سابعًا: تاريخ العمران
ربما تبلغ ذروة فلسفة التاريخ في تاريخ العمران السياسي والاجتماعي، وذروة الذروة في قيام الدول وسقوطها، وهي التي تُحدد مراحل التاريخ. ولا يوجد وصفٌ مباشر لدورات التاريخ بين القيام والسقوط، بل بطريقٍ غير مباشر عن طريق التاريخ السياسي، وصف الدولة وخصال السلطان كما فعل مسكويه، أو عن طريق التاريخ الاجتماعي وصف تطور المجتمع ثم انهياره كما فعل ابن خلدون.
(١) التاريخ السياسي
لما ارتبط قيام الدول وسقوطها بطبيعة نُظُمها السياسية، أصبح التاريخ السياسي هو مسار التاريخ. ويتجلَّى التاريخ السياسي في الوعي التاريخي العام قبل أن يتحول إلى وعيٍ سياسي خاص كما هو الحال عند الكِندي، وكان يمكن لهذا التاريخ السياسي أن يدخل في فصل الاجتماع والسياسة، ولكنه كان أفضل في فلسفة التاريخ؛ لأن السياسة هنا ليست مقصودة لذاتها، بل لأنها أحد أسباب قيام الدول وسقوطها؛ أي «الحراك السياسي»، وليست السياسة كنُظُم للحكم؛ أي «الثبات السياسي».
(أ) الوعي بحركة التاريخ
(ب) الوعي السياسي بالظلم
ثم تحوَّل الوعي التاريخي الخالص عند الكِندي إلى وعيٍ تاريخي سياسي عند إخوان الصفا، إما صراحة أو في رسائل رمزية مثل رسالة «الحيوان». وهي من الطبيعيات إلا أنها رسالةٌ سياسية بالأصالة عن شكوى الحيوان من طغيان بني الإنسان، من الظلم والقهر والطغيان الذي يُعانيه الحيوان من الإنسان؛ فسبب انهيار الدول هو الظلم والجور، وسبب الثورة وقيام الدول الجديدة هو العدل والمساواة.
وإذا كان طغيان بني الإنسان مع بعضه البعض فالأولى طغيان الإنسان على الحيوان، ما فعله فارس في الروم، وما فعلته الروم في فارس، وما فعلته الهند بالسند، والسند بالهند، والحبشة بالنوبة، والنوبة بالحبشة، وما يفعله العرب والأكراد والأتراك بعضهم ببعض، لا فرق بين مولًى وعبد، سيد ومسود؛ ومن ثَم تسقط حجة تكريم الله للإنسان بالخلافة على الأرض، وتسخير الطبيعة له بما في ذلك الحيوان للركوب، والطعام والسكن والزينة والدفء.
وهل السياسة وصايا مثل وصايا الملك لوليِّ عهده مثل وصايا لقمان لابنه؟ وهل النصائح تُجدي أم تغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للسلوك البشري؟ فالأفراد في بيئةٍ اجتماعية، والسلوك نتيجة التوتر بين مُتطلبات الواقع ومُقتضيات المعيار. وهي نصائح عامة للناس جميعًا ليست للسلطان وحده؛ ومن ثَم لا توجد خصوصية في التعامل مع السلطة السياسية.
(٢) الدين والسلطة والجنس
فإذا وجبت الطاعة له فإنها تجب أيضًا للسلطان. لله التعظيم والشكر، وللسلطان الطاعة والنصيحة. خير الملوك أشكرهم لله، وأقضاهم بالحق، وأرأفهم بالرعية، وأحسنهم نظرًا فيما يُصلح البلاد ويُعمرها. ولا يتم ذلك إلا بالعقل. وأحق ما يفرح به الملك الخيِّر الذي يُصاب منه، وما احتاط فيه للرعية بسبب ما يستوجب به منهم الشكر، ومن الله الأجر والمثوبة. فشكر الله وشكر السلطان واجب. الله قاهر عادل، وكذلك السلطان المستبد العادل. القاهر العادل في الدين، والمستبد العادل في السياسة. قامت السموات والأرض على العدل، والعدل أساس الملك. وأجفى وأصعب الأشياء السلطان الصائب ذو القلب القاسي. وتجري الأمور بمشيئة الله إذا كان الفيلسوف ملكًا، أو كان الملك فليسوفًا؛ فالإرادة الإلهية واجبة في حال الملك والنبوة.
والإيمان بالله والإيمان بالسلطان واحد، والثقة بالله والثقة بالسلطان ثقةٌ واحدة؛ إذ لا ينبغي لأحدٍ أن يشكَّ في أربع خصال؛ واحدة في التسليم له، والثانية العمل بالخير، والثالثة ألا يستقيم ملك إلا بشريعة، والرابعة قضاء الملوك. وتقوى الله وتقوى السلطان شيءٌ واحد؛ إذ ما ظفر الناس ملوكهم وسوقتهم بشيءٍ أعظم وأسعد وأزين وأجمل من تقوى الله وتعظيمه، وتصغير النفس، والإقرار له بالعزة، ولأنفسهم بالذلة. فمن حسنت نيته، وخلصت سريرته، ودامت طلبته، ظفر بمعرفة ما يحقُّ عليه لله، ولزم التقوى؛ إذ اتبع سنة الله في عدله وحكمته. البنية النفسية واحدة؛ العزة لله وللسلطان، والذلة للنفس. ويعرف الوالي رضا الرب عنه ما رضي الله عنه ما لا يدع لذَّاته وهواه، ولا يترك لشهواته في إصلاح رعيته وبسط العدل فيهم ورفع الظلم عنهم. وإن أعظم ما أنعم الله على خلقه في ابتدائهم بالخلق نعمتان؛ الرسول الهادي الذي لا يُصاب الدين إلا من قِبله، والثاني الوالي العادل الذي لا تصلح الدنيا إلا عليه؛ فعدل الوالي من عدل الرسول من عدل الإله في الخلق. والسرور الذي يغتبط به الملك ما كان معه رجاء لحسن معاده، وما سوى ذلك مطروح من ذوي الألباب. ونور الدين يجعل لذوي السياسة مركبًا، ونور التنزيل يجعل للحكماء مركبًا، ونور الإلهام يجعل لذوي التدبير مركبًا، ونور التوفيق يجعل لذوي الاجتهاد مركبًا، ونور الحرية يجعل لذوي الجود مركبًا؛ فالدين مقدمة، والسياسة نتيجة.
