء على الاغتراب الثقافي.
والعقل ليس واحدًا، بل هناك عقولٌ كثيرة. وكلها فعَّالة وليس فقط العقل العاشر. وترتبط المفارقة بالوحدة، وكأن الواحد لا يكون حالًّا، والكثير لا يكون مُفارقًا.
والمُلاحَظ على هذه البراهين أنها تثبُت ببرهان الخُلف، وكأن الموضوع منطقيٌّ صِرف وليس وجوديًّا. كما أنها تقوم على افتراض التسليم بنظرية الفيض وخروج العقل الأول من الواحد، والعقل الثاني من الأول … إلخ. وماذا لو أُنكرَ الفيض، هل يسقط البرهان؟ وهل يقتضي التسليم بالمفارقات التسليم بالفيض بالضرورة؟ ألا يؤدي الخلق إلى القول بالمفارقات أيضًا على الأقل، الله والنفس؛ فبعد إثبات المُفارق الأول يستنبط المُفارق الثاني؛ لأن الفائض عن المُفارق مُفارق؟ وبعض البراهين يقوم في مقدماته على مسلَّمات مثل استحالة الخلاء، وهو افتراضٌ مسبق مأخوذ في البرهان على أنه مسلَّمة. كما يعتمد برهان على إثبات النفوس الإنسانية، وهي لم تثبت بعد؛ إذ يتضمن قفزةً كما تكشف عن ذلك عبارة «على ما سيأتي بعد». وفكرة «التقدم» و«التأخر» فكرةٌ إيمانية خالصة، مثل تقدم النفس على البدن كتقدم الله على العالم في الوجود، أو تقدم البدن على النفس مثل تقدم العالم على الله في المعرفة. وتقوم معظم البراهين على استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية؛ لأن نموذج اليقين عندها هو البرهان الطولي وليس الدائري. والبراهين كلها من نوع إثارة الغبار ثم الشكوى من عدم الرؤية، أو هي براهين افتراضية تبدأ ﺑ «لو»، بحيث يبحث العقل اتساقه مع نفسه، واستنباط نتائج مُتفقة مع مقدماتٍ افتراضية أصلًا لم يتم التثبُّت من صحتها. والبراهين صورٌ شعبية للتوفيق بين مُتعارضَين، المادة والصورة، والحاجة إلى شخصٍ ثالثٍ أعلى غير مُنحاز يجمعهما، وهو العقل المُفارق. وهذا ليس برهانًا عقليًّا، بل صورةٌ إنسانية بدليل لفظ «مُستغنٍ»، وهو لفظٌ إنساني وأسلوبٌ إنشائي وعباراتٌ صوفية مثل «أحدي الذات»؛ مما يدل على أنها ليست برهنةً عقلية، بل تجربةٌ صوفية. وفي نظرية القِدم لا توجد مفارقات؛ لأنها نظريةٌ حلولية.
وتثبت النفوس الإنسانية كعلة لإثبات الأجسام؛ لأن الجسم لا يُثبت جسمًا، والجسم المُطلَق لا وجود له؛ فلا بد من مُقوم، وهو الجوهر، وخاصيته النمو والاغتذاء والإدراك والحركة، وهو النفس. وهناك أربعة براهين لإثبات مفارقة النفوس الإنسانية؛ الأول إدراك المعقولات، والمعقولات معانٍ مجردة، وكل مُدرك يحصل في المُدرك، وكل ما يحدث في الجسم يكون مؤثرًا فيه، ما لا بد للجسم في وجوده؛ فلو حدث معقول في الجسم لما كان معقولًا. والثاني الشعور بالذات، ولو كانت في آلة لِما شعرت بذاتها دون إدراك آلتها، وكان بينها وبين آلتها آلة، ويتسلسل إلى ما يُدرك ذاته. وكل موجود في آلة فذاتُه غيره. الثالث إدراك الأضداد معًا بحيث يمتنع أن توجد كذلك في المادة. الرابع الإقناع بأن العقل قد يقوى بعد الشيخوخة، وإذا كان مُفارقًا لا يفسد بفساد المادة. وهي الحجة المذكورة عند ابن سينا دون الإشارة إلى مصدرها.
