خامسًا: الضرورة والحرية
بعد التصورات الثلاثة للتاريخ، التاريخ الرأسي والتاريخ الأفقي والتاريخ الدائري، يمكن صياغة فلسفة التاريخ كجزءٍ مكمِّل لعلوم الحكمة في صياغة إشكالات رئيسية فيها مثل الضرورة والحرية، خصائص الشعوب، قيام الدولة وسقوطها، قوانين التاريخ، تاريخ الحضارة. ويمكن أيضًا الاستمرار في نفس تصنيف التصورات المختلفة للتاريخ مثل التاريخ الشعوبي، التاريخ السياسي أو التاريخ الحضاري. وخشيةً من نمطية التقسيم تم تفضيل الطريقة الأولى، وجعل باقي تصورات التاريخ مُتضمَّنة فيها.
(١) أنواع الضرورة
(أ) الحتمية الجغرافية
وقد تكون الأقاليم أربعة أو ستة عشر عند الفيثاغوريين مثلًا، إلا أن الأكثر شيوعًا هو أن الأقاليم الجغرافية سبعة، وعلى أساسها تنشأ الجغرافيا البشرية، وبينها خطوطٌ وهمية تمَّ وضعها.
وتتحكم الكواكب في تكوين الجنين؛ فالتدبير في الشهر الثاني من فعل المشتري، وهو كوكب الاعتدال، وسبب النظام والترتيب، ودليل العقل في الإنسان، والفهم والتمييز في العلم والروية والعفة والدين والورع والتقوى والعدل والإنصاف والعفة والزهد؛ أي خصال الملة التي تؤدي إلى السعادة. وفي الشهر الرابع تظهر الخصال التي يحتاج إليها الملوك والرؤساء وأتباعهم، وتدبير سياساتهم، وقبول خصال النبوة والملك والفضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية. وفي السادس معرفة علم الدين والكلام والأقاويل في الورع وأحكام الشرع ومواعظ الناموس ووصف العدل وبيان الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر المعاد ووصف أحوال الآخرة، وبعث الأنبياء، وهم أطبَّاء النفوس. ثم يصير المولود في تدبير المشتري اثني عشر شهرًا، وهو صاحب الدين والورع والإنابة، والزهد والعبادة، والرجوع إلى الله بالصوم والصلاة.
وتتحكم الكواكب في البيئة الاجتماعية مثل الدهاقين جمع دهقان، وهم المُكدون أو التجار أو المُتسولون، وزعماء الإخلاص العجم ورؤساء الأقاليم. كما تتحكم في النُّظم السياسية ومناصب الناس ملوكًا ووزراء وأولياء عهد. كما تتحكم في المواهب، شعراء وخطباء.
ويتخصَّص كل كوكب في قطاعٍ اجتماعي في بنيته المادية أو المعنوية، الجغرافيا الطبيعية والدين والسياسة والفن والعلم؛ فزحل كوكب الطبيعة والعمران، سبب حدوث الأنهار والجبال والبراري والأجسام والعذران والشوارع والطرقات وحدود البقاع. والمشتري يتعلق بالدين والسياسة، سبب حدوث المساجد والهياكل والبِيع ومواضع الصلوات، وبقاع القرابين، وعلة اجتماعات الناس في الجُمع والأعياد، وتعلُّم أحكام النواميس، وقراءات الكتب النبوية، والتفقُّه في الدين، والحكومة عند القضاة والحكام. والمريخ كوكب الحرب والصناعة والسياسة، سبب حدوث مواقد النيران، ومذابح الحيوان، ومعسكر الجيوش، وأماكن السباع، ومواضع الحروب والخصومات، وعلة اجتماعات الناس والنبات والجواهر المعدنية. والزهرة كوكب البساتين واللهو والجمال والفن، وسبب مواضع المتنزهات ومجالس الطعام والشراب والفرح والسرور واللذة والمناظر الحِسان، واجتماعات الناس والنبات والحيوان. وعطارد كوكب الأسواق والعلوم والكتاب ومواضع الصناع ومجالس العلماء ودواوين الكتاب وجموع القصَّاصين ومناظرات العلماء، ومنازل الملوك والسادات صعودًا، ومواضع السحق والسقوط والحبوس هبوطًا.