(أ) واجبات السلطان تجاه الرعية
ولا يجب على السلطان قبول الهدايا؛ فالهدية إما من صغير لكبير لطلب ميزة، أو من كبير لصغير لطلب طاعته. وإن كانت فهي بين الأكْفاء للتحاب، والملوك ليسوا في حاجة إليها. وإذا كان الملك قد أمن الفقر، يكون غناه اقتناء الحمد وابتغاء المجد. وأزين ما يُوسَم به الملوك التعفُّف عن المحرَّمات وعمَّا في أيدي الرعية، وألا يُعرَف بالحرص حتى يُنسَب إليه، ولا الجشع حتى لا تذهب عنه بهجة الوقار. ويجمع الملوك الحمد، وهو أنهم إذا همُّوا بالخير أنصفوه. وما يجمع لهم الحزم هو الاستظهار في الأمور. وما يجمع لهم الذم إذا أُغضبوا أقدموا.
وما ينبغي للملك أن يصنعه حنى يعمَّ صلاحه أهل مملكته تولية خيارهم، وولاية الناس بلاء عظيم. وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان وأركانه؛ الاجتهاد في التخير للعمال والوزراء؛ فقد يكون رجل بألف، والمبالغة في التقدم إلى الوصية، والتأكيد على العمل، وكسب كل لبيب يعرف وجوه الأمور والأعمال، والتعهد الشديد حتى يكون الوالي سميعًا بصيرًا، والعامل مُتحصنًا حريزًا، والجزاء العتيد؛ إثابة المحسن ومعاقبة المسيء.
والهيبة التي تنفع السلطانَ في سلطانه وتكون أعمَّ نفعًا في رعيته هيبةُ العدل والنزاهة، وحسم بوائق الأشرار وأهل الريب.
والسلطان لا يُستطاع إلا بالأمناء والنصحاء، وهم لا يوجدون إلا مع المودة، والمودة لا تتم إلا بالمشاركة وليس بالاستئثار. ولما كانت أعمال السلطان كثيرة، فإنه لا يمكن استرجاع الخصال المحمودة في واحد؛ فعلى السلطان أن يكون عالمًا بأمور الدنيا عن طريق من يستعين بهم، وندب لكل عمل من يعرفه بالنفاذ والأمانة والرأي والرقابة عليهم ومراجعتهم، وإحسان المحسن وعقاب المسيء. ولا يُحارب ملك ملكًا يعتمد على المشاورة ولا يتبع هواه.
وخليقة السلطان تطبيق الشريعة وتنفيذ القانون؛ فأكره شيء للملوك اللجوء إلى ترك السنة، وألا تستنج لهم الأمور إلا ببسط العقوبة. وعلى الملك أن يعمل بثلاث خصال؛ تأخير العقوبة عند سلطان الغضب، وتعجيل مكافآت المحسن، والأناة فيما يحدث. ففي تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة بالطاعة من الرعية والجند، وفي الأناة إفساح الرأي وإيضاح الصواب. ولذة العقوبة يلحقها حميد العاقبة، ولذة التشفِّي يلحقها ألم الذم والندامة. ومن خمسة أشياء تقبح بأهلها كذب القضاة. ومن ستةٍ تشتدُّ عشرتهم على مُعاشريهم، الملك الفظ والقاضي المُرتشي.
وسلطان ملوك الدنيا إنما هو على الأبدان لما ملكوا وعلى ما يبدو ومن ظواهر أمورهم. فأما نيَّاتهم وما يغيب عنهم من أمورهم فلا سبيل لهم عليه؛ لأنه غيبٌ محجوب عنهم. فلا ينبغي للملوك أن يأخذوا الرعية إلا بما يظهر لهم منهم، ويتركون التظنِّي فإن التظنِّي يدعو إلى التهمة، والتهمة تدعو إلى البلايا. وعلى حسن كثرة الرعية يعلو شأن السلطان. السلطان لا يُغلق بابه في مواجهة الرعية. فلا يحتجب الوالي إلا لثلاث خصال؛ إما رجلٌ عيي يكره أن يطَّلع الناس على عيِّه، وإما رجلٌ مُشتمل على سوءة يكره أن يرى الناس منه ذلك، وإما بخيلٌ يكره أن يُسأل.
وعبرة الملوك لأنفسهم. وليس للسوقة التفكر في سرعة انقضاء دولتهم وقصر أعمارهم، أو إفراط رغبتهم في الأوزار. والتمتع والتلذذ بالملوك أقبح للملوك من السوقة نظرًا لقصر العمر. وقد يؤيد الله بالملك الغشوم والأهواء المختلفة أركان دولته حتى تتم وتنقضي حدتها، مثل دول التتار والمُغول والتُّرك.
تقوم الدولة إذا قام الملك بإنارة القلوب المُظلمة في الصدور الخربة، وكنز فيها الحكمة، وأمات فيها الجهالة. وتنهار الدولة إذا ما استلَّ الجهل سيفه، وأفلت من أسْره، وعز بعد ذله، وفغر الحرص فاه مُتوقدًا مُتضرمًا مُستوليًا غالبًا، فتغلب خساءة الناس ودهماؤهم على الحكماء والعلماء الصالحين فأذلوهم وهجروهم، وانقطعت مواد العقول، وضمرت النفوس، ودخل الحزن عليها؛ فتتبدَّد الدولة ويعيش الناس في كدر.