وهذه البراهين الأربعة يمكن التساؤل حولَ كلٍّ منها. الأول: هل إدراك النفس المعقولات يجعلها مفارقة، وكيف يتم الانتقال من مستوى المعرفة إلى مستوى الوجود؟ والثاني: هل يعني الوعي بالذات بالضرورة المفارقة والانفصال عن الجسم؟ والثالث: هل يُثبت إدراك هذه الأضداد مفارقتها أم يُثبت فقط معرفتها ووجودها؟ والرابع: ألا تدل قوة العقل بعد الشيخوخة على النضج واكتساب الخبرات وليس على المفارقة، وإلا فما معنى العته عند الشيخوخة والنبوغ في الطفولة والصِّبا؟
وبالرغم من دقة الفكر البرهاني إلا أن السؤال هو: هل يحتاج الإنسان إلى إثبات النفس وهو كائن يتحرك يشعر ويتألم ويفرح ويحزن؟ وهل براهين البعث صورية مجردة فارغة جدلية أم إحساس إنساني، الرغبة في الحياة بعد الموت، والشوق إلى الخلود، وتمنِّي عالم آخر يسوده العدل تعويضًا عن الظلم في الدنيا؟
هناك إحساس عند أبي يعقوب بالجدة لدرجة تقديس النص لأصالته، وهو محمَّل بالدلالات، بالإضافة إلى جمال العنوان، وتقسيم الكتاب طبقًا لبنية الموضوع. وبالرغم من إيجازه إلا أنه يتم الخروج عن الموضوع «لنعد إلى ما كنا في سبيله». يجمع بين البرهان وصفاء النفس. وبالرغم من صعوبة الأسلوب، ودرجته العالية في التجريد الفلسفي، وكلفته في السجع، إلا أنه مملوء بالمصطلحات الفلسفية والقرآنية مثل سدرة المنتهى. الغاية منه توضيح الأُسس النظرية والهدايات العملية.
ويستأنف العامري (٣٨١ﻫ) نظرية الفيض من رباعية إلى خماسية؛ ففي «الفصول في المعالم الإلهية»، ودون حمدلات أو بسملات أو دعوات، مراتب الوجود خمس؛ الله، وهو الموجود بالذات فوق الدهر وقبله. والقلم، وهو الموجود بالإبداع مع الدهر وقرينه. والعرش واللوح، وهما الموجودان بالخلق بعد الدهر وقبل الزمان. والأفلاك الدائرة في الأجرام العُلوية، وهي موجودة بالتسخير؛ أي بالطبع مع الزمان وقرينه. وأخيرًا الأسطقسات الأربعة، وهي الموجودة بالتوليد بعد الزمان وتكوينه. وكلها معانٍ ذاتية للوجود، أو حقيقة الوجود، أو مراتب الأشياء في حقيقة الوجود.
الله هو الأمر؛ أي الصورة الكلية، والعلم العقل الكلي، والعرش الفلك المستقيم، واللوح النفس الكلية؛ مما يُبرز عملية التشكل الكاذب بين الدين والفلسفة على مستوى الألفاظ.
والسؤال هو: ما مدى تدخُّل الإرادة الإنسانية الحرة في هذ النسق الكوني لإفساح المجال لفلسفة في التاريخ تكون جماع القانون التاريخي والحرية الإنسانية؟
وفي «إنقاذ البشر من الجبر والقدر» يُحلل العامري الفعل الإنساني ابتداءً من النفسانيات والأفعال مباشرةً دون المرور بقسمة الوجود، ويُدافع عن حرية الأفعال عن طريق تحليل قُوى النفس.