ويزيد عدد مدن الأرض وينقص بحسب موجبات أحكام القرانات وأدوار الأفلاك؛ فالقرانات دالة على قوة السعد، واعتدال الزمان، واستواء الطبيعة، ومجيء الأنبياء، وتولية الوصي، وكثرة العلماء، وعدل الملوك، وصلاح أحوال الناس، ونزول الغيث، وتزكية الأرض والنبات، وتوالد الحيوان، وعمران البلاد، وكثرة المدن. وبالقرانات الدالة على قوة النحوس يفسر الزمان والنطق، وينقطع الوصي، ويقل العلماء، ويموت الأخيار، ويجور الملوك، وتقسو أخلاق الناس، وتسوء الأعمال، وتختلف الآراء، ويمتنع نزول الغيث. فلا تزكو الأرض، ويجف النبات، ويهلك الحيوان، وتخرب المدن في البلاد.
وتظهر النبوة طبقًا للأقاليم السبعة. تظهر في المناطق المعتدلة، في الإقليم الثالث. فضيلة الاعتدال ليست فقط جغرافية، بل أيضًا نبوية إلهية؛ فأكثر الأنبياء من السحر؛ أي الإقليم الوسط بين الشمال والجنوب لأن الطرفَين ناقصان، البيض من أسفل، والزنج والحبشة من أعلى لأن أخلاقهم وحشية. وقلَّما يعتدل مزاج أهل البُلدان الجنوبية من الحبشة والزنج والنوبة وأهل السند والهند. الحرارة في الداخل عند البيض، وفي الخارج عند السود. إذا اجتمعت الخصال في واحد من البشر في دور من أدوار القرانات في وقت من الزمان، يكون هو المبعوث وصاحب الزمان والإمام. فهل يظهر الأنبياء بالقرانات أم باحتياجات الأمم وقوانين التاريخ بناءً على أسباب النزول؟
وقد وصلت الحتمية الجغرافية إلى حد أن كل ما في العالم من خير وشر، صلاح وفساد، إنما هو ناتج عن قرانات الكواكب. ويحدث قرانٌ كل خمسة وعشرين عامًا، فتظهر دولة عند بعض الأقوام والأمم، ويقوى بعض السلاطين، ويخرج بعض الخوارج، وتُجدَّد بعض الولايات، كل ذلك من أثر المريخ! وهل دورات الأفلاك هي المُتحكمة في دوران الحضارات؟ وهل تنهار الأمم بعوامل خارجية، دوران الأفلاك وقراناتها، أم بعوامل ذاتية، أخلاقية واجتماعية وسياسية؟ ويُبين لفظَا الأكوار والأدوار بأنه لا فرق بين دورات الطبيعية والتاريخ، والقران بالحدث الذي منه تبدأ الدورة وتنتهي، لا فرق بين الحدث الطبيعي والحدث البشري. ونشأة الدول وانهيارها، وهو الموضوع الرئيسي لفلسفة التاريخ، حالة مثل حالات الطبيعة، لا أثر فيها لحركات الشعوب أو مبادرات الأفراد والإدارات الحرة، الفردية أو الجماعية؛ فالدول مثل المعادن والنبات والحيوان، تتحكم فيها الكواكب، خاصةً المريخ الموكول له قضايا الحرب والسلام. وماذا تبقَّى من المسئولية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والحساب والعقاب، لو كان ما يقع في الأرض بالأكوار والأدوار والقرانات؟ حتى انقطاع الوحي بقران وليس بإرادة الله. قد يعني القران في هذه الحالة قانون التاريخ أو اكتمال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة. وفي هذه الحالة يصبح القران ليس قرانات الكواكب في السماء، بل جدل التاريخ والإرادات البشرية على الأرض.
