ثالثًا: التاريخ الأفقي
إذا كان التاريخ الرأسي يقوم على ثنائية السماء والأرض، الله والعالم، النفس والبدن، الخير والشر، الآخرة والدنيا، البقاء والفناء، هذه الثنائية المُتطهرة المُتعارضة التي يُقضى فيها لأحد الطرفين على الآخر بالضرورة، فإن التاريخ الأفقي يقوم على ثنائية التقدم والتأخر، الأمام والخلف، القيام والقعود، النهضة والسقوط، المثال والواقع، وتحقيق كلمة الله في الأرض والوحي كنظامٍ مثالي للعالم. خطوة نحو بزوغ فلسفة التاريخ.
وقد مثَّل ذلك قصص الأنبياء، سواء عند أهل السنة الذين يتوقَّفون على خاتم الأنبياء، باستثناء الصوفية الذين يُضيفون رمز الولاية خالد بن سنان كما هو الحال عند ابن عربي، أو عند الشيعة الذين يُضيفون الأئمة باعتبار أن الإمامة وريثة النبوة، والقائم خليفة النبي.
(١) قصص الأنبياء ودورات التاريخ
وحكم قص أنباء الرسل استشهاد بقول الحكماء، وهي سبعة؛ أولًا إظهار النبوية ودلالتها على الرسالة؛ أي المعرفة التاريخية من أميٍّ وليس عن طريق الأسفار والثقافة الشعبية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية. ثانيًا تثبيت الفؤاد؛ أي تحويل الوعي السياسي إلى وعيٍ تاريخي، واكتشاف التاريخ الماضي كحقل تجارب للحاضر والمستقبل؛ فالمعرفة تتحقق في التاريخ، وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ. ثالثًا ذكر درجة الرسول؛ فالرسول علامة على انتقال التاريخ من مرحلة إلى مرحلةٍ دون تشخيص الرسالة في الرسول، وَكَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا. رابعًا عِبرة للأمة؛ أي تذكُّر وتيقُّن من صدق المعرفة بالتصديق الداخلي. خامسًا تعلُّم الوحي بأحوال الأنبياء، وصعوبة الفصل بين الرسالة والرسول تأكيدًا على الوحي الذاتي، وبعيدًا عن المصادر التاريخية. سادسًا الأُسوة الحسنة في الأنبياء السابقين؛ أي تطور النبوة في خطٍّ واحد هو جهاد السابقين، والنموذج القدوة في السلوك. سابعًا بيان النِّعم على الأمة الظاهرة مثل تخفيف الشرائع، والباطنة مثل تضعيف الصنائع كمصدر للأحكام العملية.
والفرق بين الرسول والنبي أن الرسول شارع، في حين أن النبي حافظ شريعة غيره. الرسول يعمُّ البشر والملك في حين أن النبي للبشر فقط. كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا. كما أن فائدة الرسل معرفة الشريعة وإنزال الكتب ومعرفة الحقيقة جمعًا بين النظر والعمل.
وهناك فرقٌ بين أُولي العزم من الرسل وبين الرسل الآخرين. ويعني العزم عقد القلب مسبقًا بخلاف القصد الذي يُقارن الفعل. والنية مثل العزم لا تُفارق بل تتقدم. العزم إرادة فعل الشيء.
وأُولو العزم من الرسل إما سبعة؛ نوح وإبراهيم وإسحاق وأيوب ويعقوب ويوسف وشعيب، أو خمسة؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وإما أربعة؛ نوح وإبراهيم وهود ومحمد. وأصحاب الشرائع ستة بإضافة آدم. والحقيقة لقد استقرَّ الأمر عند المتكلمين أن أولي العزم ستة؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. ويُضيف الشيعة القائم.
(أ) الأنبياء والرسل، آدم وإدريس
وينتهي نسب هود إلى نوح، وكأن النبوة مُتعاقبة في الذرية. وبُعِث على شريعة نوح، وهي شريعةٌ عامة وشاملة وباقية بالرغم من التطور التاريخي للأحكام. هي شريعةٌ أخلاقية أكثر منها تشريعات اجتماعية.