وينقسم الفعل أيضًا باعتباره أحد مظاهر الوجود إلى الواجب والممكن والممتنع طبقًا لأحكام العقل الثلاثة. وينقسم الممتنع إلى الفاعل والعنصر والمشترك بينهما، كما ينقسم إلى ضروري وإرادي. والضروري إلى قهري كالنبات، وطبيعي كالنار مُتجهة إلى أعلى. وينقسم الإرادي إلى شوقي محسوس وفكري كأفعال الصلاة والصوم. وأفعال الشريعة إرادية فكرية.
(ب) فيض المعارف ونظرية النبوة
والنبوة علاقةٌ مُتبادلة بين الأعلى والأدنى، بين إرسال الرسل والرؤيا والمنامات ثم العودة إلى الله عن طريق العمل الصالح ونيل السعادة في المعاد.
(٢) التاريخ الصاعد (نظرية الإشراق)
(أ) الأدعية الأخروية (الفارابي)
وفي «دعاء عظيم» يظهر الفارابي صوفيًّا يبتهل إلى الله. يُقدم خمسة عشر دعاءً، ثلاثة منها تضم حججًا نقلية على غير عادة الفلاسفة، يتَّضح فيها الدين الصريح المُختفي وراء الدين المؤوَّل؛ أي الحكمة، وكما هو الحال في آخر «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا. ويُشير الفارابي إلى «إخوان الصفا وأصحاب الوفا» ليس بالضرورة إلى الفرقة التاريخية، بل ربما كان المصطلح على الشيوع.
ويصعب تصنيف الأدعية بين الإلهيات والطبيعيات والإنسانيات؛ لأنها كلها تتَّجه نحو التصوف مُخترقةً العلوم كلها إلى الله. وتخلو من الأدعية المنطقية لصعوبة استعمال مصطلحات المنطق في الابتهالات. وكثير منها قيل وقال؛ أي إنها مجرد تجميع من الآخرين حول موضوع واحد هو الأنبياء، وأفكار مُتفقة مع الفارابي، فهو تأليفٌ غير مباشر.
وأحيانًا يتم التوجُّه مباشرةً من الله إلى الإنسان أو من الإنسان إلى الله دون توسُّط الطبيعة؛ لذلك تُستعمل نظرية الفيض والاتصال بالعقل الفعَّال؛ مما يجعله دعاء الخاصة وليس العامة.
وتقوم الأدعية كلها على نظرةٍ ثنائية تطهُّرية بين الله والعالم، النفس والبدن، الكفاية والحكمة، الكفاية تقطع العلائق مع الدنيا، والحكمة لاتحاد النفس بالله. الأولى لقطع العلاقة مع الأرض، والثانية لربطها بالسماء. فالسماء أفضل من الأرض. وتُستعمل لغة النور والظُّلمة والعقل الفعَّال والعقل المُنفعل، والعقل والقوة، والرؤية الصادقة، في مُقابل أضغات الأحلام.
الله هو واجب الوجود، علة العِلل، قديم لم يزل، التوحيد والتنزيه والتفرد بالحدية كما يصف الصوفية، الواجب دون السالب، القمة دون القاعدة، الجوهر دون الأعراض، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. بالآية شعر الطبيعة، ولغة الأشياء، تدل على قصر العلم الإنساني وحدود اللغة البشرية.
وترك الدنيا للهداية والتقوى، وكراهية البدن ومحبة النفس، ورفض الطبيعة وعشق الروح. وتُقهَر الشهوات، ويتم التحول من الفناء إلى البقاء، وطلب الجواهر الشريفة في الجنَّات العالية، ومصير النفس في السماء والمقام القدسي.
والسؤال هو: هل العالم والطبيعة سجن؟ وهل الله سجَّان؟ وبعد السجن يأتي الافتراس، افتراس السجين بالشهوات؛ فالصورة للإنسان السجين المعذَّب الذي تنهش الحشرات لحمه وتلدغه الهوام! والنفس مدانة، والمطلوب تطهيرها من الأوساخ، أوساخ الحس وكدر الطبيعة، مع أن الحس أحد وسائل المعرفة، والطبيعة خيِّرة. ويستجدي الإنسان العصمة، مع أن كل بني آدم خطَّاءون، وخير الخطَّائين التوَّابون، ويستجدي الرحمة، وهو إخلال بشروط التوبة.