وبالرغم مما يُوحي به لفظَا الأدوار والأكوار من التصور الدائري للتاريخ كما هو الحال عند السجستاني، إلا أنهما يُشيران إلى أدوار وأكوار فلكية، قرانات في الماء وليست على الأرض، أو على أقصى تقديرٍ قرانات في السماء لها آثار على الأرض؛ وبالتالي الانتقال من الجغرافيا إلى التاريخ، ومن الفلك إلى البشر، ومن النجوم والكواكب إلى المجتمعات والدول، ومن السماء إلى الأرض، ومن الله إلى الإنسان؛ فتاريخ البشر جزء من تاريخ الكون، والتاريخ الإنساني جزء من التاريخ الطبيعي.
وكل ذلك مُرتبط بعلم الفلك القديم، ويستعصي فهمه الآن. وتقوم على حتميةٍ كونية كما وضح في علم الكلام الأشعري. ولماذا لا يحدث طبقًا للقرانات إلا ٣٤٫٢٠٠ قرانًا مع أن الحوادث أكثر من ذلك، والبشر الآن ما يزيد على ستة مليارات؟ ويمكن اشتراك أكثر من شخص في قرانٍ واحد. ألا يؤدي القول بالقرانات إلى تناقض؟ فإذا كانت هناك حتميةٌ كونية إذ لا يحدث شيء إلا وله قران، إذن يمكن معرفة الحوادث والتنبؤ بها، وهو ما يتناقض مع معرفة الله المسبق بها وعلم الغيب. فإذا دخلت القرانات في العلم الطبيعي، ألا يكون ذلك تضحية بالعلم الإنساني وبالإرادة الإنسانية؟ هل القرانات تنظير لآية وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ على نحوٍ كوني؟ وقد يكون هذا شركًا بالله؛ لأن الله يفعل من خلال الأفلاك ولا دخل للإرادة البشرية في كلتا الحالتَين. ولماذا لا يكون ذلك دوراتٍ طبيعيةً بين الحياة والموت، واليقظة والنوم، وتأقلم الإنسان مع البيئة الطبيعية؟ وما دور الفلك والطبيعة والإنسان في المسئولية عن وقع الحوادث الطبيعية والتاريخية؟ وإذا كان دوران الأفلاك أكرم الأفعال وأشرفها، وغرضها أشرف الأغراض، أليس هذا أنسنةً للطبيعة وإسقاطًا لمقولة الشرف عليها؟ وإذا كان في الأرض صلاح وفساد، خير وشر، فما مِقياس وقوع هذا أو ذاك بالقرانات ما دام العقل القادر على التمييز والإرادة الحرة القادرة على الاختيار ليسا عاملَين في وقوع الأفعال؟ وما الذي يجعل القران سعيدًا أو نحسًا والإرادة البشرية والقصد الإنساني غائبان؟
صحيحٌ أن التاريخ عبرة وعظة؛ لذلك يذكر الإخوان المستجيبين بحوادث الأيام وتغيرات الزمان والخطوب والحدثان، وما تدل عليه دلائل القران من تغييرات شرائع الدين والمِلل، وتنقل الملوك والدول، من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن أهل بيت إلى أهل بيت؛ فاجتمع رأيهم، وارتفعت كلمتهم على أنه لا بد من كائن في العالم فيه صلاح الدنيا، وهو تجديد ملك في المملكة، وانتقال الدولة من أمة إلى أمة، وأن لذلك دلائل واضحة عُرفت بفراغ العقول وتجارب الأمور، واعتبار تصاريف الزمان فيما مضى من الحدثان، وما يُعرَف منها بالزجر والفأل والكهانة والفِراسة، وبدلائل المُتحركات من النجوم والمنامات مما تدل عليه من الكائنات قبل أن تكون. والسؤال هو: هل يُعرَف التاريخ بالزجر والفأل والكهانة والفِراسة؟
(ب) الحتمية التاريخية
دورات التاريخ إذن صراع بين الخير والشر، وتحويل قيم الأخلاق إلى قوانين التاريخ. وتبدأ دولة الخير من جماعة الإخوان؛ فالإخوان لهم دور في التاريخ، لهم غايةٌ عملية ورسالة. وتقوم دولة الخير في مُقابل دولة الشر بناءً على توجهٍ قرآني صريح أو ضِمني، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. تنهار الدول بانهيار القيادات، وتنشأ بنشأتها؛ فللزعامة دورٌ حاسم في نشأة الدول وانهيارها.
