ثالثًا: الأخلاق العملية والنظرية (الفارابي)
وإذا كانت الأخلاق العملية قد غلبت على الأخلاق النفسية عند الكِندي، وماهية اللذَّة والطب والطب الروحاني عند الرازي، فإن الفارابي قد حاول الانتقال من الأخلاق العملية إلى الأخلاق النظرية؛ من طب الأبدان وطب النفوس، إلى التنبيه على سبيل السعادة وتحصيلها، إلى «أبستمولوجيا» الأخلاق وميتافيزيقا أو «أنطولوجيا» الأخلاق.
ولا حرج في كثرة تحليلات الأخلاق عند الفارابي؛ فهو فيلسوف الأخلاق والمدينة الفاضلة بلا مُنازع، فيلسوف الإنسان، وله نصوصٌ مُسهبة وطويلة ينقُصها التركيز؛ مما جعل أسلوب التذاكير أفضل بكثير من الإسهاب، والتأليف المنطقي أفضل من التأليف المدني. وتتكرر مادة «التنبيه على سبيل السعادة» في «تحصيل السعادة» دون تقسيم للأفكار والمواقف، في فكرٍ سيَّال مُنساب بلا بِنْية أو نسق.
(١) طب الأبدان وطب النفوس
ويستمرُّ التشابه بين صحة النفس وصحة الأبدان، بين مرضى النفوس ومرضى الأبدان، بين علم الأخلاق وعلم الطب، مع أن الفارابي ليس طبيبًا كالرازي وابن سينا وابن رشد. صحة النفس الأفعال الجميلة، ومرضها الأفعال القبيحة. وصحة البدن ما تفعل بها النفس فعالها على خير وجه، ومرضه عندما لا تفعل النفس أعمالها على خير وجه. دراسة البدن إذنْ مُقدمة لدراسة النفس، ودراسة النفس مقدمة لدراسة الأخلاق، والأخلاق مقدمة لدراسة الاجتماع والسياسة ثم التاريخ. والهيئات النفسانية لفعل الخيرات هي الفضائل، ولفعل السيئات هي الرذائل. يتم إذن قياس النفس على البدن، ثم قياس المجتمع على النفس. وهو نموذج الفكر التشبيهي القياسي، وليس الفكر العلمي التحليلي.
وهو أشبه بالقاعدة الفقهية، دفع الضرر وجلب المنفعة، أو تعريف الأشاعرة للخير والشر في علم أصول الدين بالمُلائم والنافر، أو النافع والضار.
وتمرض الأبدان لفساد حِسها وتخيُّلها الحُلو مرًّا والمرَّ حُلوًا، وتصوُّر المُلائم غير مُلائم، وغير المُلائم مُلائمًا. وتمرض النفوس عندما تصبح شِريرة، وتتخيَّل الشرور خيرات، والخيرات شرورًا. أما الفاضل فيشتاق الغايات، وهي الخيرات في الحقيقة غرضًا وقصدًا، كما يهوى الشِّرير الغايات، وهي شرورٌ يتخيَّلها خيرات لمرض نفسه.
واللذة نوعان؛ لذةٌ تتبع المحسوس، ولذةٌ تتبع المفهوم مثل الرياسة والتسلط والغلبة والعلم، بالرغم من التساؤل: هل اللذة مثل الرياسة والتسلط والغلبة والعلم تتبع المفهوم، أم إنها أيضًا أشياء حِسية مثل السُّلطة والقوة؟ وهل العلم مثل الرياسة والتسلط والغلبة، أم إن العلم يتبع العقل والسلطة، والسلطة القلب، والمحسوس الحس، طبقًا لتقسيم قُوى النفس الثلاث؟ كما تنقسم إلى فرديةٍ مثل التغذِّي، أو جماعيةٍ مثل التناسل، وكلاهما يؤدِّيان إلى البقاء؛ بقاء الفرد وبقاء العالم. كما تنقسم إلى عاجلة وآجلة بالنسبة لزمان الفعل، وما قد يتبعه أذًى في العاجلة قد تتبعه لذة في الآجلة، وما قد تتبعه لذة في العاجلة قد يتبعه ألم في الآجلة، تعبير لا شعوري عن عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. يساعد الزمن على اختيار الفعل الأسهل بمعنى الأبقى؛ لذلك كانت اللذة أو الأذى نوعين؛ أعرف في العاجل وأخفى في الآجل، مع أنه عند الأبطال يكون الآجل والعاجل واضحين، ولا فرق عندهم بين الأعرف والأخفى.
وتربية البهيميين والصِّبية نحو الجميل بالأذى؛ فالعقاب الحسي على البهيمي أقسى من العقاب المعنوي. وهل يحدث نفس الشيء بالنسبة للترغيب للعقلاء نحو الجميل وهم قادرون على إدراك جمال الأشياء لِذاتها بلا إلزام ولا جزاء؟ ولماذا يكون أذى الحس أقوى من الشم والذوق وباقي الحواس؟ اللمس كالحرق، والشم للروائح الكريهة، والذوق للطعوم النتنة، والسمع للأصوات المُتنافرة، والبصر للمناظر القبيحة. قد يكون هذا التحليل تنظيرًا لا شعوريًّا للعقاب والثواب الحِسيَّين في الآخرة والعقاب عن طريق الحرق وتبديل الجلد.
إن الحُر هو الحُر باستيهال، أي الحر باستحقاق، منذ البداية كمُعطًى طبيعي. والأخلاق هي خروج من العبودية إلى الحرية، على مستوى الفرد والجماعة، الإنسان والشعوب.