ولوطٌ اسمٌ عربي، من اللؤط أي اللزوق؛ إذ إن حبه لاط بقلب إبراهيم. والشائع أيضًا أنه من اللواط الذي استشرى بقومه، وهو أيضًا نوع من اللزوق. نسبه يمتدُّ إلى إبراهيم؛ فالنبوة لا تخرج من الذرية عكس مفهوم القرآن لها. أرسله الله إلى خمس مدائن، وهي المؤتفكات. لم يؤمن به أحد، ولم يرتدع قومه عن القبائح.
وإسماعيل وإسحاق ولدا إبراهيم. وعند أكثر المُفسرين أن الذبيح إسحاق، وعند البعض الآخر إسماعيل طبقًا للروايات اليهودية أو العربية. والأظهر أنه إسماعيل بناءً على حديث «أنا ابن الذبحَين»؛ أي إسماعيل وعبد الله أبوه برؤيا عبد المطلب جده.
ويوسف عند أكثر العلماء اسمٌ عبراني أو عربي من آسفه أي أغضبه، كما في آية فَلَمَّا آسَفُونَا؛ أي أغضبونا. وقد نزلت سورة يوسف عندما طلب المسلمون سورة لا يكون فيها أمر ولا نهي، بل مجرد أخبار القرون الماضية لتسلية القلوب؛ فطاقة البشر على الأمر والنهي محدودة. والإنسان يودُّ التمتع بالقص وإثارة الخيال من أخبار السابقين. وقد تكلَّم شاهد يوسف وهو صغير، كما تكلَّم ولد ماشطة فرعون وصاحب جريح والراهب عيسى.
وأيوب من نسل نبي بالضرورة؛ فالنبوة لا تكون إلا ذرية. الشريعة شريعة إسحاق. قد يكون أصله روميًّا لأنه بُعث في أرض الشام، والشام مستعمَرةٌ رومانية.
وشعيب ينتسب إلى إبراهيم في مدينة مدين كما وردت في أحاديث الرسول، ويمتاز بحسن الجوار.
وقد أوصى الخضر موسى ضد اللجاج، والمشي بغير حاجة، وبالضحك من غير عجب، وضد تعيير الخاطئين، والبكاء على الخطيئة. وقد سُمي الخضر كذلك لأنه إذا صلَّى في موضعٍ اخضرَّ مكانه. والموضوع أسطوري خالص؛ مما يوحي بأنه ربما يكون العمل كله مُنتحلًا على الفارابي؛ فلا هو أسلوبه ولا فكره، مجرد تصوُّف من مصادر مُتعددة فارسية وإسرائيلية مباشرة، أو من خلال المُفسرين مثل عكرمة.
وإلياس من نسل النبي. الخضر إلى البحار، وإلياس إلى الفيافي تقابلًا بين الماء واليابس، يجتمعان معًا كل عام أيامًا في موسم الحج، ويراهما الصالحون؛ مما يدل على الرؤية الذاتية وليست الموضوعية. وهما باقيان إلى يوم النفخ في الصور، مع أن الكل ميت بما في ذلك محمد، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. لما عصاه قومه خرج، ولحِق بشواهق الجبال يعبد الله، يأكل من نبات الأرض وثمار الأشجار خمس سنين، ثم هرب من قومه حيث صدُّوه، فاستقبلته دابة على صورة فرس من نار، وربما على صورة أسد، فركبها ومرَّت كالريح. جعله الله إنسيًّا ملكيًّا، صورة الإنسان وطبيعة الملائكة، وهي صورة إليا في التوراة مع بعض أساطير الإسراء والمعراج.
واليسع مرتبط بإلياس، كان قبل دخوله الغار من تلامذته، تابعًا له، وأعطاه من الصوف منصبًا له خليفة في القوم، وركب الدابة وغاب، ودعا اليسع قومه إلى الله بالرغم من غيابه، من بقايا صور الإمام المنتظَر.
وذو الكفل استمرار لقصة إلياس واليسع؛ فقد استخلفه اليسع فيما أمره إلياس في عبادته ودعوته. وسُمي كذلك لأنه تكفَّل عن اليسع عمله؛ الصوم بالنهار وقيام الليل والقضاء بين الناس دون غضب أو عجل.