- (١)
حدوث تغيُّر فجائي علمي عن سببٍ إلهي أو طبيعي بقوةٍ تأتي وتذهب سريعًا؛ أي النداء أو الصحوة. وهو أقرب إلى النبوة أو الإلهام أو الكشف العلمي بالمعنى المعاصر؛ فالتاريخ هو التاريخ الثقافي أو العلمي أو الحضاري بوجهٍ عام.
- (٢)
اتساق الأمور واطرادها ومجيئها ووقوعها على موافقة التنقل أطوال، ولو في دقائق الأشياء وخسائسها فضلًا عن جلائلها وعظائمها، مثل طعام شهي يُقدمه الطاهي للملك أو الأمير دون طلبه؛ فصغائر الحوادث تكون سببًا في عظائم الأمور.
- (٣) ما يحدث في أخلاق النفس المُوافقة للرياسة، المُعِينة المُقوية عليها بعلو الهمة والنُّبل والجود، وقلة مهابة الأكْفاء، وفضل الرأي وإجادته، في حين أن التاريخ أيضًا قد يتحرك بالأخلاق المضادَّة؛ الخداع، والحيلة، والعُدوان، والغرور، والقتل، والتوسع، والعنصرية، كما هو الحال في الاستعمار الغربي والصهيونية الغربية الحديثة.٢٤ ربما أراد الرازي تأليف هذا الكتاب الصغير للتقرًّب من بعض أفراد زمانه؛ وبالتالي يكون النقد الموجَّه إليه في السيرة الذاتية صحيحًا. والعنوان من وضع ابن أبي أصيبعة، وذكره البِيروني تحت عنوان «في فنونٍ شتَّى»؛ مما يدل على أن التاريخ لم يكن قد ظهر بعدُ كوعي بالتاريخ، وذلك مثل مقال الكِندي «في ملك العرب وكميته». إنما ميزة الرازي أنه لا يُشير إلى أحكام النجوم كما فعل الكِندي وإخوان الصفا، وهي إمارات وعلامات إيجابية في قيام الدول والإمارات، وقد تكون أيضًا علاماتٍ سلبيةً في انهيارها؛ فهي علاماتٌ مُتشابهة، وهي علامات للإمارة والأشرف والأعظم؛ أي للإمامة الكبرى؛ أي الدولة. ويمكن أن تكون أيضًا علامات للإمارة الصغرى؛ أي إمارة أو رئاسة مثل الإمامة الصغرى.
- (٤)
عِشق الرياسة وفرط محبتها في أن الملك أو الأمر لا يرى شيئًا إلا بها، ولا يهمُّه أمرٌ سواها؛ فذلك يدل على أنه مهيَّأ لها؛ لأن الطبيعة لا تفعل شيئًا باطلًا، ولا تترك قوةً عاطلة. فإذا كانت الرياسة طبيعية، فلمَ تجاوز الطبيعة بما بعد الطبيعة؟ ألا تؤدي الرئاسة وحدها إلى أبشع أنواع النُّظم التسلطية؟ وهل الرياسة أقرب إلى الطبع أم المشورة والاحتكام إلى الناس؟
- (٥)
ما يحدث له من الحِلم والتؤدة في الأمور التي فيها لبس وشبهة؛ لأن ذلك يدل على أنه محروس من ركوب الخطايا والوقوع في الزلل، وأنه مُجرًى به إلى إدراك حقائق الأمور؛ فالحلم سيد الأخلاق، والسيطرة على الموقف بعيدًا عن الانفعالات سبيل النجاة. والسؤال هو: هل هذا سمة للنفس ورؤيةٌ سياسية، أم قوةٌ خارجية تدفعه وتحرسه؟ وهل هذا صدق ووعي سياسي أم إنه تواضع مفتعل يُخفي جنون عظمة، وهو أمرٌ يُخفي وراءه العاصفة كما هو الحال لدى كبار المُعتدين؟
- (٦)
فضل صدق ودقة حس النفس والادكار والتخمين على ما كان له؛ فإن ذلك يدل على أنه مُسدَّد مُوفَّق بقوةٍ إلهية تجري به إلى أن يكون فاضلًا ورئيسًا سائسًا؛ لشدة حاجة الرئيس والسائس إلى فضل وعلم، واستغناء المَسوسين عن مثل ذلك لانتساب أمرهم إلى السائس واكتفائهم بسياسته. العلم والفطنة للرئيس، واستغناء المرءوسين عن ذلك اكتفاءً بالرئيس المُلهَم الذي يُفكر للناس وبدلًا عنهم.