(ب) واجبات الرعية تجاه السلطان
إذا كان مسكويه قد ركَّز على واجبات السلطان، فإن ابن المقفع والفارابي قد أبرزا واجبات الرعية تجاه السلطان في خمس وعشرين وصية للأمان من السلطان واتقاء شره، وليس للسلطان كي يكون سلطانًا عادلًا؛ ففي مُقابل الواجبات هناك الحقوق. واجبات السلطان عليه تجاه الرعية، وحقوق السلطان له من الرعية. وإذا كانت واجبات السلطان قد جمعها مسكويه من حكماء فارس وملوكهم، فإن كيفية معاملة السلطان من آداب ابن المقفع ووصاياه، وكلها لاتقاء شره وعدم التعرض للهلاك لمعارضته؛ فهي نصائح تعايشية وظيفية ليس فيها مقاومة السلطان الجائر.
ومن أخطر الأمور على السلطان الرجل الثاني في الحكم، وزير السلطان أو واليه أو أحد عماله، استنادًا إلى ألاعيب الحاشية ومؤامرات البلاط وأهواء البشر، وفي مقدمتها الحسد والغيرة والطمع كما حدث في نكبة البرامكة. والطريق إلى مواجهة ذلك ليس بالغضب أو الانتقام، بل بالوقار والحلم والحجة. والحلم أفضل من الغلبة والقوة. ولا يجوز شتم الوالي أو الإغلاظ له.
ولا يجوز أن يشغل الإنسان نفسه إلا بعظائم الأمور حتى لا يصغر شأنه ويُضيع الكبير؛ فالوقت لا يتَّسع لكل شيء؛ لذلك يحسُن تفريغه للمهم. والمال لا يتَّسع لكل شيء، فيُصرَف في الأهم. والكرامة يُحافظ عليها في الأمور الجسيمة. ولا يجوز الغضب حتى لا يعبس وجه الإنسان في وجه الناس، وتخرج منه الألفاظ السيئة لمن لا ذنب له، ثم يرضى على من ليس أهلًا للرضا، ويُعطي من لا يستحق. ولا يحسد الوالي من دونه لأنه أقل عذرًا من السوقة الذين يحسدون من فوقهم. والناس على دين الوالي إلا من نافقه الوالي بالبر والمروءة حتى لا يقع الفجور والدناءة في مملكته. والإنسان الكامل لا يجب أن يكون قريبًا من السلطان، بل من الملك الذي يهب المُلك. وحيث يوجد الملك يوجد المُلك، ولا ينعكس الأمر. وهي كلها وسائل تربوية أخلاقية للسياسة عن طريق الدخول إلى نفس الوالي أو السلطان، وتقوية الفضائل على الرذائل دون قوانين أو مؤسسات. وهي أقرب إلى العلاقات العامة منها إلى الحقوق والواجبات، الموضوعية بصيغٍ قانونية ودستورية. هي أقرب إلى العلاقات الشخصية وكيفية التعامل مع الآخرين طبقًا للكياسة والفطنة والذوق.
والسؤال هو: أين النصيحة في هذا كله إذا كان المقصود هو تحسين كل ما يفعله السلطان ويقوله؟ وهل النصيحة تبرير أفعال السلطان وقراراته وحسن العلاقة معه على حساب المصالح العامة؟ هل هناك خاصة للرؤساء دون غيرهم، أم إن التعامل مع الناس بالحق سلطانًا كان أم من الرعية؟ وكيف يكون ذلك مع استهجان مدح السلاطين والتقرب إليهم؟ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يقتضي الوقوف في مواجهة السلطان، وأعظم شهادة كلمةُ حق في وجه إمام جائر. وواضحٌ أن الأمر كلها مزاجٌ شخصي، علاقاتٌ عامة بين الرعية والسلطان والنصحاء دونما حاجة إلى مؤسساتٍ قضائية ودستورية ونيابية وإعلامية تقوم بهذا الدور. واضحٌ أن الفكر السياسي عند الفقهاء أفضل بكثير من الفكر السياسي عند الحكماء؛ فالأول يقوم على القانون، والثاني على المزاج. الأول موضوعي، والثاني شخصي. الأول دستوري، والثاني علاقاتٌ عامة. الأول فيه ثورة وغضب، والثاني به تبرير ورضًا.
أما التعامل مع الأكْفاء فإن الأكْفاء ثلاثة مستويات؛ الأصدقاء والأعداء والوسط بين الاثنين. فالأصدقاء المُخلصون تجب ملاطفتهم مثل السلطان، والأصدقاء في الظاهر فحسب تجب مجاملتهم ومراعاتهم عند الحاجة. أما الأعداء فإنه يجب الاحتراس من ذوي الأضغان والأحقاد، وعدم إغاظة الحساد وإثارتهم. أما الوسط بين الاثنين فالنصحاء منهم يجب الاستماع إليهم، والصلحاء يجب مدحهم، والفقهاء الحلم معهم، وأهل الكبر معاملتهم بالمثل.
(ﺟ) واجبات المرأة الجميلة
ومن الصعب معرفة هل المرأة جميلة، أو بلغة العصر سيدة المجتمع أو السيدة الأولى، أحد أسباب قيام الدول وسقوطها، وهل هي خير أم شر، وهل هي قريبة السلطان أم بعيدة عنه؟ المرأة رمز للجنس في الثالوث المقدَّس/المحرَّم، الدين والسلطة والجنس، كأبعاد للوعي الإنساني، أو مشخَّصةً في الله والسلطان والمرأة. وتجتمع على ذلك حكم الهند وفارس والعرب واليونان، وهي إلى حجم الهند أقرب؛ فقد شغلت المرأة الذهن الهندي لدرجة عبادة المرأة ممثَّلةً في الفرج طبقًا لعبادة مصادر الحياة؛ البقرة للحيوان، والمرأة للإنسان. ولا حياء في الدين؛ لذلك كانت حِكم النساء أقرب إلى الأدب المكشوف. ولا تُذكَر المرأة بمفردها في مثلٍ سائر أو حكمةٍ شائعة إلا نادرًا، وإنما تُذكَر مع الله أو السلطان، كأحد الأطراف في العلاقات الإنسانية.