وينتسب داود إلى يعقوب. خصَّه الله بالنبوة والحكمة والملك وتسخير الجبال، والطير يُسبحن معه، والصوت الطيب، وإلانة الحديد، وصنعة الدروع. لم يأكل إلا من عمل يده. وبسط العدل، والسلسلة التي يعرف بها المُحق من المُبطل، رمز التعادل، كِفَّتا الميزان، ثم أظهر المكر والخديعة بعد أن رفع الله السلسلة؛ أي نهاية العدل. القوة في العبادة وشدة الاجتهاد، وأنزل الله عليه الزبور بالعبرانية، مائة وخمسون سورة، كله مواعظ وحِكم دون حلال أو حرام، ولا حدود ولا أحكام؛ فالأخلاق والحكمة سابقة على الحدود، الداخل قبل الخارج، والأخلاق قبل القانون. أكرمه الله بفصل الخطاب؛ أي بيان الكلام أو علم الحكم والبصيرة في القضاء، وربما القضاء بالبينات والإيمان. وكان له سبعة عشر ابنًا.
وابنه سليمان أعظم ملكًا منه وأقضى، وداود أشد تعبدًا؛ ربما لقصة سليمان مع ملكة سبأ. وهو لا يختلف في ذلك عن داود، وقتله الضابط وأخذ امرأته. ولا يوجد استشهاد بقرآن أو بحديث مع أن المادة وافرة فيهما. وقد ورث سليمات داود، وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ، في حين أن الرسول قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ولا نورث.» فالأنبياء لا يرثون دراهم ولا دنانير.
ويونس ابن متى، وهي أمه. ولم يُنسَب نبي إلى أمه إلا يونس وعيسى ابن مريم. كان من عادة القوم قتل النبي إذا ظهر كذبه، فلما لم يأتهم العذاب في الميعاد الذي أوعدهم يونس خشي أن يقتلوه، فخرج من غير أمر لقلة الصبر على قومه والمرارة لهم، وهو ما نهى عنه الله وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ؛ فالغاية من توالي الأنبياء الاستفادة من تجاربهم؛ لذلك أقرَّ الإسلام عدم إعطاء موعد في الدنيا، عدم تحرُّك النبي بلا أمر، والصبر مع القوم ومداراتهم.
وعزير في صورة المسيح دخل القدس على حمار، ومعه عصير في زق، وسلة من عنب وتين، كما دخل المسيح في يده غصن زيتون أو سعف نخل. يُحيي الموتى مثل المسيح. أماته الله مائة عام مثل أهل الكهف، لم يتغير العصير والعنب. أما الحمار فقد تحلَّل وبقي عظامًا بيضًا. وسُمع صوت يجمع العظام البالية فبُعث الحمار، وأول ما أحيا الله من عظام عزير عينه في رأسه، وجعله ينظر إلى عظام نفسه، ذاتًا وموضوعًا، إلى أن كُسي باللحم. وهي آية على إحياء الموتى. آيته أنه كان ابن أربعين سنة، وابنه مائة وعشرون عامًا. وربما كانا أخوَين توءمَين وُلدا وماتا في يومٍ واحد. الأول أربعون عامًا، والثاني مائة وأربعون عامًا. فما دلالة هذه الأرقام؟ وقد ذُكرت القصة في القرآن أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ، قال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ، وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
وزكريا من أبناء ملوك بني إسرائيل بدايةً بالنسب طبقًا لعادة الساميين، عربًا وعبريين. ولا يهمُّ زمان البعثة لأنها تحط مثالي. وربما غاب الهدف منها والقصد ووضعها في مسار تاريخ النبوة؛ لذلك ظهرت النبوات مُتتاليةً مُتجاورة دون تواصل قصدي بينها.