- (٧)
الميل إلى موافقة الخلطاء والأصحاب والأعوان، والمحبة لصلاح أمورهم باستجلاب موداتهم وخلوصهم له، وتسخيرهم وربطهم بها لنفسه. ومن ذلك ألا يتفرَّقوا عنه، وألا يُضمروا له سوءًا، وألا يروا العيش إلا معه وبه. وينتج عن ذلك صِدق مجاهدتهم الأعداء، وبذلهم أنفسهم دونه؛ فالحكم لا يكون إلا ﻟ «شلة» أو جماعة مصلحية أو ضاغطة أو نسب أو قرابة أو زمالة. والسؤال هو: ما الضامن للشللية والعصابة من ألا تنشقَّ على نفسها، أو تتضارب مصالح أفرادها، أو الانقلاب على الرئيس والتخلص منه إن أراد كبح جماحهم؟ ما الضامن لعدم نشأة مركز قوي، بل وتسليمه للأعداء أو التآمر عليه إن وقف ضد مصالحهم؟
- (٨)
إقبال الخدم والأصحاب عليه، وفضل إجلالهم ومهابتهم له من غير أن يكون حدثت له في ذلك الوقت حالةٌ ظاهرة تُوجب ذلك من مزيد في رتبة، أو زيادة في إحسان أو إساءة. وهو تصورٌ قديم. وخدم اليوم هم أصحاب المصالح أو المُبررون السياسيون والموظفون الأيديولوجيون من المثقَّفين ورجال الدين، وهم في الغالب من الانتهازيين وبطانة السوء.
- (٩) خلو القلب من الضغائن والأحقاد التي كانت في نفسه على أكْفائه وأجلَّة أصحابه وخلطائه فضلًا عليهم، وأنه ممن يجب أن يسوس ويستصلح لا ممن يستفسد، تنظيرًا غير مباشر لآية وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. والسؤال هو: ما الضامن؟ ألا تظل الضغائن والأحقاد في نفوس البطانة والجماعة المحيطة به انتظارًا للتخلص منه؟ ألا يمكن مقابلة الأخلاق المسيحية بالأخلاق اليهودية؟
- (١٠)
ميل النفس إلى العدل توطئة وإرساء قواعده، والبعد عن الوهن والتضعضع، وانعزال المُناوئين والمُضادين، وإجلالهم إياه ومستحقهم إلى مثل حاله؛ فالعدل أساس الملك. وهو عدلٌ مَشوب بالقوة لمقاومة المُناوئين للحكم، والخوف من منع المعارضة والمشورة والنصح.
والفارابي هو فيلسوف الإنسانية الذي غلَّب العامل الإنساني على العامل الإلهي على نحوٍ مباشر، وحلَّل الإنسانية والأمم والمدن وأشكال التجمعات الأولى تحليلًا وصفيًّا «وضعيًّا»، وكأنها من فعل البشر والتاريخ. وفي مُقابل ذلك أعطى للملك أو الفيلسوف أو النبي أو الإمام ما أعطاه القدماء لله؛ فالمدينة الفاضلة لديه هي المدينة الإلهية، هي نظرية الفيض منقولةً من الصلة بين الله والعالم إلى الصلة بين الإمام والمدينة.