ومن أربعة أشياء لا يكاد أحدٌ يقدر عليها، المرأة التي قد ذاقت الأزواج وتمتَّعت وتطعَّمت الرجال أن ترضى برجلٍ واحد. ومن سبعة لا ينامون، صاحب الزوجة الفاسدة. ومن عشرة لا يزالون في سخط الناس، البخيل بالجماع. وما دامت المرأة موضوعًا جنسيًّا فإن مهمة الرجل إشباعها، وإن لم تُشغَل المرأة فإن الدواهي في الفراغ. ولم يكن هذا التصور عيبًا عند القدماء؛ فالنساء عورات عند عمر بن الخطاب يجب سترهن بالبيوت، ومُداواة ضعفهن بالسكوت، وتخويفهن بالضرب، وإبعادهن عن الرجال، وعدم إسكانهن بالغُرف أو تعليمهن الكتابة، وتعويدهم العُري حتى لا يخرجن ويلزمن بيوتهن، ورفض طلباتهن؛ فإن الاستجابة لهن تُغْريهن بالأسئلة.
ويجب حجاب المرأة وحجبهن حتى تكفَّ أبصارهن؛ فالحجاب خيرٌ من الارتياب. وليس خروجهن أشد من دخول من لا يوثق به عليهن. ومن الأفضل ألا يعرفن أحدًا. ولا يجب تمليك المرأة من أمرٍ يُجاوز نفسها؛ فإن ذلك أنعم لبالها وأدوم لحالها. المرأة ريحانة وليست قهرمانة. فلا تعدُ بكرامتها نفسها، ولا تجز لها الشفاعة. ولا يجب إطالة الخلوة عندهن حتى لا يمتلكن أحدًا، والغيرة في غير موضعها تجعل الصحيحة سقيمة.
ومن ضِمن أربعين ألف نصيحة يتم اختيار أربع فقط؛ «لا تتقن بامرأة» مع عدم تحميل المعدة فوق طاقتها، وحفظ اللسان، وأخذ ما يكفي. عدم الثقة بالنساء وعدم إفشاء السر إليهن من حكم أذرباد. ولا يجوز مشاورة النساء؛ فرأيهن أفن، وعزمهن وهن. ومن علامات الرقاعة مداومة عِشرة النساء مع الدالة على السلطان والقصص على الكراسي. ومن خصال الملوك والأشراف مجالسة الأحداث والنساء ومشاورتهن، مع التعظم وترك ما يحتاج إليه من الأمور فيما يعمل باليد ويحضر بالنفس. ومن أرفع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأخسرها للعقل، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء، والتوق إلى ما ليس عندهن عند غيرهن حتى ولو كنَّ دميمات. وهذا هو الحمق والشقاء؛ ومن ثَم يجب ضبط النفس وحمايتها من الهوى. والنساء خدعة؛ ظاهرٌ فارغ، وباطنٌ قبيح.
(٣) التاريخ الاجتماعي
- (أ)
في فضل علم التاريخ دفاعًا عنه ضد ذمه، وكما هو معروف من كتاب «التوبيخ لمن ذم التاريخ» للسخاوي باعتبار أنه علم رواية وليس علم دراية، علم الأمم الماضية، والأقرب إلى القصص منه إلى العلم.
- (ب)
تحقيق مذاهبه لأن هناك عدة تصورات للتاريخ؛ التاريخ الجغرافي، والتاريخ البشري، والتاريخ البدوي، والتاريخ الحضري، وتاريخ العمران.
- (جـ)
مغالط المؤرخين في المناهج، والروايات الموضوعة، والصراع بين الرواية والمشاهدة، بين السمع والبصر، بين الخبر والرؤية، بين المعرفة والتحقق.
- (د) معرفة أسباب هذه الأخطاء من أجل وضع مناهج عملية دقيقة لكتابة التاريخ.٦٢
(أ) فلسفة التاريخ
- (أ)
في طبيعة العمران في الخليقة، وتتضمن النظرية الجغرافية الشهيرة طبقًا لأقاليم الأرض السبعة وآثارها على حياة البشر (الباب الأول).
- (ب) ما يعرض للعمران من حياة البدو (الباب الثاني) والحضر (الباب الرابع)، والتغلب (الباب الثالث)، والكسب والمعاش والصنائع (الباب الخامس)، والعلوم (الباب السادس)، وذروتها الدولة، الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية؛ فالدولة ذروة العمران، قبلها البدو، وبعدها الحضر. وفي الدولة تبدأ الحياة الاجتماعية والعلمية.٦٤ والغاية من ذلك كله الاعتبار كما هو واضح في العنوان «العبر» وهو التوجه القرآني في قصص الأنبياء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً.٦٥
ولا توجد فلسفةٌ مباشرة في التاريخ إلا على نحوٍ غير مباشر. ويمكن تجميع عناصرها المباشرة التي يذكر فيها لفظ التاريخ مُضافًا إلى علم أو فن؛ فالعنوان الأول «فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها»، وهو عنوان مقدمة الكتاب الأول؛ أي مقدمة المقدمة. وهي المرة الوحيدة التي ظهر فيها لفظ التاريخ مُضافًا إلى علم وليس إلى فلسفة. ويُسميه أيضًا «فن التاريخ».
وعيب المؤرخين القدماء هو جمع الأخبار وخلطها بالدسائس والروايات الكاذبة والأخبار المبتدَعة. واتَّبعه المؤرخون اللاحقون، فوقعوا في الغلط والوهم؛ لذلك وجب التحقُّق من صدق الرواية قبل استعمالها كمصادر للمعرفة التاريخية. ويتم ذلك عن طريق معرفة طبائع العمران وقوانين التاريخ؛ أي التحقق من صدق الرواية بالتجربة والمشاهدة؛ ومن ثَم يتحول التاريخ من فن إلى علم، ومن هواية إلى فهمٍ دقيق. كما يمكن ذلك عن طريق معرفة العلل والأسباب؛ فعلم التاريخ يدرس الظواهر الاجتماعية المُتراكمة عبر الزمان لمعرفة قوانين تطوُّرها، كما يدرس علم الطبيعة الظاهرة الطبيعية لمعرفة أسبابها. فالتاريخ، وموضوعه العمران، علمٌ طبيعي. لا فرق إذن بين التاريخ كعلمٍ إنساني والطبيعة كعلمٍ طبيعي. العلم واحد من حيث المنهج وإن اختلف الموضوع.