ويتم العلاج في طب الأبدان وطب النفوس عن طريق الاستعداد الفطري والمُداومة على الأفعال التي تُكسب الإنسان جودة صناعة، وكلما طالت المُداومة زادت الجودة، وعظُم الالتذاذ بالهيئات الحاصلة.
وأفعال النفس المقدورة نحو السعادة تُقوي جزء النفس المعدة بالفطرة للسعادة، وتصل إلى درجة الاستغناء عن المادة فلا تَتْلف بتلفها، وكأن السعادة وحصولها برهان على خلود النفس.
والاستعدادات الطبيعية نحو الفضيلة أو الرذيلة متى انضافت الأخلاق المُشاكلة لها، وتمكَّنت بالعادة، أصبح الإنسان تامًّا، ويصبح زوالها من الإنسان خيرًا أو شرًّا أمرًا عسيرًا. ومتى وُجد الاستعداد نحو الفضائل كلها استعدادًا تامًّا، وتمكَّنت بالعادة، كان هو الإنسان في أرفع طبقة، الإنسان الإلهي، الزعيم الكامل، الرئيس الأول، النبي والإمام، الفيلسوف الحكيم، بالرغم من أنه ليس في الغالب، بل مجرد إمكان وافتراض نظري، وكمُضادٍّ له الاستعداد نحو الشرور كلها وتمكُّنها بالعادة، ويصبح أكثر شرًّا. ومن الاستعدادات نحو الفضيلة أو الرذيلة ما يمكن أن يُزال بالعادة تمامًا، وإيجاد هيئات مُضادة لها تمامًا، ومنها ما يكسر أو يضعف وتنقص قوته دون أن يزول تمامًا، ومنها ما لا يمكن أن يُزال أو تنقص قوته، بل يُخالف بالصبر وضبط النفس الجاذبة والدافعة حتى أضدادها. وكذلك تنقسم الأخلاق الرديَّة نفس القسمة على النحو الآتي:
(٢) أخلاق الفطرة والاعتدال
ثم ينتقل الفارابي من «بيولوجيا» الأخلاق إلى «سيكولوجيا» الأخلاق في أخلاق الفطرة والاعتدال. وتُقال الفطرة على ثلاثة معانٍ: الصراع، والخير الطبيعي دون تعلُّم، والفضيلة. ولا يوجد إنسانٌ كامل بالفطرة، بل هناك ميول ومُتضادَّات. الفطرة مصنوعة، قسرها التأليف والإجماع. إذا زاد التنافر قلَّ الاعتدال، وإذا قلَّ التنافر زاد الاعتدال.
ويعني هذا أن الفطرة ليست خيِّرة بطبعها، وهو أقرب إلى التصور الديني الأصلي. وإن وضع التضاد في الفطرة أقرب إلى تصور الديانات الثنوية الفارسية الشرقية القديمة، وأن الاعتدال فيها نِسبي؛ فقد يكون التطرف الأولي تعبيرًا لا شعوريًّا عن روح الموروث في أن المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، وأن الإيمان بضع شِعاب، أدناها إماطة الأذى عن الطريق.
وهنا يتجاوز الفارابي هذا التقابل بين الاستعداد والفطرة، بين الكسب والموهبة، بين التعلم والطبيعة، بفكرة الاستعداد الطبيعي التي تؤهِّل إلى حرية الفعل طبقًا لآية فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا.
والسؤال هو: هل الفعل الحر هو فعل العادة، أم إن الفعل الحر هو الذي يتجاوز العادة مثل أفعال البطولة والتحول الجذري؟ أليست العادة نوعًا من الحتمية بعد أن ترسَّخت، حتى ولو كانت في بدايتها اختيارًا حرًّا؟ وما الفرق بين اكتساب العادة الحسنة والعادة السيئة؟ وما السبب في ذلك؛ الظروف الاجتماعية أم القدرات الفردية؟ وإذا كانت الفطرة خيِّرة، كيف يتساوى الخير والشر كاستعدادَين؟
والفضائل نوعان؛ خلقية تقوم على الجزء النزوعي في الإنسان، ونطقية تقوم على الجزء الناطق فيه. الأولى فطرية، والثانية مكتسَبة. الأولى طبيعية، والثانية إرادية. الأولى من فعل الضرورة، والثانية من فعل الحرية.
ويصعب إيجاد طبع مُعَد في الفضائل كلها الخلقية والنطقية، كما يصعب إعداد طبع نحو الصنائع كلها، ويعسر إعداد طبع نحو الشرور كلها، إلا أن الأمرَين مُمكنان. والغالب أن الأكثر مُعَد نحو فضيلة ما أو فضائل محدودة أو صناعة ما أو صنائع محدودة، وذاك مُعَد إلى آخر وهكذا؛ فالطبيعة بها أغلبية وأقلية. الأغلبية محدودة، والأقلية نحو شيء ما، ثم يأتي الخاص بعد العام. هناك الطبيعة البشرية العامة، ثم تأتي بعد ذلك الفروق الفردية.
والأخلاق فطرية. وعلى الفطرة تؤتى الأفعال الثلاثة الجميلة والقبيحة. هي قدرة على الفعل ثم يأتي التعوُّد والاكتساب، فيصبح الإنسان مفطورًا على فعل الجميل أو القبيح. والتوحيد بين الأخلاق والجمال ليس نظرةً يونانية أرسطية، بل تعبِّر عن نظرة الموروث وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، «إن الله جميلٌ يُحب الجمال». والسؤال هو: ماذا لو عارضت الفطرة الاكتساب، لمن تكون الغلبة؟
والأفعال نوعان؛ فطرة واكتساب. والفطرة جيِّدة فقط أو سيئة فقط، جيِّدة الذهن أو ضعيفة الذهن، ذكيَّة أو بليدة. والاكتساب لعوارض النفس، جميلة فقط أو قبيحة فقط، والخلق الجميل وقوة الذهن هما معًا الفضيلة الإنسانية. فالفضيلة هي التي تكسب الجودة والكمال. والأفعال الجميلة نوعان؛ باتفاق أو باختبار، والسعادة مرتبطة بالاختيار قصدًا، وليس ما أتى اتفاقًا وعرَضًا.