فإذا كان الكمال لا يتمُّ بالفرد وحده أو الفرد الاجتماعي، فإنه يتم من خلال الإنسانية كلها والتاريخ البشري كله. يجتمع البشر في المدن مثل اجتماع الأجسام في العالم؛ فالمدينة أو الأمة مثل العالم.
وتختلف الأمور الإرادية في الزمان والمكان، ومن أمة إلى أمة، بالرغم من أن العقل واحد يُمثل الإنسانية كلها؛ مما يدل على ضرورة وجود شيء واحد خارج النفس كعنصر ثبات، بالرغم من عدم وجود مُفارقة في الأمور الإرادية؛ فالواحد العام في النفس وهو العقل، والواحد في الطبيعة، مفارق للطبيعة، وهو المبدأ الأول تنظيرًا للموروث، الله عند المتكلمين. وتُقاس الأمور الإرادية في الزمان بالساعة واليوم والشهر والسنة والحقبة والمدة الطويلة، وهو ما ينتهي إلى التاريخ؛ فالتاريخ امتداد للساعة، وكل الزمان امتداد لأقل الزمان.
ويعلم الملك العلوم النظرية بالطُّرق الإقناعية أو التخييلية؛ أي بمثالاتٍ مشتركة عند جميع الأمم. ويستعمل الأقاويل الانفعالية لإذعان الملوك المُشاغبين والنفوس المُعاندين.
(٢) نشأة الحضارة الإنسانية
(أ) نشأة اللغة
هذه هي موسيقى الكون، النفحات السماوية التي تذكِّر النفوس البسيطة بعالم الأرواح ونعيم الجنان، مثل تلاوة القرآن وقراءة الإنجيل وإنشاد مزامير داود. والسماء أيضًا مسكونة عند فيثاغورس، وهو توجُّه قرآني عن لغة الكون والأصوات الكونية، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
والنشأة الثانية للغة في التحوُّل من الصوت إلى الكلام. في النشأة الأولى كانت النفس سارية في الهواء، مُتصلة بقوة النور والضياء، تُدير الأمور الجسمانية، وتؤلف الطباع الأرضية، وكانت روحانيات الكواكب مُتصلة بعالم الهواء؛ فهم سكان الأرض قبل آدم. ولما انتهت هذه النشأة بالقدرة على هذا النحو ابتدأت النشأة الثانية بإبراز الصورة الإنسانية، خلق آدم وحواء من الطين. وبعد حركة الكواكب في الأبراج بمشيئة الله، ألهم الله عطارد صاحب المنطق النطق، ونطقت حواء، وعلَّم آدم الأسماء كلها، وأيَّده بوحيه وإلهامه لما تاب عليه بما فيه صلاحه وصلاح ذريته، توجهًا قرآنيًّا من آية وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؛ فاللغة توفيق وليست اصطلاحًا. وصف كل شيء بصفته، وتسميته باسمه لتقابل الاسم مع الشيء. الله علَّم آدم الأسماء، وعطارد أنطق حواء. يُعلم الله الرجل مباشرةً، ويُعلم الرجل المرأة في تصورٍ ذكوري لتطور التاريخ.
والسؤال هو: كيف يتم كل شيء بإرادة الله وبحركة الكواكب وفي نفس الوقت بالأصوات الطبيعية التي تجعل لنشأة اللغة علتَين، أولى وثانية، وهو ما يُعتبر شركًا؟ كما أن نشأة اللغة منذ خلق الله العالم في النشأة الأولى، ثم خلق آدم في النشأة الثانية، ثلاثة آلاف سنة في الدورة الأولى، وهي فترةٌ وجيزة؛ إذ إنها تُقدَّر بملايين السنين الضوئية.
وبدأت اللغة في النشأة الأولى شفاهًا، ثم في النشأة الثانية تدوينًا. وفيها بدأت اللغة بنشأة النفس وخلق آدم، خليفة الله في الأرض، مُتكلم فصيح ناطق، روح شريفة، أفضل الأشكال، وأحسن الصور، وأصفى الطبائع، وأعدل الأمزجة، سيد الحيوانات كلها. سجدت له الملائكة، وعلَّمه الله الأسماء كلها. علَّمه تسع علامات هي الأعداد من ١–٩، وهي تُطابق حروف الهند؛ المنطقة التي نزل بها من الجنة.