(ب) الملائكة والرسل والأصحاب والأقوام
ومع الأنبياء أُولي العزم يُذكَر بعض الملائكة والرسل والأصحاب والأقوام على علاقة بالنبوة أو أنبياء مباشرون. فمن الملائكة هاروت وماروت، معلقان في غار ببابل على رأس بئر، وكانا في زمن إدريس. بالنهار بشر، وبالليل ملائكة. استوجبا العذاب باقتحام الشهوات، والميل إلى امرأةٍ اسمها زهرة، فاختارا العذاب في الدنيا على العذاب في الآخرة. وهو تصورٌ شعبي رمزي قد لا يتَّسق مع تصور الملائكة؛ فالملائكة لا يُخطئون لأن ليس لديهم إرادة حرة وعقل يُميزون به بين الحسن والقبح، بل هم خيرٌ محض، مضطرُّون إليه. لا شهوات لهم ولا يتناسلون، ولا يُعاقَبون ولا يُجازون. ليسوا أنصاف بشر أو أنصاف ملائكة طبقًا للنهار والليل، ولا يليق التعليق على بئر بالملائكة.
وقد أرسل الله رسلًا ثلاثة إلى أنطاكية طبقًا لآية إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ. منهما توءمان؛ بولس وشمعون. دخلا أنطاكية ودعوَا الناس إلى الله فحبسهما الملك، فعلِم شمعون مقدم الحواريين وجاء لعونهما، وتوسَّل إلى الملك وتقرَّب إليه بمعرفة الكتب فأحضرهما، وسألهما أمام الملك عن إحياء عيسى للموتى والبرهان على ذلك، فأتيا بميت لم يُدفَن بعد، وهو ابن حبيب النجار، وكان من خيار المُوحدين سرًّا، فأحيا الله الميت بدعائهما، فحضر الحبيب وسأله ابنه أمام الملك عما يرى، فأخبر أنه يرى شابًّا في السماء الرابعة يدعو لهؤلاء الثلاثة، ويلتمس من الله حفظهم. فخلَّى الملك سبيلهم، فلما خرجوا من عند الملك همَّ الناس بقتلهم، وقالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ، زجرهم الحبيب، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى، فقتلوه. وقد قال النبي: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، خربيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم.» وواضحٌ الأصل النصراني مع التأويل الشيعي.
وكالب مجرد اسم علَم مع نسبه، خليفة موسى. أحسن الخلافة حتى مات، واستخلف ابنه في أمور الشريعة حتى مات. وهي قصةٌ سطحية لا دلالة لها إلا من تحويل النبوة إلى ملكٍ وراثي. وهو غير مذكور في القرآن، ولكنه وافد من الإسرائيليات.
وحزقيل هو الذي أحيا الله بدعائه الخارجين حذر الموت بعد أن وقع الوباء في الأرض، وخرج الناس هاربين فماتوا كلهم، ثم مرَّ بهم حزقيل فدعا لهم فأحياهم الله بدعائه. وهو مذكور في القرآن على العموم، وفي الإسرائيليات على الخصوص. ولو أراد الله الخصوص لذكره بالاسم. إحياء الموتى ليس بجديد في اليهودية، والمسيح ليس بدعة نظرًا لإنكارهم إحياء الموتى، فجاء الأنبياء بهذه المعجزة باستمرار.
أما لقمان فكان عبدًا حبشيًّا، نجارًا، عتقه مولاه فنام نومةً أُعطيَ الحكمة بعدها، فانتبه يتكلم. مرَّ عليه قومٌ يُعظمهم، واستعجبوا منه وهو النجار، وسألوه عن سبب حكمته، فأجاب بأنها صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعني الفرد.
أما الأصحاب فهم أصحاب الكهف، وأصحاب الرقيم، وأصحاب الفيل، وأصحاب الرس، وأصحاب الأخدود، وأصحاب خروان. فعلامات التاريخ ليست فقط الأنبياء، بل أيضًا الأهل والأقوام والشعوب والجماعات. وقد تكون جماعة من الأتقياء مثل أهل الكهف، أو من الأشقياء مثل أصحاب الفيل وأصحاب الرس وأصحاب الأخدود وأصحاب خروان وقوم سبأ؛ فأهل الكهف قصة مذكورة في القرآن أكثر غنًى وتصويرًا مما هو وارد عند الفارابي. هم فِتية من أبناء الملوك في سماط دقيانوس الملك؛ أي إنها قصةٌ حديثة نسبيًّا ربما من النصارى. هجروا أوطانهم هربًا من ظلم الملك وقسوته باحثين عن ملكٍ قديم بِرُّه عميم. مكثوا نائمين جسدًا، يقظين روحًا، وألبسهم الله لباس المهابة. وفي الخيال الشعبي أنهم ناموا بالفعل دون مهابة غير حالقي الذقون؛ فهم ليسوا أنبياء، بل أتباع الأنبياء، أتقياء يفرُّون من المظلم، وينتظرون تغير الزمن؛ فثبتوا هم وتغيَّر الزمن.