والتفسير لآية وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. والعبادة هنا عند المُفسرين التوحيد، تحويلًا للنص إلى تصور، والآية إلى معنًى. وتفسير آية وَمِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا؛ أي خروج الضد من الضد، وليس فقط تفسيرًا صناعيًّا طبيعيًّا في أنواع الشجر. ولفظ الأجر أبلغ لأنه خارج عن الواحد العددي، ومنه وحيد ومُتوحد؛ أي مُتفرد.
وهناك قولان في العلم؛ أنه لا حياء في العلم ولا رياء فيه، وأن العلم يُعطي العزة في النهاية، ولا يأتي إلا بذل في البداية، مع أن التعليم يُعطي الكرامة والإحساس بالعزة في البداية والنهاية. ربما كان المقصود إذلال الشيخ للمُريد حتى يروِّضه على الطاعة، ويُميت إرادته من أجل استقبال الأوامر الإلهية. والعقل لغويًّا من الحبس، حبس الأشياء في مواضعها، عقل اللسان مثل عقل البعير، ويعني كفَّه عن القول.
والعالم الطبيعي ما تحت فلك القمر إلى مركز الأرض. وسُميت الشمس شمسًا والقمر قمرًا لأن الشمس تدنو في الصيف وتبتعد في الشتاء، مثل الدابة الشَّموس التي تقترب تُطيع تارةً، وتجمح تارةً أخرى. والقمر يزداد تارةً وينقص تارة؛ لذلك سُمي المُقامر مُقامرًا.
(ب) الحكمة الخالدة (مسكويه)
وقد اتَّفقت حكمة الشعوب بصرف النظر عن ثقافتها الخاصة على طريق الخلاص، وهي مقامات الصوفية التي يغلب عليها معظمها الطابع السلبي، مثل الشكر والرضا والقناعة والزهد والتوكل والفقر؛ فهي تُمثل الخبرة البشرية عبر التاريخ، الحكمة الواحدة التي انتهت إليها تجارب البشر، الصعود إلى الله، وترك العالم والزهد فيه. فالتصوف هو حكمة البشر وخلاصة تجربة الشعوب؛ أي الهروب من العالم والفرار من الناس، والاغتراب فيه خارجًا عنه، وربما دون العودة إليه.
ومعظمها نصوصٌ مُختارة، أقوال وحوارات وحكايات وأمثال، يقل فيها التحليل العقلي الخالص، أشبه بتأليف الفقهاء والرواة، في حين أن «تهذيب الأخلاق» يعتمد فيه مسكويه على التحليل العقلي الخالص والبرهان الفلسفي، بل إن حكمة الإسلاميين المحدثين أقلها اعتمادًا على الحجج العقلية.
وأحيانًا تتمُّ الإشارة العابرة إلى بعض القيم الأخلاقية، وأحيانًا يتم تفصيلها؛ فمن القيم العابرة الشكر والإخلاص والإنابة والاستسلام واليقين؛ فمن عرف الابتداء شكر، ومن عرف الانتهاء أخلص. ورأس اليقين المعرفة بالله.
والإيمان هو التصديق بما ينبغي أن يُصدَّق به، وهذا التصديق لا يكون إلا بالعقل، ولا يبحث العاقل عما استيقن به من الأمر، ولا يمتنع عن البحث عما شك فيه. ومن أتاه الله سعة في الفهم وقوة في العقل فقد أتاه السلطان الذي يملك به نفسه، ومن ملك نفسه بسلطان العقل قلَّ أسفه على ما فات. وذوو العقل هم أولو الأمر. ولو صُوِّر العقل لأظلمت عنده الشمس، ولو صُوِّر الجهل لأضاءت عنده الظُّلمة. وهو عقل في حاجة إلى تجربة؛ فالرأي أيضًا نابع من التجربة. وقد قيل: خذوا عن أهل التجارب، والأمور لا تصلح إلا بقرائنها.