ونظرية الفطرة أولًا ثم الاكتساب ثانيًا تتطلب الإجابة على عديد من الأسئلة: إلى أي حد يمكن كسر حِدة حتمية الاكتساب والعودة إلى الاختيار الأول؟ كيف يصحُّ الاستحقاق بالمدح أو الذم إذا كانت الأخلاق فطريةً يتساوى فيها الناس جميعًا، ثم اكتسابًا بعد ذلك من المجتمع فتتحوَّل إلى عادة؟ هل تظلُّ نقيةً صافية بعد أن يأتيَها الاكتساب؟ وهل يمكن التمييز بينهما في الأفعال الخلقية؟ وهي قسمةٌ ثنائية مُتعارضة من حيث حرية الأفعال، المبدأ الأول في أصل العدل.
وأحيانًا يقسِّم الفارابي الفعل ثلاثة أقسام من حيث الحُسن والقبح، المبدأ الثاني في أصل العدل: جميل، وهو ما ينبغي أن يكون؛ وقبيح، وهو ما ينبغي ألا يكون؛ وعلى السواء ولكن أحدهما أشد من الآخر. وهي أفعال في الزمان كما هو الحال في علم الأصول، وتُشير أيضًا إلى أحكام التكليف الخمسة؛ ما ينبغي أن يكون هو الواجب أو الفرض، وما ينبغي ألا يكون هو المحرَّم، وعلى السواء بين الشدة أو الضعف المندوب والمكروه، ثم بقي المُباح.
وهنا تُثار عدة أسئلة: هل تصبح القوة على إدراك الصواب ملَكة أم إن كل حكم يتطلب مقدرةً خاصة؟ لو حدث ذلك لتحوَّل علم الأخلاق إلى علم التربية، ومثل الأخلاق مثل التربية. ومع ذلك، وبالرغم من وجود المِعيار العام للسلوك، يظلُّ لكل فِعل خلقي خصوصيته وفرديته حيث تقبع الحرية وراءه. وهل يظل الفعل الخلقي خلقيًّا عندما يتحول إلى عادة، ويصبح طبيعةً ثانية، ويفقد أساسه في الاختيار الحر؟ بل إن الفعل الفكري نفسه، فعل الطبيعة الأولى، لو تم عن ضرورة ولم تتوفر فيه عناصر الاختيار لا يكون فعلًا خلقيًّا يتضمن الحرية والمسئولية. وهل الحال المستفادة من الأخلاق بالاعتياد مثل حال الصنعة، وتصبح الأخلاق مهارة وصنعة وحرفة للبدن وتفقد خصوصيتها في الأفعال الحرة العاقلة؟
وهل يستطيع الإنسان أن يكتسب فعلًا ضد الفطرة؟ وما العمل في حالة التضاد بين الفطرة والاكتساب؟ أيهما الأقوى، ولأيهما تكون الغلبة؟ وهل يتم الاكتساب بهذه السهولة إذا أراد أن يكون للإنسان اكتساب جميل أو قبيح يكون له ما يريد؟ هل الاكتساب عمليةٌ إرادية اختيارية أم ظروفٌ اجتماعية؟ لو كان الاكتساب إراديًّا لكان طوعًا واختيارًا. وهل تُكتسب الأخلاق الحسنة والأخلاق القبيحة بنفس القدر وبنفس السهولة، أم إن واحدةً أصعب من الأخرى؟ وما مقدار الصعوبة؟ وما مدى عمق الاعتياد ورسوخه؟ هل تختلف الأفعال الاعتيادية عمقًا بين الفعل الأول والفعل الحيوي والفعل الإرادي؟ وهل يذهب الاعتياد بعد أن يأتيَ إذا ما غاب الفعل الاعتيادي؟
ويُقال المُعتدل أو المُتوسط على نحوَين؛ المتوسط في نفسه مثل الموجود لذاته، وهو افتراضٌ نظري خالص، التوسط إذن بالإضافة والقياس إلى غيره، ومشتمل الوجود لغيره، التوسط إذن نِسبي من الناحية العملية، وهو الفرق بين الحساب الرياضي والممارسات الحياتية. وتُقدَّر كميات الأفعال وكيفياتها بحسب الفاعل والغاية والوقت والمكان. والتوسط بالإضافة يتغيَّر بين الشدة والضعف، والزيادة والنقص. وبالنسبة للأوقات والأشياء مثل الغذاء بالنسبة للبدن، واختلافه من بدن لآخر. ويستعمل الفارابي طب الأبدان والأغذية كنماذج للتوسط الإضافي؛ فالمُتوسط بين طرفَين في البدن موضوع الطب، وفي الأفعال موضوع الأخلاق.
ويقيس الفارابي الأخلاق على الطب، وكأن الطب علمٌ إنساني لا طبيعي. وإذا كان الطب علمًا مضبوطًا فهو أصل القياس، والأخلاق والسياسة فرعان عليه. ويصعب تجميع التشابه بين الطب من ناحية، والأخلاق والاجتماع والسياسة من ناحية، في بابٍ واحد؛ لأن التشبيه قائم في كل العلوم. والطب ليس هو الطب التجريبي، بل هو الطب العقلي الذي يقوم على الاستنباط، والذي يُشارك الأخلاق في فضيلة الاعتدال.