وأصحاب الرقيم تكرار لقصة أصحاب الكهف مع مزيد من التجسيم؛ فالترقيم لوح من الرصاص فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، فعيل بمعنى مفعول، وقيل اسم لوادٍ فيه الكهف. وكانوا ثلاثةً خرجوا يرتادون لأهلهم إذ أصابتهم السماء، فأوَوا إلى كهف، فانحطَّت صخرة من الجبل، فانسدَّ باب الكهف. وهي مجرد قصة مُصمَتة خالية من الدلالة المباشرة.
أما أصحاب الفيل فقد عزم ملك الحبشة على خراب الكعبة كي يصبح بيته مَزارًا للناس، فأرسل جنده ورئيسهم أبرهة مع الفيلة. فلما وصلوا جبال تهامة أُخبرَ عبد المطلب جد النبي بقدوم أبرهة، فخرج واعظًا له أن لهذا البيت حافظًا يحرسه. فلم يسمع للنصح، وقصد هدم الكعبة، فنزلت آية وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ؛ أي جماعات بعضها وراء بعض، كزرعٍ أُكِل حبه، وبقي لبُّه، أو كحبٍّ أُكِل لبُّه وبقي قشره.
وأصحاب الرس بقية قوم وهود وصالح، نزلوا إلى البئر، وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، وكل ركيَّة لم تُطوَ بالحجارة فهي رس. عمروها وشيَّدوا القصور وكثُرت لهم المواشي. وكانوا يعبدون الجواري والعذارى. فإذا تمَّت ثلاثين يقتلونها ويستبدلونها. بعث الله لهم ثلاثين نبيًّا في شهرٍ واحد فقتلوهم جميعًا، فأرسل لهم نبيًّا وأيَّده بنصره حتى انتقم، ثم أرسل الرياح إلى مواشيهم حتى هلكت، وأرسل جبريل حتى أيبس كل بئر وعين لهم، فماتوا، وعددهم ستمائة ألف، عطشًا. وهي قصةٌ شعبية قد تكون مصادرها عربية أو عبرية لا تصمد أمام النقد العقلي، مثل قتل ثلاثين نبيًّا في شهرٍ واحد، وانتصار نبي واحد مِغوار بدافع الانتقام، وهلاك المواشي مع أكثر من نصف مليون إنسان.
أما أصحاب الأخدود فقد أمر ذو نواس الملك بحفر شق بنجران ناحية اليمن، وأوقد فيه النار، وأحرق من آمن بربِّ صبي عرف الله بتعريفه إياه، ثم قتل الصبي بالسهم. فقد عرف الصبي الله معرفةً فطرية، ومصدرها قصٌّ عربي قديم.
وفي النهاية يدل هذا القصص، المفكَّك عند الفارابي، على أن قصص الأنبياء لم يتحول بعدُ إلى فلسفةٍ غائية في التاريخ، بل هو مجرد قصص مُتجاورة مُتراصة بعضها بجوار بعض لا دلالة عامة لها، ولا غاية نهائية منها. تخلط بين المصادر العربية والعبرية والفارسية، بين القصص الشعبي والقصص القرآني. ولا يتبع القصص ترتيًبا زمانيًّا أو رؤيةً بنيوية، بل تُعنى فقط باشتقاق الأسماء وبالذرية والنسب، وتحديد المواقع الجغرافية، وإجراء المعجزات، وبيان التدخل الإلهي. يغلب عليها التصوف والإيمانيات والإشراقيات، وليس الدخول في العالم والالتزام بقضاياه. وكان من الصعب على المنطقي الفيلسوف، خادم بلاط سيف الدولة، أن يحوِّل قصص الأنبياء إلى تاريخ الثورات على الظلم والطغيان كما حاول حكماء الشيعة، وعلى رأسهم أبو يعقوب السجستاني.