والطبيعة أمَة العقل، والعقل عبد للمُبدِع الأول عند سقراط. وحياء الإنسان عندما يكون جاهلًا على الكبير أعظم؛ فالعقل مناط العلم، وأعظم لذة محادثةُ العلماء وقراءة كتب الحكمة، ومن صحَّ فِكره أتاه الإلهام، ومن دام اجتهاده أتاه التوفيق.
والعقل والطبيعة قرينان، فإذا كان سقراط ركَّز على العقل فقد أبرز أرسطو دور الطبيعة؛ فالغريزي خلقةٌ انفرد بها الخالق عند أرسطو. والطبيعة هي الحامل للأخلاق، مثل الأدب والعفاف، وهي حامل أيضًا للأدب الصحيح كما يرى أفلاطون والقرآن في سورة الشعراء، ونقده الشعر الكاذب كما نقد أفلاطون الجدليين والخطباء والمُلحنين والمشَّائين والمُلهين واللعَّابين ضروب اللعب. والطريق المؤدي إلى الأدب الصحيح هو حب الجهاد، والبقاء على الحذر والاستعداد، وعين لا تسكن، ولسان لا يفتُر، وإنارة القلوب في الصدور الخَرِبة، ووضع الحكمة فيها، وإماتة الجهالة، الزهد في الدنيا، والامتناع عن شهواتها، والفكر الطويل، والتعجب الدائم، والاعتبار بمن اغترَّ بالدنيا، ومن وقف على حدود التجربة، وبالغني الذي خرج بما ليس له، والفقير الذي حزن على فوت ما يشقى به الغني، والقدرة على إظهار الحكمة في سلطانه، العقل والطبيعة والكمال شيءٌ واحد؛ فالله في العقل وفي الطبيعة وفي النفس.
والإيمان على درجاتٍ ست من أدنى إلى أعلى؛ الخوف ثم الرجاء ثم اليقين ثم الحب ثم الاتصال ثم الاتحاد، جمعًا بين أحوال الصوفية مثل الخوف والرجاء، وبين مقاماتهم مثل اليقين والمحبة. والكفر أيضًا على درجاتٍ ست من أدنى إلى أعلى؛ الزيغ ثم الرين ثم الغشاوة ثم الطبع ثم الخلاف ثم القفل. والاتحاد هو العدول عن الحق إما باللجاج والمعاندة، أو بالعادة والاقتداء بالغُواة من الجمهور، أو بالقصور عن النظر. والفاضل من اطَّرح العناد، وترك تقليد غيره، ونظر إلى نفسه.
والإيمان مقرونٌ بالعمل؛ فأصل الأمر في الدين اعتقاد الإيمان وتجنُّب الكبائر وتأدية الفرائض. الإيمان قدرة على العمل.
والعلم قيمةٌ تؤدي إلى المعرفة واليقين. ومراتب اليقين من أدنى إلى أعلى أربعة؛ تبصرة الفطنة، ثم تأويل الحكمة، ثم موعظة العبرة، ثم سنة الأولين. وقد يكون العالم من أهل الحق أو من فروع الحق أو قصده الحق أو ضد الحق. والحق إما ظاهر يُعرَف بنفسه، أو غامض يُعرَف بالدليل. والعلم مُتنوع؛ فالإغراق في علمٍ واحد ليس من شأن العلماء والحكماء أو السراة والرؤساء، بل الأخذ من كل فن. وإنما يتفرد بعلمٍ واحد من يُحب المِراء والتكسُّب. وهو قول ابن شُبرمة.
والعلم من أمور العباد مع الحلم والعفاف والعدالة. ومن أعمال البر العلم بالسنن، والعمل بإصابة السنن، وسلامة الصدر بإماتة الحسد، والزهد بالصبر. وأربعة أشياء تُقوي على العمل؛ التوفيق والعزم والصحة والغنى. وطريق النجاة إما سبيل الهدى، أو كمال التقى، أو طيب الغذاء.