والسؤال هو: هل الإنسان قادر على أن يكسب أفعال الصحة وهي مشروطة بالبدن؟ وهل التشابه دقيق بين طب الأبدان وطب النفوس؟ أليس البدن ميدان الحتمية الطبيعية بينما النفس ميدان الحرية الإنسانية؟ وهل علاج الأبدان بالطب مثل علاج النفوس بالأخلاق، أم إن علاج النفوس بالأخلاق مثل علاج الأبدان بالطب؟ أيهما أصل وأيهما فرع؟ أيهما شاهد وأيهما غائب حتى يُقاس الغائب على الشاهد؟ لقد انشغل الحكماء بالكمال الإنساني، البدني والنفسي، ووضعوا علمًا واحدًا لا فرق فيه بين علم الطب للأبدان وعلم الأخلاق للنفوس؛ كلاهما يهدف إلى الإصلاح وميزان الاعتدال بلا زيادة أو نقصان، وبلا إفراط أو تفريط، وحرارة البدن المُعتدلة مثل الفعل الخلقي المُتعادل. ويظل السؤال قائمًا: هل التوسط مفهومٌ طبي (الاعتدال) انتقل من طب الأبدان إلى طب النفوس، أم إنه مفهومٌ أخلاقي انتقل من علم الأخلاق إلى علم الطب؟ وقد يكون ميزانًا كونيًّا إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وإذا كان الطب جغرافيًّا مُرتبطًا بالبيئة وارتباط الأبدان بأحوال البُلدان، فكيف تكون النفوس الحرة مرتبطة بالأبدان؟ وفرق بين الحتمية الطبيعية والحرية الأخلاقية.
والسؤال هو: هل التوسط وسيلة وليس غاية فما هو الفعل المتوسط لاكتساب الأخلاق الحميدة؟ والتوسط ليس كميًّا بالضرورة، زيادةً أو نقصانًا، بل هو كيف، أي الاعتدال، الحالة النفسية التي فيها البدن، والتي تؤثر فيه الزيادة والنقصان. فالطعام ليس فقط كميًّا، بل هو إحساسٌ كافٍ ليس عند الوزان بل في النفس، الشبع من رؤية الحبيب، الفهم في حالة الفراغ النفسي. وقد يكون التوسط إلى الفاتحة بالطعام بالامتناع عنه كما هو الحال في الزهد. ولا يوجد ميزان اعتدال واحد معياري لكل الناس نظرًا للفروق الفردية بين البشر وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا. وقد يكون الفعل الخلقي أحيانًا خارجًا عن حد الاعتدال، فعلًا مُتطرفًا في المواقف الجدية، مثل قدرة الفقراء على الأغنياء، وقدرة المظلوم على الظالم، وقدرة المُحتلين على المُحتلين؛ أي أفعال المقاومة للفقر والقهر والتسلط حتى يعود الاعتدال في الكون والعدل بين البشر.
ويرى الفارابي أن الطبيعة أميل إلى الطرفَين في حين أن الأخلاق هي الوسط. فإذا كان هذا التقابل صحيحًا فالدعوة إلى الوسطية ليست أخلاقًا طبيعية، وتكون الأخلاق الطبيعية أخلاقًا لا وسطية، مثل التهوُّر مع العدو، والتبذير مع الحبيب. وإذا كانت الفطرة أحد مظاهر الطبيعة، فهل تميل الفطرة إلى الطرفَين وليس إلى الوسط، أم إنها الثنائية المُتطهرة التي تُسقط نفسها على الطبيعة في الصراع بين الخير والشر؟ يرى الفارابي أن هناك آلة قيادة تقود الطبيعة نحو الوسط وهي الرويَّة، وهي عقل وإرادة، بصيرة واختيار.
قد يكون الدليل على استحالة هذا التحليل الحسابي للأخلاق هو استحالة وجود مثل هذا الوسط المُتناسب، وأنه أقرب إلى أحد الأطراف منه إلى الطرف الآخر. يمكن التعرف على الوسط عن طريق سهولة أداء الفعل، ومع ذلك قد يكون الفعل الأخلاقي صعبًا، مثل مجاهدة النفس على الفضيلة. ويمكن الاعتماد في ذلك على القياس، وهو عدم التأذِّي بالفعل أو الالتذاذ به أو الالتذاذ العظيم أو الأذى اليسير؛ فالأخلاق هي عملية التحرُّر من الأطراف.
(٣) تحصيل السعادة
ثم ينتقل الفارابي من سيكولوجية الأخلاق إلى ميتافيزيقا الأخلاق في تحصيل السعادة؛ فالغاية القُصوى للأخلاق تحصيل السعادة والتنبيه عليها. كتب الفارابي التنبيه على سبيل السعادة في الأخلاق عامةً وفي السعادة خاصةً، وتعني السعادة الكمال، ويعني الكمال الخير، والطريق إليهما شاقٌّ، ويدل على الاتجاه نحو غاية صعودًا، ثم فيض كل أثر في العالم من الخير نزولًا. الأخلاق صعودًا، والفيض نزولًا. وقد يكون هذا هو أضعف جزء في فلسفة الفارابي؛ الفيض في ميادينه المختلفة، الكون والأخلاق، العالم والاجتماع، الوجود والسياسة.
وقبل أن يعرض الفارابي في «تحصيل السعادة» علم الأخلاق يصنِّفه مع باقي العلوم، واستنباط إحصاء العلوم من علم الأخلاق؛ فنظرًا لأن الفضائل النظرية أربع فالعلوم أربعة؛ فالحدس الموجه إحصاء العلوم، منظومة العلوم ابتداءً من علم الأخلاق.