ويبغي ابن خلدون الاختصار والتركيز باحثًا عن الأسباب العامة وراء الأخبار الخاصة، ويُحذر من الإسرائيليات، ويرفض المغالاة في الأحكام حتى ولو كانت في الروايات لخضوعها لمنطق القصص والخيال الشعبي. وغاية ذلك نقد التفسير التاريخي للقرآن الذي يقوم على هذه الروايات الخيالية. ويعتمد في تحليل التجارب البشرية على الشعر. وقد كان أحد أسباب أخطاء الروايات خضوعها لأهواء السياسة ومدح الحكام وتجريح الخصوم. يُفرق ابن خلدون بين القطعي والظني في الرواية كما هو الحال في الأحكام عند الأصوليين، وهو الفقيه. كما ينشأ الخطأ من الذهول عند تبدُّل الأحوال والأمم والأجيال بتبدُّل الأمصار ومرور الأيام؛ أي بإغفال التصور الحيوي للتاريخ.
ويتكلم ابن خلدون عن الحضارة في الأمصار من قبل الدولة، وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها؛ فالدولة هي حاملة العمران، والحضارة زائدة عن الضرورة من أحوال العمران طبقًا لأحوال الأمم على مدى الأيام. والدولة هي التي تجمع أموال الرعية وتُنفقها في مظاهر الجاه، وتعظم الحضارة في وسط الدولة ومركزها، وتقل في الأطراف. والأمثلة على ذلك كثيرة من حضارات اليهود والقبط والروم واليونان والعرب في الأطراف والعراق والنبط والفرس والكلدانيين.
وقد أسَّس المحدِّثون علم الجرح والتعديل لضبط الرواة، خاصةً في خبر الواحد، مثل استحالة مدلول اللفظ وضرورة تأويله إذا لم يُطابق العقل حتى يمكن استنباط أحكام شرعية عملية يقينية منها، حتى ولو كانت ظنية على مستوى النظر، بالإضافة إلى أحكام العدالة والضبط. العدالة في الصدق والإسلام والإيمان والضبط بحسن السماع والحفظ والتبليغ خلال سلامة الحواس الظاهرة مثل السمع واللسان، والباطنة مثل الحفظ والتذكر.
أما الأخبار أي الروايات التاريخية، فهي علم الوقائع والأحداث، ويكون صدقها في المطابقة؛ مطابقة الرواية مع وقوع الحدث التاريخي وإمكان وقوعها. وهو ما يتجاوز صدق الروايات في علم الحديث عن طريق الجرح والتعديل للرواة من أجل استنباط الأحكام علي نحوٍ إنشائي لغوي، في حين أن صدق الروايات التاريخية من حيث الإمكان والاستحالة على نحوٍ خبري وإصدار الأحكام بالصدق والكذب.
كما لاحظ الحكماء وجود حاسة طبيعية في الحيوان والحشرات مثل النمل والجراد، وهو الانقياد والاتباع لرئيسٍ مُتميز عنها في الخلقة، بالفطرة والخلقة وليس بالرؤية والسياسة. كما يعتمد على الحكماء في تقسيم أقاليم الأرض، ونسبة العمران في كلٍّ منها، وفي أن الربع الشمالي أكثر عمرانًا من الربع الجنوبي لإفراط الحر وقلة ميل الشمس. ويعتمد على الفلاسفة في أن الطبيعة جبلَّة في الأجسام. لما خلق الله العالم كانت في تمام الكرة ونهاية القوة (الكمال)، وكانت الأعمار أطول، والأجسام أقوى. وهو رأيٌ يقوم على التحكم وليس على علةٍ طبيعية. وليس المطلوب الإمكان العقلي، بل الإمكان المادي.
بل اعتمد الفلاسفة على ذلك لإثبات النبوة بالدليل العقلي، والاعتماد على حاجة البشر للحكم الوازع، وهو لا يكون إلا بشرع من الله مُبلغ إلى واحدٍ مُتميز عنهم. وهي قضيةٌ غير برهانية في رأي ابن خلدون؛ فقد يتم ذلك بما يفرضه الحاكم أو بالعصبية؛ أي بالملك والعصب؛ ومن ثَم يغلط الحكماء في محاولة إيجاد دليل عقلي على النبوة؛ لأن مدركها الشرع كما هو مذهب أهل السلف من الأمة. ويذكر رأي الحكماء في الخوارق؛ فالخارق من فِعل النبي خارج فعل القدرة بناءً على مذهبهم في الإيجاب الذاتي، ووقوع الحوادث بعضها عن بعض مُتوقف على الأسباب، والشروط الحادثة مستندة إلى الواجب الفاعل بالذات لا بالاختيار. كما ذهب بعض الحكماء إلى أن النور الأعظم مع النبوة ينقطع؛ لأن كل نبوة تقتضي وضمًا فلكيًّا معينًا.
ومع ذلك فقد كان لدى ابن خلدون إحساس بالجدة في تأسيسه للعلم الجديد بالرغم من كثرة مصادره وإحالاته؛ فقد نشأت فلسفة التاريخ عنده «من غير تعليم أرسطو ولا إفادة الموبذان». وفاقد الشيء لا يُعطيه. اعتمد ابن خلدون على مصادر داخلية خالصة مثل ابن المقفع وآرائه السياسية، والطرطوشي في سراج الملوك الذي اتبع ابن خلدون ترتيبه، مع أنه «لم يُصادف فيه الرعية ولا أصحاب المشاكل، ولا استوفي المسائل، ولا أوضح الأدلة». ويستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلماتٍ مُتفرقةً عن حكماء الفرس مثل برزجمهر والموبذان، وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس. ولا يكشف عن التحقيق، ولا يعتمد على البراهين، نقل وركب المواعظ. حوَّم عن الغرض ولم يُصادفه أو يتحقق من قصده إذا استوفى مسألة. وقد ألهم الله ابن خلدون مقدمته إلهامًا؛ فالعلم إما النقل أو الإلهام. وكأنه لا يوجد تراكمٌ تاريخي طبيعي أدَّى في النهاية إلى تأسيس فلسفة في التاريخ في نهاية المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى.