والقضاء والقدر من نفس النوع؛ فإذا كان الداء من السماء بطل الدواء، وإذا قدر الرب بطل حذر. القدر علة ما هو كائن، والعمل علة ما لم يكن. والدليل على أن القدر حقٌّ أن الأمور تأتي لأهل الجهل بجهلهم، وتمتنع على العلماء بعلمهم، وكأن الحياة عبث. ومن سرور الدنيا الرضا بالقسم والعمل بالطاعة في النِّعم، وعدم الاهتمام برزق الغد، والعالم كله يهتم بالمستقبليات؛ فالقدر هو الفاعل الحق، والفعل الإنساني باطل.
ومع الصبر والقضاء والقدر يأتي الرضا والتوكل والقناعة؛ فمع الرضا يطيب العيش، وأقل الرجال هم أفضلهم رضًا، وأفضلهم رضًا أقلهم غفلةً عن ذِكر الله وفناء الدنيا. وبصدق التوكل يحصل الإنسان على الرزق، ومن عز النفس لزوم القناعة. والتمسك بالقناعة يؤدي إلى رضا البال، والشعور بالرضا يؤدي إلى الوداعة والتسليم بما يقع. والغنى في القناعة، والسلامة في العزلة، والحرية في رفض الشهوة، والمحبة في ترك الطمع والرغبة. والغنى الأكبر في ثلاثة؛ نفس عالم يُستعان بها على الدين، وبدن صابر يُستعان به على الطاعة لله والتزوُّد بها للمعاد يوم الفقر، والقناعة بما يرزق الله باليأس مما في أيدي الناس. والمُقتنع غني وإن جاع وعري، والمريض فقير وإن ملك الدنيا. القناعة الرضا بالقسم. وقد تُحدَّد القناعة سلبًا بإخراج الطمع من القلب.
أما الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فمن القيم الحكمة، لا فرق في ذلك بين حكمة اليونان وفارس والهند والعرب والمسلمين المحدثين. الدنيا دار عمل، والآخرة دار ثواب. وأفضل من المال ومن حظوظ الدنيا الفانية حظوظ الآخرة الباقية، فلا أسف على ما فات من الثراء. حين يحضر المال يغرب العقل، وحين يحضر العقل يغرب المال. الدنيا ذات تصرُّف وزوال، وأهلها رهائن مصائب ومتالف، متاعها قليل، وفناؤها كثير، والعيش زهيد، والتبعة مخوفة. وبين المقبرة والمزبلة كنز الأموال وكنز الرجال. إذا أقبلت الدنيا على الإنسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه؛ لذلك خاف عمر على نفوس الناس عندما نظر في معادهم ووجد المُصدق به أحمق، والمُكذب به هالكًا. كما حذَّر وهب بن مُنبه من سب إبليس علانيةً وصداقته سرًّا. والزاهد في الدنيا من لا يطلب المفقود حتى يفقد الموجود. ورفض الدنيا قبل الالتباس بها أهون من التخلص منها بعد الوقوع فيها.
وتبقى الحكمة بالعمل في العالم الآخر. هكذا أوصى أفلاطون تلميذه أرسطو. وكل ما ينطق به الإنسان فهو مُجازًى به في الدنيا أو في الآخرة، صالحًا أم طالحًا، خيرًا أم شرًّا، سرًّا أم علانية؛ فإن الله لا يخفى عليه شيء. هكذا قال هرمس، مُثلث العظمة بالحكمة والنبوة والملك، قراءة إسلامية للحكمة اليونانية في حكمةٍ واحدة للشعوب.