(٢) النبوة وتاريخ الكون (السجستاني)
الهدف من إثبات النبوات هو إثبات التاريخ؛ فلا تاريخ بلا نبوة، ولا نبوة بلا إله، ولا إله بلا عالم؛ ومن ثَم وجب إثبات النبوة أولًا ضد المُنكرين لها لأنها تقوم على المعجزات، ولأنها يمكن أن تُدرَك بالتعليم والاجتهاد، ولأنها تقوم قياسًا على المحسوس مع إغفال المعقول.
وطرق إثبات النبوة ثلاثة؛ طريق الحشوية، والذي يقوم على الروايات والأخبار دون التثبُّت من صحتها، سندًا أو متنًا، ودون التحقُّق من صدقها. وطريق التقليد، وحججه ضعيفة تقوم على التسليم وليس على البرهان. وطريق البرهان قبول الحقائق من النبي والتصديق بها والتحقق من صحتها. وإثبات النبوة بالعقل والنفس، بالتصور والمخيلة، شيءٌ طبيعي؛ فالنبوة وظيفةٌ معرفية، اتصال بين عقلَين، في حين أن إثبات النبوة بالطبيعة هو تحويلها إلى تاريخ، وهي الإضافة الجديدة للسجستاني. وإثباتها بالبراهين جديد أيضًا جدة البراهين. وهي أربعة؛ في الألفاظ المنطقية أي اللغة، وفي التراكيب أي القضايا، وفي النفس، وفي الآفاق وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وأيضًا سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ.
(أ) التفاوت في الوجود
ويظهر هذا التفاوت في الثنائيات الأخلاقية المعروفة، الفضيلة والرذيلة، الصدق والكذب، العدل والجور، الحق والباطل، الأمانة والخيانة، البر والفجور، العلم والجهل، الحلم والغضب، الخير والشر، الشجاعة والجبن، الكرم والبخل، العفة والشره … إلخ، وكما هو الحال في أحوال الصوفية.
وقد يدرك بعض المُتفاوتين مرتبة غيره؛ فكل مراتب الوجود تقوم بوظيفة واحدة بالرغم مما بينها من تفاوت، مثل الألحان المُتفاوتة في النغم الكلي العام؛ لذلك يدرك كل نبي مرحلتَين؛ المرحلة السابقة عليه، والمرحلة التالية له.
وهو تفاوت في الأخلاق وفي الفضيلة، وليس في العُرف أو الطبقة والنسب. هو تفاوت في ممارسة الحرية والسبق في تحقيق الدعوة وأداء الأمانة.
وفي صورةٍ أعم للمراتب شعبها تشمل معرفة المبدع الطبيعيات والرياضيات والنفس. ويرتبط العقل بالحس، ويتجاوزه إلى النفس، ثم إلى الاستشهاد والاعتبار والاستدلال. والمنطق كله أخلاقٌ ثلاثية بين الشيء وتجربته وضده، إيجابه وسلبه. وحسن التركيب هو بناء البدن، وحسن التدبير العمران والإنسان المدني وعلاقته بالطبيعة.
وأفضل المُتفاوتين من البشر هم الرسل. وهنا تبدأ فلسفة التاريخ بالمعنى الدقيق، تفاوت الرسل أي تفاوت مراحل التاريخ، وتفاوت الفضل في الرسل هو تفاوت المراحل بين السابق واللاحق، المتأخر والمتقدم.
هناك تفاوت في الأنبياء، في اختيار الإنسان؛ فالعلة التي يختار من أجلها الله بعض عباده للرسالة ليعبِّر مما صوَّر الروح الأمين في قلبه من علوم الملكوت بلسان القوم المختلفين عن قبوله، فيجري ذلك في مسامعهم، فيكون بسط العدل ووضع الشيء في موضوعه. وهو معنى تمام الحكمة وأصل العدل. الرسالة علاقة شعور بشعور، شعور الله بشعور النبي بشعور متلقِّي الرسالة؛ أي المكلَّف من أجل تحقيق الحكمة والعدل، ومن الذهاب إلى إطلاق صلاح الناس إلى تنظيم المجتمع وإقامة الدولة. فإذا قام قائم في بعض الأدوار تجمع الناس تحت شريعة واحدة لم يتردد أحد في اتباعه، ولم يشك في سلطة، فيكون في ذلك دوم الصلاح لهم في المعيشة.