وذلك كله أقرب إلى الضرورة منه إلى الحرية، لا فرق بين الضرورة الدينية والضرورة الطبيعية؛ فإرادة الله هي سنن الكون. فمن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام؛ فالعالم لا يستقرُّ على وتيرةٍ واحدة، بل يتغير ويتبدل في الأشخاص والأوقات والأمصار، وهي السنن الكونية سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا. ومن الأغاليط الغفلة عن طبائع الأكوان وتبدل الأعقاب، مثل استيلاء الدول المستجدة على الدول المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة، وقوانين الطب والمجتمع والبدو والحضر والكسب والمعاش.
وهي سننٌ مُطردة في التاريخ تنطبق على كل الأمم والدول، مثل قيام الدولة وانهيارها سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وهي نفس السنن في الدنيا والآخرة؛ فالآخرة استمرار لقوانين وتحصيل نتائجها سنة الله في الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين.
وفي شرح انهيار دولة بني إسرائيل يستشهد بآية وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.
ما يحدث في التاريخ من حياة أو موت للأفراد والشعوب يقع بإرادة الله، وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ. ومع ذلك فالإنسان يأكل من عمل يده كما قال الرسول: «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت، لم ينتفع به في شيء.»
ويتم الاعتماد أيضًا على كتاب «الجفر» الذي دُوِّن فيه كل شيء عن طريق الآثار والنجوم. ويُروى أنه كان مع الزيدية، ومنسوب إلى جعفر الصادق، ويتضمن علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص عن طريق الكرامة والكشف. وسُمي الجفر باسم الجلد؛ لأن الجفر في اللغة هو الصغير. وكان يتضمن تأويلًا باطنيًّا للقرآن. ومنها أحاديث المهدية وآخر الزمان في مجتمعات الاضطهاد. وقد ساهم الكِندي مُنجم الرشيد في ذلك حتى في ملك العرب وكميته، وسُمي «الجفر الصغير»، ويُسمى أيضًا «الملاحم». ويُطلقه العامة على الحاضر والمستقبل، ويُصاغ ذلك نثرًا وشعرًا لأنه جزء من الثقافة الشعبية وسير الأبطال.
(ب) طبائع العرب
ولا تنفصل فلسفة التاريخ عند ابن خلدون عن طبائع الشعوب، خاصةً العرب والعجم والبربر.
فجيل العرب في الخلقة طبيعي لا بد منه في العمران؛ فالعرب جزء من تطور التاريخ البشري وأحد مراحله؛ أي سكان البادية. يقتصرون على الضروري من إشباع الحاجات الأساسية دون التحسينات والكماليات. والعرب أشد الشعوب بداوةً، ومُختصُّون بالقيام على الإبل، في حين تقوم باقي الشعوب على الشاه والبقر مثل البربر والأعاجم والترك والتركمان والصقالبة والأكراد بالمشرق.
والعرب لا يتغلبون إلا على البسائط؛ لأنهم بطبيعة التوحش أهل انتهاب وعبث من غير مُغالبة أو ركوب أخطار يفرُّون إلى مُنتجَعهم بالقفر، ولا يذهبون إلى المزاحمة والمحاربة إلا دفاعًا عن مَعقلهم وعن أنفسهم، ويُغيرونه إذا كان صعبًا في الدفاع عنه، والقبائل في بطون الجبال بمنأًى عنهم. أما على البسائط فهم أقدر بفقدان الحامية وضعف الدولة. هي نهب لهم وطعمة، يغارون عليها لسهولتها إلى أن يتغلبوا على أهلها، ويتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم.
والعرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغةٍ دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ وذلك لأن توحُّشهم جعلهم أصعب الشعوب انقيادًا، ولما فيهم من غلظة وأنفة وبُعد الهمة والمنافسة على الرئاسة وتضارب أهوائهم؛ فالدين وازعٌ قوي ليسهل انقيادهم وجمع كلمتهم، وأن يتم ذلك بأمر الله ليُذهب عنهم الخلق الذميم، ويتحلَّوا بالخلق الكريم، وتحويلهم من قبائل مُتباغضة إلى دولة وملك. وهم أسرع قبولًا للحق لسلامة الطبع وبراءة الذمة والفطرة الأولى، وكل مولود يُولَد على الفطرة.
والعرب أبعد الناس عن الصنائع؛ لأنهم أعرق في البدو، وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع، في حين أن العجم في المشرق وأمم النصرانية وراء البحر الرومي أقدر الناس عليها؛ لأنها أعرق في العمران الحضري، وأبعد عن البداوة، ليس لديهم إبل أو مَراعٍ أو رمال؛ لذلك استورد العرب الصنائع من الأمم الأخرى، العجم والصين والهند والترك. والبربر مثل العرب لرسوخهم في البداوة وقلة الأمصار في قطرهم باستثناء صناعة الصوف والجلود. وفي حين رسخت الصنائع في فارس وعند النبط والقبط وبني إسرائيل واليونان والروم، أما شعوب شبه الجزيرة العربية فإذا ملكتهم شعوب الحضارة أصبحوا مثلها، وإذا ملكهم العرب قلَّت فيهم الصنائع.
ومع ذلك فللعرب لغتهم وشعرهم، لغة العرب مُستقلة مُغايرة للغة مضر وحمير؛ فالدلالة والتركيب مختلفان في اللسانَين، وكذلك القدرة على الاختصار والتركيز؛ لذلك قال الرسول: «أُوتيت جوامع الكلم، واختُصر لي الكلام اختصارًا.» وقد دسَّ التشيع مقالة نهاية بلاغة العرب، في حين قد حفظها القرآن والحديث.