فالأشياء الإنسانيات بها الحصول على السعادة في الدنيا والآخرة أربعة من أدنى إلى أعلى؛ الصناعات العملية، والفضائل نوعان فطرية ومكتسَبة، والمكتسبة سبعة؛ حيرة أو ضلال أو تخيل أو إقناع أو ظن أو بقصد يقين أو يقين. موضوع السعادة عملي، والمدخل إليه نظري.
والعلوم الفطرية أوائل لا شعورية منذ بداية حياة الإنسان، ولا يعرف من أين أتت، ومتى حصلت. والعلوم المكتسَبة تحصل بتأمُّل واستنباط وتعليم، سواء تم ذلك بالحس والتجرِبة أو بالفعل. وهي قسمةٌ شائعة في علم أصول الدين؛ قسمة العلم إلى فطري ومكتسَب، بديهي ونظري، وكل الطُّرق إلى العلم صناعية؛ أي إرادية مختارة، ثم تأتي الفطرة كأساس لهذه الطُّرق الصناعية. تضع الفطرة صناعية لوضع الطُّرق الصناعية وهو المنطق؛ فالمنطق نظرية العلم، أو علم العلم، أو الطريق إلى وضع نظرية في العلم. ثم تأتي الطبيعة مباشرةً بعد المنطق كما هو الحال في علم أصول الدين؛ نظرية الوجود بعد نظرية العلم. بعد المنطق يأتي علم الموجودات، إما بالفحص المباشر أو بالتعليم من الغير؛ فالعلم علاقةٌ متبادلة بين العالم والمتعلم، كما هو الحال في علاقة الشيخ بالمُريد في التصوف.
وأولوية المنهج على الموضوع تجعل الأمر كله بعيدًا عن الموضوع. تبدأ السعادة بنظرية العلم، وتنتهي الأخلاق بنظرية المنطق. ولما كان المنطق هو المدخل إلى نظرية العلم أصبحت نظرية العلم هي المدخل إلى الأخلاق؛ فالمنطق بطُرقه ووسائله يوصل إلى العلم، ويقين العلم ودرجته تنبع من المنطق ومستواه.
ويتحدث الفارابي عن الأشياء الإنسانية؛ أي عن الإنسانيات. كما يتحدث عن الأمم؛ أي عن الإنسانية جمعاء، والتوحيد بينها وبين أهل المدن والشعوب. كما يتحدث عن السعادة في الدنيا والآخرة، وعدم التفرقة بين العالمَين في بنية الموضوع وكأنه عالمٌ واحد؛ ومن ثَم يُعطي الفارابي علم الأخلاق أكبر قدر ممكن من العمومية والشمول.
ومهمة القوة الفكرية استنباط الأشياء النافعة للحصول على غاية، ثم بعد ذلك الفحص عن وسائل تحقيقها؛ أي معرفة الغاية ثم الوسيلة إليها. ولما كانت أنواع الخير ثلاثة، خير في الحقيقة، وهو استنباط الأشياء الجميلة والحسنات، وخير مظنون، وشر في الحقيقة، وهو استنباط الأشياء القبيحة والسيئات؛ تكون مهمة القوة الفكرية استنباط ما هو فاضل وخير، وليس استنباط ما هو شر؛ فأعمال الفكر مرتبطة بالقيمة وليست فكرًا خالصًا مجردًا منها. أعمال الفكر والروية في الخير وليست في الشر. الفكر لا يعمل إلا في الخير، والشر طارق عليه من الأهواء والمصالح.
وينقص هذه القسمةَ البنيوية الشرُّ المظنون ليُقابل الخير المظنون، كما ينقصه الفعل الطبيعي خارج الحكم بالخير والشر، وعندما تكتمل البنية الخماسية تصبح مطابقة لأحكام التكليف الخمسة عند الأصولي؛ الواجب والمحرم مثل الخير والشر، أو المندوب والمكروه مثل الخير والشر المظنونين، والفعل الطبيعي والمباح؛ ومن ثَم تكون أنواع الخير تنظيرًا للموروث الأصولي. وفي هذه الحالة يظل سؤال: لماذا استنباط الخير دون الشر؟ ولماذا لا يتم تطبيق نظرية الفيض على مستوى الأفعال الخلقية دون استثناء؟
والسؤال هو: هل استنباط الفضائل الخلقية من الفضيلة الفكرية بالطبع أم بالإرادة؟ وإذا أمكن الاستنباط بالطبع فهل يمكن بالإرادة؟ وهل الإرادة موضوع استنباط أم فِعل حُر؟ هل هي تنزيل أم تأويل؟ هل يمكن استنباط الفعل من الذهن، والحرية من العقل، والعمل من النظر؟
ويمكن رد الطبيعة والإرادة إلى الفطرة والاكتساب. الطبيعة هي الملَكة التي توجد في الحيوانات غير الناطقة، فطرية في النفس. الملكة تَكرار الطبيعة والفطرة، والإرادة تَكرار الملَكة التي هي تَكرار الفطرة والطبيعة. والسؤال هو: ألا يؤدي رد الفطرة والاكتساب إلى الطبيعة والملَكة إلى أن يصبح كل شيء عادة؛ وبالتالي يُقضى على حرية الاختيار؟
والسؤال هو: هل هذه الأحكام الخلقية للمدح والذم أفعال للنفس أم صفاتٌ موضوعية للأفعال؟ وهل النظر والسماع من أفعال الجسم أم من أفعال النفس؟
- (أ) إحصاء الأخلاق خلقًا خلقًا، ورصد الأفعال الكائنة عن خلقٍ خلق.٣٠