والأنبياء وإن كانوا في غاية الفضل إلا أنهم مُتفاوتون فيه، وهو ليس فضلًا شخصيًّا أو كونيًّا، بل مرحليًّا في مسار التاريخ. فالتفاوت على ثلاثة وجوه؛ تفاوت مع اتفاق، ومعرفة المؤمنين اختلاف الشرائع، واتفاق الماهية. وعبور المراحل من أول الدور إلى آخره؛ أي الإيمان بكل الأنبياء. الأول لليهودية، والثاني للمسيحية، والثالث للإسلام، على ما يبدو من طبيعة كل مرحلة؛ مما يسهِّل مقارنة الأديان والحوار فيما بينها.
والتسخير تسخيران؛ تسخير طبيعي مثل إنزال الأمطار، وتسخير إرادي وهو إرساله الأنبياء. ولا يوجد أحدٌ دبَّر سياسة البشر سياسةً عامة غير الرسل.
(ب) إثبات النبوة الطبيعية
(ﺟ) إثبات النبوة النفسية
وهذه الواسطة بين الخالق والمخلوق هو العقل حتى قبل لنبوة؛ فالعقل رسول بالمعنى المجازي، وهو القادر على التوسط بين العالمين، بين الروح والطبيعة، بين الذات والموضوع؛ فالالتزام بالعقل هو التزام بالنبوة. وهو مثل قول المعتزلة إن الناس مُتعبَّدون بالفعل قبل الشرع. وقوام العقل هو الأمر والنهي؛ أي الفعل الأخلاقي. وهو فضل على المأمور به وتكريم له مثل النطق.
وقد تكون الواسطة عند الحيوان هي الأعضاء؛ فالوحي عام للإنسان وللطبيعة، والأمم كثيرة من الجن والإنسان، الحيوان والإنسان؛ فالأعضاء أول رسول من الطبيعة إلى الحيوان. فالواسطة نوعان؛ جسماني للحيوان، وإنساني للإنسان. فطُرُق الوحي ثلاثة؛ الرسول مثل وحي محمد، والوحي المباشر مثل وحي عيسى، والتستُّر من وراء حجاب مثل وحي موسى. ومن ثَم فإن عبادة الله من غير واسطة الرسل في العالم الجسماني باطلة. المُتعبد كالمريض، والعبادة مثل الطب والرسول.
الحكمة علم وعمل، وكذلك النبوة. والعمل في الحكمة سياسة العامة مثل الأعياد، وسياسة الخاصة مثل تأديب الرجل لأهل بيته، وسياسة خاصة الخاصة، سياسة المرء مع نفسه. وكذلك الأمر في النبوة. والعلم عند الحكماء علم الطب والصناعات للعامة، وعلم التنجيم للخاصة، وعلم اللاهوت لخاصة الخاصة. وكذلك النبوة للعامة، وهي معرفة الأبدان، المنافع والمضار، وللخاصة معرفة السموات والنجوم والأرض، ولخاصة الخاصة معرفة الله والملائكة.
وتثبت النبوة من جهة الحفظ. ويثبت الحفظ بإثبات الحافظ؛ إذا بطل الحافظ بطل الحفظ، وكأن الحفظ يتمُّ بعاملٍ خارجي وليس بعاملٍ داخلي، بالحفظ الذاتي مثل الصدق الذاتي. فإذا ما بقي الحفظ بعد غياب الحافظ كان أيضًا حفظًا صريحًا، وكل حفظ آخر يكون مجازًا بالقياس له؛ فقد حُفظت النبوة بوجود النبي، ثم لم تبطل بعد غيبته، بل حفِظها المشاركون له في النوع، واجتهدوا في الحفظ. وهو أشبه بحفظ الكتاب المقدَّس عند النصارى المشروط بحفظ الكنيسة له، وليس عن طريق التواتر. ومثل ذلك الحفظ في اللوح المحفوظ الذي نُقشت به كل الكائنات التي كانت وتكون إلى نهاية الزمان.