وتشكُّل الفلك هو أحد الأسباب في تحوُّل الأصوات إلى حروف، والشفاهي إلى تدوين؛ نظرًا للحاجة إلى كتابة الأخبار الماضية؛ فالإنسانية لها تاريخ يمكن للقصص والذكريات أن تفي به. وكلام الملائكة يُكتَب في النفوس. لم تكن هناك حاجة إلى التدوين في البداية نظرًا لبساطة الحياة الاجتماعية، وعدم حاجتها إلى اقتصاد وحساب. فلما تفرَّق البشر وتعدَّدت الشعوب نشأت الحاجة إلى التدوين لمعرفة أخبار بعضهم البعض. وكلما اتَّسعت الحضارة وعمَّ العمران ظهرت ضرورة الكتابة، واتسعت الحروف من تسعة إلى ثمانية وعشرين حرفًا. وهو العدد التام الذي يُطابق تعدُّد الأشياء، كما أنه يُطابق عدد منازل القمر وأعضاء الإنسان؛ مما قد يوحي ببعض التعسُّف في قراءة الطبيعة.
وتطوَّرت اللغة. واللغة العربية آخر اللغات تطورًا، كما أن الإسلام آخر الديانات تطورًا، وكما أن الأمة أفضل الأمم نظامًا. تطوَّرت اللغة من الهند إلى العرب مرورًا بالسريانية ثم الرومية ثم الفارسية. وأهمية اللغة العربية قراءة كتاب الله. والسؤال هو: هل السريانية أول اللغات الشفاهية، واليونانية أول اللغات المدوَّنة؟ هل السريانية أول الأصوات، واليونانية أول الحروف؟ هل السريانية للدين، واليونانية للفلسفة، والعربية للاثنين معًا؟
وتنتقل اللغات بالطبيعة أو بإلهام من الله، تتطور أو تُنسَخ كما تتطور وتُنسَخ الشرائع. وقد تنتقل الدول أي الملوك من لغة إلى لغة؛ وبالتالي من حضارة إلى حضارة. ويأخذ كل قوم لغتهم بحسب ما اتفق لهم من مواليدهم. ويُلاحَظ أن العوامل الفعَّالة في نشأة اللغة وتطورها بالإضافة إلى الطبيعة المستقبلة لكل العوالم، الأفلاك من أعلى، وهي أجسامٌ إلهية شفَّافة، والملوك والأنبياء بوحي من الله، والحكماء بإلهام من أسفل، الإنسان المُتفرد العبقري بإلهام من الله. فالله هو الفاعل في الطبيعة من الجهتَين العُلوية والسفلية.
ثم يتم الانتقال من اللغة إلى المعرفة؛ من اللفظ إلى المعنى أولًا، ومن المعنى إلى الإدراك الحسي للبرهان ثانيًا. المعاني في الألفاظ كالأرواح في الأجساد، ولا وجود لأحدهما دون الآخر. اللغة علم الدلالة بالأصوات؛ أي بالكلمات؛ فالحركات مثل الإشارات للعين أو الأصوات للأذن. والكلام إما غير مفيد أو مفيد، وهو الإخبار في جهة المجهول. والخبر يكون غير دال أو دالًّا. هو كل قول قابل للتصديق عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل. وهو خبر أمو استخبار على مستوى النظر، أو أمر أو نهي على مستوى العمل. وصيغ الاستخبار والأمر والنهي ليست بها كذب، وكأن العمل خارج التصديق النظري، مع أنه لو كان أمرًا مستحيلًا لكان بها كذب بمعنى تكليف بما لا يُطاق، وكذلك الاستخبار عن شيء لا وجود له؛ فالصدق والكذب ليسا نظريين فحسب، بل أيضًا عمليان، وليسا في المدح والذم فقط، بل في الفعل والترك.