وكما أن العرب أهل لغة فإنهم أيضًا أهل شعر مثل باقي الأمم الأعجمية، فارس واليونان، لا فرق بين عرب عاربة ومُستعربة. وقد أبدع أهل الأندلس الموشَّحات والأزجال نظرًا لاختلاف الألسنة والألوان، «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ».
والنبوة تحتاج إلى عصبية أو ثروة طبقًا لحديث: «ما بعث الله نبيًّا إلا في منعة من قومه.» وفي روايةٍ أخرى: «في ثروةٍ من قومه.» والعصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه. وقد يقع اختلاط في الأنساب عن طريق القرابة أو الحِلف أو لولاء أو لفرار من قومه لجنايةٍ ارتكبها.
والغاية من العصبية الملك. والملك والدولة العامة يحصلان بالقبيل والعصبية. أما إذا استقرَّت الدولة وتمهَّدت فقد تستغني عن العصبية. وقد ظنَّ الطرطوشي أن الجند هم حماة الدولة بإطلاق بما فيهم المرتزقة، ولم يفطن إلى كيفية الأمر منذ أول الدولة، وأنه لا يتم إلا لأهل العصبية. وقد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولةٌ تستغني عن العصبية.
(ﺟ) قيام الدول
وإقامة السلطة من الشرع وبمقتضى سنته، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ مِنْ نُورٍ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ، وقد طلب سليمان من الله الملك، رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا.
وإذا كانت حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع مُتصرف في الأمرين؛ في الدين بمُقتضى التكاليف الشرعية، وفي الدنيا برعاية المصالح في العمران البشري. والخطط الدينية الشرعية هي الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة، وكلها مُدرَجة تحت الإمامة الكبرى، وهي الخلافة، وتصرُّفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية. والعدالة وظيفةٌ دينية تابعة للقضاء، والسكة النظر في النقود المُتعامَل بها بين الناس. أما وظائف الإمارة والوزارة والحرب والخراج فصارت وظائف سلطانية. ويُلاحظ ابن خلدون أن وظيفة الجهاد بطلت ولا تُمارسها إلا بعض الدول القليلة!
(د) سقوط الدول
والتدافع سنة الكون، صراع الممالك التي تُجسد صراع العصبيات، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. توجد العصبية في الأمصار، ويتقلب بعضها على بعض، وتنهار المجتمعات إذا انتهى الصراع، وآثَر قومٌ التخاذل والتخلف والارتهان إلى الأرض؛ لذلك نقد القرآن الخوالف والقاعدين والتثاقل كما فعل بنو إسرائيل قائلين لموسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، وقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ؛ فالمذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم من عوائق الملك، مثل حرث الأرض وترك الفتح والجهاد في سبيل الله، كما قال الرسول لما رأى سكة المحراث في دور بعض الأنصار: «ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلهم الذل.»
ومن عوائق الملك المَذلَّة للقبيل والانقياد إلى سواهم؛ أي بلغة العصر الاستعمار والغزو والسيطرة والأحلاف والتبعية السياسية والاقتصادية. وإذا غلبت الأمة وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء. ومن علامات الشعوب المغلوبة الاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده، إحساسًا منه بالنقص، ورغبةً في التفوق عليه. ومع ذلك البوادي من القبائل مغلوبون لأهل الأمصار؛ لأن عمران البادية ناقص عن عمران الأمصار.
وإذا تحكَّمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والبدعة، أقبلت الدولة على الهرم كالأشخاص؛ فالدولة تقتضي الانفراد بالمجد، فيتكاسل باقي العصبة، ويرثون المذلة والاستعباد، ثم يُربَّى الجيل الثاني على الهِبة والعطاء وتهن الدولة، وتضعف الشوكة، ويهلك الفقير والمترف، ويقلُّ الغزو، وتبدأ الانقلابات حتى يأذن الله بالفناء. وهو نتيجةٌ طبيعية للترف. وينتج أيضًا عنها الراحة والدعة التي تُساعد على نهاية الدولة. والأمثلة كثيرة من التُّرك والمماليك والمُوحدين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ويقع الخراب في الأمصار؛ إذ يبدأ العمران بمساكن قليلة وبناء من الحجر والجير قبل الزليج والرخام والزجاج والصدف والفسيفساء، ثم يعود العمران كما كان أولًا يدويًّا بدائيًّا حتى تخرب القصور.
(ﻫ) مراحل التاريخ
والدولة لها أعمارٌ طبيعية كالأشخاص، حوالَي مائة وعشرين سنة، وهي مدة قرانات الأقلال، وهو عمر نوح. فالدولة ثلاثة أجيال، والجيل أربعون عامًا كما قال القرآن حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وهو معنى آية فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ.
ويعظم الحجاب في الدولة عند الهرم؛ فالبداوة شعار العصبية والدولة في البداية، ويغيب عنها التنازع في الملك إن كان قيامها بالدين. وإن كان قيامها بالغلبة تتغلب البداوة؛ فإذا بدأ الانفراد بالملك زاد الحجاب وظهرت البطانة، وتكرَّر الحجاب وتكاثر.
قد يبدو ابن خلدون مُتشائمًا في فلسفته للتاريخ؛ فالبداوة خشونة وفظاظة تغلُّب وتفرُّد بالملك، ونهب وسلب واستيلاء على أموال الناس، والحضارة ترف ودعة وترهُّل وحرص على الدنيا وإيذان بالنهاية، والتحول من البداوة إلى الحضارة بنبوة وولاية أو ملك؛ أي بسلطة دينية أو سياسية، وليس تحولًا طبيعيًّا عن طريق نمو طبيعي بالتفاعل الحضاري والتعليم والتثقيف. والتاريخ لا يقوم إلا لينهار في أربعة أجيال؛ أي في قرن ونصف، ولا يوجد تراكمٌ تاريخي يظهر من خلاله مفهوم التقدم وكأن التطور دائري، عود على بدء، وليس مُستقيمًا مُطردًا أو حتى حلزونيًّا؛ لأن البدو لا يتعلمون ولا الحضر، ولا يوجد تراكمٌ تاريخي كافٍ للموعظة والعبرة من دروس التاريخ.