- (ب) التأصل في النفس؛ أي الخلق الذي تعوَّد الإنسان عليه، وهل هو جميل أو قبيح، أي فعل يؤدي إلى اللذة، وأي فعل لا يؤدي إلى لذة، وهل تصدر الأفعال عن الخلق الجميل أو القبيح. تعني الأخلاق هنا العادات، وليس الأخلاق الإرادية والاختيارية أو الأخلاق الحيوية. وواضحٌ التوجه اللاشعوري من إحدى القواعد الفكرية، جلب المصالح ودرء المفاسد، ومتى يجوز تقديم إحداهما علةً للآخر.٣١
وإذا كانت أفعال الفرد واختياراته أساسًا بالاعتياد، فهل أصحاب السياسات أي الرؤساء هم الذين يعوِّدون المجتمع على اكتساب الفضائل وتجنُّب الرذائل؟ وهو ما يعني بلغة العصر دور أجهزة الإعلام في تربية الجماهير على ما يريده الرؤساء. وما مصدر سلعة الغذاء؛ السماء أم من الأرض؟ وماذا عن المعارضة التي ترفض التعود على أفعال الرؤساء وتأتي بأفعالٍ بديلة أو مُناقضة؟ وهل العامة مجرد مادة بلا صورة؟ ألا تستطيع العامة في لحظة الضنك والقهر الثورةَ على ما عوَّده عليه الرؤساء من أفعال؟ وهل العادات التي يريد أن يربِّيَ عليها أصحاب الرياسات مجتمعاتهم من اختراعهم تعبيرًا عن مصلحةٍ عامة، وهو ما يُعبَّر عنه بلغة العصر المشروع القومي؟ وماذا لو كان الرؤساء أشرارًا وأرادوا أن يعوِّدوا الناس على الشر، فالناس على دين ملوكهم كما يقول ابن خلدون؟ وماذا عن مسئولية الناس وفطر الخير فيهم وفي الرؤساء؟ وكيف يصبح الرؤساء والناس أشرار في مجتمعٍ خيِّر، أو أخيارًا في مجتمعٍ شِرير؟
(٤) العقل النظري والعقل العملي
العقل النظري قوةٌ تحصل بالطبع دون بحث أو قياس، علمٌ يقيني للمقدمات الكلية الضرورية التي هي مبادئ العلوم. بعد ذلك يتأسَّس علم الموجودات النظرية التي لم يصُغْها إنسان، ويكون بالقوة قبل أن تحصل الأوائل، وبالفعل بعد حصولها. وهي قوةٌ يقينية عارمة عن الخطأ. هو العقل البديهي الذي انتعشت فيه علومه (دون ذكر لعقل فاعله).
والحكمة هي العلم بالأسباب البعيدة التي هي سبب وجود الموجودات، والأسباب القريبة وارتقائها في السبب الأول، وهو الواحد بالحقيقة، قائم بذاته، مُكتفٍ بذاته، ليس جسمًا ولا يُشاركه أحد، وهو الجدير بالاسم والموجودات الأخرى باشتراك الاسم، هو الله بالحقيقة، والإنسان والعالم بالمجاز، حق أول وكمال أول ووجود أتم. الموجودات منه مرتبةٌ أعلى وأسفل وأوسط. والأول يدبِّر كل شيء، أو يعتني بكل شيء. هذه هي الحكمة بالحقيقة، وتُقال مجازًا على من حذق هذا العلم؛ فالحكيم هو العالم بالله، والحكمة هي العلم بالله، منطقية بطبيعةٍ إلهية. وكلها عباراتٌ إنشائية صوفية وجدانية سلبًا وإيجابًا، تستبعد العلم بالمُتغيرات.
والعقل العملي قوةٌ يحصل بها الإنسان عن كثرة تجارِب وطول مشاهدة الأشياء المحسوسة، مقدمات يمكنه بها الوقوف على ما ينبغي أن يفعل ولا يفعل في أمرٍ ما. البعض منها كلية تندرج تحتها أمورٌ أخرى، وبعضها جزئية تُستعمل كمثالات لأمورٍ تُشاهد. وهو عقل بالقوة قبل التجربة، وبالفعل بعدها. يزداد بازدياد السن وتقدم العمر؛ ومن ثَم يمكن رصد صفاته بأنه عقلٌ مرتبط بالتجربة والمشاهدة، يُعطي ما ينبغي أن يكون، لا تعارض فيه بين الحس والعقل أو بين الحس والأمر. مقدماته كلية للاستنباط أو جزئية للتمثيل، يقوم في حاله التمثيل بقياس الغائب على الشاهد. وهو عقل بالقوة قبل التجربة، وبالفعل بعدها، وكأنه عقلٌ مكتسَب، يزداد بالسن والعمر. وقد يتساءل أحد: وماذا عن الخبل والجنون والمراهقة المتأخرة؟
والتعقُّل هو القدرة، جودة الروية والاستنباط للأشياء التي هي أجود وأصلح، هو القوة التي إذا وُجدت في الإنسان أصبح عاقلًا، وحصل على خيرٍ عظيم حقيقي وغايةٍ شريفة فاضلة. والكياسة هي القدرة على جودة استنباط ما هو أفضل في بلوغ خير يسير. والدهاء هو القدرة على صحة الروية في استنباطٍ ما هو أصلح ليتمَّ به شيءٌ عظيم مظنون على أنه خير، كالثروة أو اللذة أو الكرامة والخير والجربذة والخبث. هي جودة الاستنباط لما هو أبلغ وأجود بفعل شيء حسن يظنُّ خيرًا من ربح أو لذة، وهي وسائل لا غايات. المُتعقل فاضل وكذلك الكيِّس، والداهي والخبُّ شِريران من ذوي نقائض.