لذلك كانت أنفع الأمور للناس وأقرها لعيونهم القناعة والرضا، وآخرها وأشنعها عليهم الشره والسخط. وجل السرور بالقناعة والرضا، وكل الحزن بالشره والسخط. وطلب الغنى بالقناعة، وإلا فليس المال مُغنيًا وإن كثُر. هكذا قال هرمس. ولا مال عند من ترك القناعة، ولا خير في الإنسان إن لم يكن قنوعًا. هكذا قال أوميروس الشاعر. والقنية مخدومة. ومن خدم غير ذاته فليس حرًّا. هكذا قال سقراط وعلي بن أبي طالب. ولا يبقى للإنسان في دنياه إلا ذكراه الطيبة عند الآخرين.
وعند العامري اتصال العبد على مراتب أربع؛ المُتقين والمُحسنين والأبرار والصالحين. الأولى نتيجة الخوف، والثانية نتيجة الرجاء، والثالثة نتيجة المحبة، والرابعة نتيجة الإخلاص. وطريقها كلها الاستقامة.
ولا فرق في ذلك بين حكمة اليونان وحكمة الإسلام؛ فوصيَّة أفلاطون لتلميذه أرسطو كلها حِكمٌ إسلامية، أسلوبًا ومصطلحات وفكرًا؛ فهو إبداعٌ حضاري، قراءة الوافد والموروث من خلال الحكمة الخالدة، مثل «اعرف ربك حقه»، «تسأل الله تعالى مالًا يدوم لك نفعه»، «إن الله تعالى لا ينتقم من العبد بالسخط عليه»، سواءٌ قالها أفلاطون أو فيثاغورس أو أرسطو، أو أقوالٌ مأثورة عن الرسول والصحابة والأئمة والصوفية والأولياء. فوصية فيثاغورس المعروفة بالذهبية تعبِّر عن حكمة اليونان وحكمة الإسلام في آنٍ واحد لغةً، الإشراق والينابيع وحلول الله في الإنسان وفي الطبيعة. والقصص القرآني عامل مُوجب، مثل وصايا فيلبس أبي الإسكندر لابنه ساعة الوفاة مثل وصايا يعقوب لابنه ووصايا لقمان لابنه. ومشاهد القيامة مثل رؤيا يوحنا ومعاد الإسلام. وسؤال سفنكس «ما الخير، وما الشر، وما الذي ليس بخير ولا بشر؟» يقوم على قسمةٍ عقلية منطقية أخلاقية إسلامية؛ فالحضارة اليونانية حضارة توحيد وعدل كما تصوَّر المعتزلة. وحكماء اليونان فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو مثل أنبياء الإسلام، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.
وقليل من القيم في حكمة الشعوب هي التي تدعو إلى الثورة والغضب والدفاع عن مصالح الناس، والسعي في الأرض والكد والكدح في الدنيا، ومعظمها منسوبة للجاحظ من حكمة الإسلاميين. فالحزم ضد التوكل. والحذر كل الحذر من أن يخدع الشيطان الناس عن الحزم، ويحث على التوكل، والإحالة إلى القدر؛ فقد أمر الله بالتوكل عند انقطاع الحيل، وبالتسليم للقضاء بعد الأعذار كما ورد في الكُتب المنزَّلة وسنن الأنبياء.
وقد نقد عمر بن الخطاب المُتوكلين وسمَّاهم المُستأكلين؛ فالمتوكل هو الذي يُلقي الحبة في بطن الأرض ويتوكل على ربه. الفعل له، والانفعال للطبيعة. المبادرة له، واستمرارها للقانون. والتناصر عز، والتوكل مذلة، كما قال أكثم بن صيفي، والبطالة نذالة.
وباستصلاح المعاش يصلح أمر العباد. وأحسن الأمور عند الله أحسنها عند الناس؛ لأن الله لا يأمر إلا بالحسنى، ولا ينهى إلا عن القبيح؛ فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند لله حسن كما أقرَّت الملكية، ولا يخاف الإنسان ظلم ربه، ولكن يخاف ظلم نفسه. وكان عمر يشكو إلى الله بلادة الأمين، ويقظة الخائن.