فإذا كان ابن خلدون قد وصف تحوُّل العرب من الوحشية إلى الملك بفضل الإسلام، ثم عودتهم إلى التوحش من جديد في القرون السبعة الأولى، فإن بداية المرحلة الثانية للحضارة العربية الإسلامية في القرون السبعة التالية لابن خلدون، منذ ابن تيمية قبله بقرن حتى القرن الرابع عشر تحوَّل العرب من الملك الأول إلى الملك الثاني في عصر الخلافة العثماني التي ضمَّت الأمصار في آسيا في المشرق وأوروبا في المغرب. ومنذ القرن الماضي وقد بدأت حركةٌ إصلاحية جديدة خرجت منها حركات التحرر الوطني بالرغم من تعثرها، وقد بدت مرحلةٌ ثالثة للحضارة العربية الإسلامية ترنو إلى قرونٍ سبعة ثالثة من القرن الخامس عشر الهجري حتى القرن الواحد والعشرين الهجري وليس الميلادي وبداية الألفية الثالثة.
(و) خاتمة: من اليونان القديم إلى الغرب الحديث
إذا كانت علوم الحكمة القديمة قد نشأت وتطوَّرت واكتملت في عصر الحضارات القديمة، اليونان والرومان غربًا، وفارس والهند شرقًا، مع صدارة اليونان، فإن علوم الحكمة في طورها الجديد تتعامل مع أوروبا وأمريكا غربًا، والهند والصين شرقًا. وكما ورث اليونان الرومان قديمًا، ورثت أمريكا أوروبا حديثًا؛ ومن ثَم تستأنف علوم الحكمة طورها الثاني في تعاملها مع الغرب الحديث في مراحل النقل، تدوينًا وترجمة وشرحًا، ومرحلة التحول عرضًا وتأليفًا وتراكمًا حتى مرحلة الإبداع في الحكمة النظرية والحكمة العملية. وما زِلنا نمرُّ بمرحلتَي النقل والعرض منذ أكثر من مائتَي عام ولم نصِل بعدُ إلى مرحلة الإبداع. الفلسفة الغربية جزء من الفلسفة الإسلامية في طورها الجديد؛ فليست الفلسفة الإسلامية مرحلةً واحدة في التاريخ ثابتةً ساكنة هي اللحظة اليونانية، بل هي لحظاتٌ مُتجددة مع دورات التاريخ. وقد عرف الباحثون لحظة العصر الوسيط الأوروبي، حيث بدأت الترجمة العكسية من العربية إلى اللاتينية أو العبرية، وبدأ النقل العكسي من الإسلام إلى الغرب حتى عصر النهضة وقبل أن يبدأ الغرب مساره الخاص، من النقل إلى الإبداع. وعرف رُواد النهضة العربية المعاصرة منذ قرنين لحظة العصور الحديثة، ولكنها لم تتحول بعدُ من فكر إلى فلسفة، ومن الترجمة إلى التأليف، ومن الشرح والملخَّصات إلى الإبداع.
فالحكيم اليوم هو الذي يعرف تجربة القدماء ويُساهم في تجربة المُحدَثين، هو الذي يعلم اللحظة الماضية، لحظة اليونان القديم، ويستأنفها في لحظة الغرب الحديث. الحكيم اليوم ليس مُتفرجًا ولا مؤرخًا، ولا مُتكسبًا بالكتاب المقرَّر، ولا مؤلفًا في ظروف المعيشة وأحوالها، الترقيات الداخلية أو الإعارات الخارجية، ولا مُستشرقًا يُقلد مناهج المستشرقين، بل هو خليفة الحكماء القدماء ووارثهم. يستأنف أدوارهم، ويوحِّد ثقافة الأمة بين الموروث والوافد بدلًا من الصراع بينهما الذي يصل إلى حد التحزب والتعصب وسفك الدماء، صراعًا على السلطة السياسية؛ فالحقُّ في جانبٍ واحد، والصواب في مصدرٍ واحد. هو صاحب الدار الذي يحمي ثقافة الأمة من ازدواجيتها وتبعيتها إلى الموروث القديم أو الوافد الحديث؛ من ثَم يتم تجاوز التخصصات المعاصرة التي تقوم على صراع المصالح أكثر من تحقيق الأهداف المشتركة؛ فلو كان ابن رشد حيًّا بيننا وأستاذًا معنا لصعب تحديد تخصص له، إسلامية أو يونانية. وإذا فرَّق القدماء بين علوم العرب وعلوم العجم، بين علوم الوسائل وعلوم الغايات، فإن الفلسفة الغربية اليوم هي علوم العجم المُحدَثين، وعلوم العرب هي علوم الغايات. فماذا ينبغي أن يقدم قبل تعلُّم الفلسفة؛ ديكارت، هيجل أرسطو العصر؟ ولو بُعث ابن سينا الآن، فكيف يُبوِّب الحكمة الجديدة، منطقًا وطبيعيات وإلهيات؟ ولو بُعث الفارابي الآن، فأي حكيمين يوفِّق بينهما؛ هيجل وماركس؟ ومن ثَم فالجبهة الثانية في مشروع «التراث والتجديد» الموقف من التراث الغربي هو استئناف للجبهة الأولى «الموقف من التراث القديم». ويكون «علم الاستغراب» أقرب إلى العرض والتأليف والتراكم؛ أي في مرحلة تحوُّل من النقل إلى الإبداع في علاقتنا بالغرب الحديث؛ حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تنتقل إلى الإبداع الخالص الذي سمَّاه ابن سينا «الشعر المطلق».
السيساسة | الصنف | الغرض | اللازم |
الإمامة | تكميل الخليقة | نيل السعادة | |
التغلب | استعباد الخليقة | نيل الشقاء |