والتعقُّل على أنواع: التعقل المنزلي، وهو جودة الروية لتدبير أمور المنزل. والتعقل المدني لتدبير أمور المدينة، وجودة الروية فيما هو أفضل وأصلح في بلوغ جودة المعاش، دليل الخيرات الإنسانية مثل اليسار والجمال، ومنها الخصوصي لمقاومة العدو، والمشورة، وهو استنباط للغير، وقد يكون كثيرًا أو يسيرًا.
وهناك منافع للجزء النظري في الفلسفة وضرورة الجزء العملي؛ فالنظر أساس العمل من عدة وجوه؛ العمل فضيلة إذا قام على النظر والمعرفة، والمعرفة النظرية عادية بالدربة واكتساب الهيئة. والمعارف النظرية ابتداءً من الأعداد (الحساب) ثم الأعظام (الهندسة) ثم المناظر ثم الأعظام المُتحركة ثم الموسيقى والأجسام السماوية تم الأثقال ثم الحبل. وقوفهم بلا مادة. وهناك مبادئ أخرى لإدراك الأشياء التي تسير في مواد أو تكون مُنافسة لها مثل العناصر الأربعة. وأخيرًا تأتي أسباب وجود الأجسام الطبيعية انتهاءً إلى الأجسام السماوية والنفس الناطقة والعقل الفعَّال، وصولًا إلى الغاية الأولى؛ فالنظر الإلهي غاية الإنسان. ويُعطى الجزء العملي بوحي لمعرفة الأوامر والنواهي، ويُسمى علمًا باشتراك الاسم. فإذا كانت المعرفة النظرية مبادئ التعليم (الرياضيات) ومبادئ الوجود (العالم المتوسط بين الطبيعيات والإلهيات)، فإن النص يدخل في شق العلم، وهو الحدس الرئيسي للفارابي في تصنيف العلوم ومراتب الموجودات.
وهناك آراءٌ خاطئة هي في الغالب آراء المتكلمين، مثل أن السبب الأول لا يعقل ولا يعلم ذاته، أو أن المعقولات الكلية حاصلة له دفعةً واحدة بلا زمان، كلها في ذاته، معلومة له بالفعل تطهرًا من العلم الاستقرائي، وأنه لا يعلم الجزيئات المحسوسة كلها، ويتصورها وكأن بها الكذب والصدق والاعتقادات المضادة في معقولاته كردِّ فِعل على تصور التغير في العلم الإلهي (محمد بن كرام). وهو الموضوع الذي كفَّر فيه الغزالي الفلاسفة من بعد، واتهامهم بإنكار علم الله بالجزيئات، ودفاع ابن رشد عن الفلاسفة بأن الله لا يعلم الجزيئات بعلمٍ بعدي إحصائيًّا، بل بعلمٍ فِعلي استنباطيًّا. كل هذه الآراء الخاطئة في موضوع العقل الأول كمقدمة لإنشاء الأخلاق الإلهية.
والذهن هو القدرة على مصادفة صواب الحكم في نزاع الكراء والقدرة على تصحيحها، هو جودة استنباط في الصحيح من آراء، هو نوع من التعقل في أداء وظيفة المعيار، وهو أعلى درجة من الظن الصواب؛ لأنه به جهدٌ أعلى من التعقل والتصحيح، وليس مجرد مصادفة.
والجنون هو تخيُّل في الفعل والترك ضد المشهور وما جرت عليه العامة من كثير الأمور الحسية. والحمق هو تخيُّل المشهور على نحوٍ سليم مع تجارب محفوظة، وتخيُّل الغايات التي تُعشق سليمًا. والروية التي تخيل ما لا يؤدي إلى الغاية، بل إلى الضد، ويكون الفعل والمشهور حسب تخيل لا يؤدي إلى الفاسد؛ لذلك يبدو الأحمق عاقلًا، ويكون مقصوده صحيحًا، ولكن رويته تُوقِعه في الشر دون قصد.
ويدخل منطق الظن مع منطق اليقين في تحديد المصطلحات؛ فالخطابة هي القدرة على المخاطبة بالأقاويل التي تكون بها جودة الإقناع بشيءٍ ممكن للفعل أو الترك، يستعملها الفاضل في الخيرات، والدهاة في الشرور. والفعل والترك مقولتان أصوليتان في مبحث الأمر والنهي من مباحث الألفاظ.
وجودة التخييل غير جودة الإقناع؛ فبعد أن يعقل السامع بعد التصديق بالإقناع تنهض نفسه إلى طلب شيء مخيَّل والهرب منه أو النزاع إليه أو الكراهة له، وإن لم يقع له به تصديق. وتُستعمل فيما يُسخط ويُرضي، ويُفزع ويؤمن، وما يُلين النفس وما يشد معًا. وكثير من الناس يؤثر فيهم التخييل دون الروية؛ إما لأنهم لا روية لهم بالطبع أو يتركونها في أمورهم؛ فالأصل تجربةٌ حسية واقعية، ثم يتم تخيل المعنى بشيءٍ حِسي، مثل أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ.
والأشعار تهدف إلى تخييل الشيء، والشعر إصلاحي في كل أنواعه لأن كل شعر له هدف، ويتضمن حكم قيمة كما وصف القرآن في آية الشعر. والأشعار ستة أصناف؛ ثلاثة ممدوحة، وثلاثة مذمومة. الممدوحة هي أولًا: الإصلاح، القوة الناطقة وتوجيهها نحو السعادة، وتخييل الهِبات والخيرات، وتحسين الفضائل وتقبيح الشرور. ثانيًا: إصلاح عوارض النفس لتكون أقرب إلى الاعتدال. والعوارض مثل الغضب وعزَّة النفس والقسوة والنخوة والهمة ومحبة الكرامة والغلبة والشِّرة، وتوجيهها نحو الخير دون الشر. ثالثًا: إصلاح العوارض المنسوبة إلى الضعف واللِّين من عوارض النفس، كالشهوات واللذات والرقة والرخاوة والرحمة والخوف والجزع والغم والحياء والطرف واللين، وتوجيهها أيضًا نحو الخير دون الشر.