يبدأ الإخوان بعلم الأصوات في النشأة الثانية للغة بعد النشأة الأولى في عالم الأفلاك. ولا يُشخصون الأصوات الطبيعية كما تفعل الحشوية، بالرغم مما في النغم من دلائل على حالات النفس بين الفرح والحزن. وهو إبداعٌ مستقلٌّ خالص، جماع الوافد والموروث. ومن خلال اللغة الشفاهية والمدوَّنة يبدأ بتاريخ الحضارات الذي يعبِّر عن خصائص الشعوب.
(ب) نشأة الملة
الملة هي الدين عندما يتحول إلى شريعة في مجتمع؛ أي الدين الاجتماعي. فالملة والدين مُترادفان، وكذلك الشريعة والسنة مُترادفان يُطلَقان على جزئَي الملة. وقد تكون الآراء المقدرة أي العقائد أيضًا شريعة؛ وبالتالي تكون الملة والشريعة والدين مُترادفات. الملة آراء وأفعال، نظر وعمل، عقيدة وشريعة. الملة تحديد آراء وتقدير أفعال. الملة أساس العلم المدني. وقد تكون الملة حقيقة بالاسم وهو الحق، أو مثالًا مُحاكيًا له وهو مثال الحق. الأول يقين بنفسه، بعلم أول أو ببرهان، والثاني تخييل وإقناع وتأثير. وبدون هذه الوجوه الثلاثة لليقين تكون الملة ضلالة.
تختلف المِلل فيما بينها في أمم ومدنٍ فاضلة، وتتوحد كلها في الغاية، وهي السعادة؛ أي الحكمة. فالملة بطبيعتها مُتكثرة، والحكمة واحدة. الملة رسوم وخيالات في النفوس تختلف باختلاف الطبائع والأمزجة والعادات، في حين أن الفلسفة عقليةٌ خالصة لا خلاف عليها بين الأمم. وبالرغم من توالي الأديان، واحدًا بعد الأخر، فإن روحها واحدة، والثاني يسير على نهج الأول. هناك استمرارية في تاريخ الأديان، واتصال في تطور الوحى. ويجوز للاحق تغيير شريعة السابق طبقًا للأصلح ومسار التغير؛ فتاريخ النبوة أحد مصادر فلسفة التاريخ كما هو الحال في علم أصول الدين.
(١) دوران التاريخ | الملك والدول | ١٠٠ سنة |
(٢) نظم الحكم | من أمير إلى أمير | ٢٤٠ سنة |
(٣) الملوك | فتن وأشخاص | ٢٠ سنة |
(٤) الكوارث | الأمراض والعلل | سنة واحدة |
(٥) الحوادث | أحداث واستقبالات | كل شهر وكل يوم |
(٦) المواليد | المواليد | كل دقيقة وكل ثانية |
(٧) الأمور الخافية | حفيات الأمور | كل ثانية |
وعلى هذا النحو ج مع الإخوان بين علم الأصوات Phonetics وعلم تركيب الجمل Syntax وعلم اجتماع اللغة Social Linguistics وعلم سياسة اللغة Political Linguistics وعلم تاريخ اللغة Historical Linguistics وعلم لغة الأخلاق Moral Linguistics، كما هو الحال في علم اللغة الحديث في الغرب. وكتب الإخوان فيه عدة رسائل مطوَّلة، مثل الرسالة السابعة عن الطبيعيات (٩٤ص)، والرسالة الثامنة عن الحيوانات (٢٠٠ص)، وتهذيب الأخلاق (٩٤ص)، والرسالة الأولى من القسم الرابع عن اختلاف الآراء (١٧٨ص)، والأخيرة عن السحر (١٨١ص).
العضو | الحاسة | الموضوع | الآية |
---|---|---|---|
الأذن | السمع | الفلك | وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. |
العين | البصر | النار | إِنِّي آنَسْتُ نَارًا. |
الأنف | الشم | الهواء | إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ. |
اللسان | الذوق | الماء | لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ. |
اليد | اللمس | الأرض | فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. |