ويقبل الرسل الرسالة من المُرسِل عن طريق الخاطر في النفس، ثم التعبير عنه بألسنة قولهم وبلغاتهم. المعنى من الله، واللفظ من النبي. وبين الخاطرات واللغات مناسباتٌ روحانية ومشاكلاتٌ نفسية سمَّاها الفقهاء «أسباب النزول» قبل تحويل الواقع الاجتماعي إلى ظواهر نفسية.
ويتأكد الناطق بأن اللفظ الذي اختاره النبي مُطابق للمعنى الذي قذفه الروح الأمين في القلب من صناعة الأشياء ليبلِّغه إلى الأمة، فيتأكد الاصطلاح الموضوع ودلالته على الزمان؛ فالناطق هو المفسِّر المُجتهد الفقيه المجدِّد لمعاني الألفاظ طبقًا للحاجات المُتغيرة لكل عصر ومفاهيم الخير والشر والتحليل والتحريم، والدلالة بالكل على الأجزاء، مثل ا ل ل ﻫ التي هي مجرد حروف مُتفرقة، ولكنها مجتمعةً تدل على الله.
النبوة إذن في حاجة إلى واسطة؛ فالمقبول إما عن طريق الوهم بالخاطرات والتفكر في خزائن العقل أو عن طريق السمع بالكلام. ويبطل طريق السمع لأن المُتكلم في حاجة إلى مُتكلم إلى ما لا نهاية، ولا ضرورة لنبي لأن الأمة قادرة على السمع. إذن لا بد من القبول بالخاطرات. وهي نوعان؛ خطرات الرسل التي قد تتعرض لسوء المزاج، وخطرات الأم وهي مقدَّسة. فالرسل ليسوا معصومين في حين أن الأمومة كذلك. وهذه هي الطُّرق الثلاثة التي وصفها القرآن؛ الوحي أي السابق، ومن وراء حجاب أي التماهي مثل حي بن يقظان بين الطبيعة والعقل، وإرسال الرسول وهو الناطق.
- (١)
في الإبانة عن التفاوت الموجود في المخلوقين.
- (٢)
في أنه لما ثبت أن لهذا العالم صانعًا حكيمًا وجب أن يكون منه رسول إلى المصنوعين.
- (٣)
في إثبات النبوة من جهة الأشياء الطبيعية.
- (٤)
في إثبات النبوة من جهة الأشياء الروحانية.
- (٥)
في أن الأنبياء كانوا مُتقفين في الحقائق وإن كانوا مُختلفين في الظواهر.
- (٦)
في كمية أدوار النطقاء وما بين كل دور والدور الآخر.
- (٧)
في العجائب الموجودة في القرآن والشريعة والدالة على إثبات نبوة محمد.
معرفة المبدع | العقل | المنطق | حسن التركيب | حسن التدبير | إرسال الرسل | البقاء |
---|---|---|---|---|---|---|
العلة والمعلول | الاعتبار | العلم والحكمة الإحاطة، الجهل | الدماغ، التمييز | في الأبنية | وقوع الرغبة | البعث |
العدد والمعدود | الاستشهاد | العدل الأمانة الجور | القلب، السياسة | في الصناعة | وقوع الأمان | الصراط |
البسيط والمركب | ترك ما لا بأس به | العفة القناعة الحرص | الكبد الشهرة | في الملابس | وجوب المجاملة | الميزان |
التفات | استعمال ما به الحس | الجود، الإفضال البخل | الرئة النفس بالمنطقة | في الحروب | لزوم القصاص | الحساب |
النفس | إنكاره على الحس | الشجاعة العقوبة الجن | الطحال الضحك | في النبات | ذكر المبدع | الجزاء |
رموزات النفس | بشارته للنفس | الرحمة العفو القسوة | المرارة اللون | في الحيوان | حجر الأفعال | التحليل |
البراءة من التعطيل | إفادته للنفس | الصدق الوفاء الكذب | الكليتان الأحلام | في العلوم | رسوخ المحبة | شرف الجزاء |