والحقيقة أن هذه المصطلحات بين العقل النظري والعقل العملي؛ لأنها تشمل طُرُق الاستدلال وأساليب التعبير، وهي أقرب إلى تنظير الموروث منها إلى تمثُّل الوافد. تضمُّ الوحي والنبوة كتجارِب إنسانية معاشة من عمل العقل والخيال. وقد يختلف الحكم على بعض الانفعالات؛ فمثلًا: هل عزة النفس والنخوة وهل رقة النفس والحياء والرحمة تطرُّف؟
غاية الفارابي من تحديد هذه المصطلحات هو تصحيح الأخطاء الشائعة الموروثة من المتكلمين بعد أن تحوَّل الكلام إلى الفلسفة مع مزيد من التنظير للموروث، من التصور الكلامي لله إلى التصور الفلسفي للموجود الأول.
(٥) الخير والشر
ثم ينتقل الفارابي من «لاهوت الأخلاق» إلى «أنطولوجيا» الأخلاق، ويعرِّف الواجب والممكن والمستحيل، الوجود (الجوهر) والكمال والنقص، الخير والشر والطبيعي، كما يفعل فلاسفة الوجود. وبلا مقدماتٍ تظهر مجموعة من الفقرات في الإلهيات والطبيعيات، وكأن موضوع الأخلاق لم يتغير، مثل أقسام الوجود الثلاثة، الواجب والممكن والمستحيل، التي يتَّحد فيها العقل والوجود؛ فهي أحكام العقل وأقسام الوجود في آنٍ واحد؛ فالوجود ما يمكن أن يوجد وألا يوجد وهو الممكن، وما لا يمكن أن يوجد أصلًا وهو المستحيل الأصلي، وما لا يمكن إلا أن يوجد وهو الواجب بصيغة النفس المزدوج. الأساس هو الوجود ثم العدم ثم الإمكان، أو الحال كواسطة بين الوجود والعدم، وهي المفاهيم الأساسية في علم أصول الدين في المبادئ العامة منذ العقيدة النظامية في القرن الخامس مُستقاة من علوم الحكمة. وقد تكون هذه القسمة طرفَين ووسطًا، أساس نظرية الفضيلة كوسط بين طرفَين؛ فالموجودات ثلاثة؛ ما لا يمكن أن يوجد وألا يوجد وهو النقص (الممكن)، وما لا يمكن أن يوجد في حينٍ ما وأن يوجد في حينٍ آخر (المستحيل)، وما لا يمكن أن يوجد أصلًا وهو الكمال (الواجب)؛ فتتحوَّل مقولات العقل والوجود الثلاث، الواجب والممكن والمستحيل، إلى مقولات الأخلاق بين الكمال والنقص. والممكن قد يكون على الأنقص أو على التساوي أو على الأكثر، طرفان ووسط طبقًا لمراتب الكمال في الحياة الخلقية.
والعدم نقص في الوجود، وكذلك الاحتياج والشبه. وإن كان في الإنسان مثله، فالإنسان يحتاج إلى أكثر من واحد؛ ومن ثَم لا يمكن تصوُّر الله بدون الإنسان عن طريق القلب أو التضاد، وكل ما له ضد فهو ناقص الوجود، وله عدمٌ زائل مفتقر في وجوده إلى غيره، وما لا عدم له لا ضد له. وكأن التضاد نقص، مع أنه قد يكون كمالًا تنظيرًا للموروث الأصلي وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ.
ثم يتم الانتقال من أنطولوجيا الوجود العام إلى أنطولوجيا الأخلاق في تعريف الخير والشر؛ فالشر غير موجود أصلًا ولا في أي شيء في هذا العالم، على عكس أنطولوجيا الأخلاق مثل الخطيئة الأولى والأخلاق البوذية وآلام البدن والنفس والديانات الثنوية في فارس التي جعلت الشر إلهًا يُصارع الخير إلهًا ثانيًا، وكل ما هو خارج إرادة الإنسان خير. والخير في الكون من السبب الأول، نظام وعدل لا شر فيه؛ فالخير والشر إراديَّان.
والشر نِسبي، كل شيء يبلغ به الشقاء بما في ذلك الأفعال الإرادية، والشفاء في مُقابل السعادة؛ فهو شرٌّ ذاتي إنساني عملي إرادي. والخير نِسبي كذلك، كل ما ينفع في بلوغ السعادة، والسعادة كفاية في ذاتها وليست كوسيلة لبلوغ غاية أخرى، فهو خيرٌ إنساني ومطلبٌ خلقي ورغبة في الكمال. والخيرات ضروب؛ ما يُقابله شر، وما لا يُقابله شرٌّ أصلًا؛ فالخير أعمُّ من الشر، والشر أخصُّ منه. الخير أصل، والشر فرع عليه.
لا يوجد خير أو شر في الوجود، وليست اللذة خيرًا وليس الألم شرًّا؛ فالوجود خير بالنسبة وشر بالنسبة، وكذلك اللذات والأذى. أما الوجود واللاوجود كخير أو شر فليسا موجودَين في شيء من العوالم الروحانية، كل شيء في العوالم الروحانية والسماوية. أما الممكنات الطبيعية فهي إرادية إما بالصورة أو بالمادة، إما على الأكثر أو على الأقل أو على التساوي، وكلها خير. كما هو الاستحقاق والعدل كما هو الحال عند المعتزلة.