سادسًا: الأخلاق الإشراقية (ابن سينا)
وهي الأخلاق التي تقوم على إشراق الفضائل في النفس، فضيلة المعرفة بالفطرة في «حي بن يقظان»، والخلاص من البدن في «رسالة الطير»، والأخلاق النفسية في «دفع الغم عند الموت» و«الحث على الذكر»، والفضائل الباطنية التي تذهب إلى ما وراء الشعائر، مثل «الصلاة» و«الزيارة»، وأخيرًا الأخلاق العقلية في «علم الأخلاق» و«العهد».
(١) أخلاق الطبيعة والفطرة
وهي الأخلاق الطبيعية الفطرية التي صوَّرها ابن سينا في «حي بن يقظان». والمعنى الرمزي للعنوان أن الحياة ابنة اليقظة، وأن الحياة حياة الوعي الداخلي والضمير الخلقي؛ لذلك تظهر لغة البواعث، «وانبعث من ذات نفسي». ونظرًا لأهمية لفظ الحياة فإن الابن «حي» وأباه «حي»، هو اسم الشيخ وليس اسم ابن سينا. ودون تدخُّل المُريد هي أقرب إلى «تدبير المُتوحد».
وبالرواية شخصيتان؛ حي والشيخ الحكيم، وحوار بين الاثنين، أقرب إلى الحوار مع الذات (المونولوج) منه إلى الحوار مع الآخر (الديالوج)، وهو حوار بين العقل والغرائز. وبدأ الشيخ بالسلام؛ يعني الكرم والجود والإقبال على الآخرين. وهي سيرةٌ ذاتية لحياة ابن سينا؛ فقد اشتغل أولًا بالعلوم الدينية، ثم بحساب الهند والجبر والمقابلة، ثم المنطق، ثم العلوم الطبيعية والإلهية؛ فالدين ليس طارئًا عليه، والحكمة الطبيعية والإلهية مُتأخرة.
ربما كان اتجاهه إلى الإشراق ردَّ فِعل على انخراطه في الحياة الدنيا وإفراطه في الشهوات والملذَّات؛ فالقصة أقرب إلى التجربة الشخصية والأزمة الروحية، وكأنه الغزالي في «المُنقذ من الضلال».
يهدف التأويل إلى تحويل العالم الخارجي إلى العالم الداخلي، وتتكرر نفس المعاني بصورٍ مختلفة. ويأخذ المعنى رموزًا عديدة، مثل قُوى النفس مرةً برموز المكان والاتجاهات فيه، ومرةً بلغة الحيوان، ومرةً بلغة الأفلاك. وأحيانًا تتضارب الدلالات؛ فالمشرق مهد النور والصورة في مُقابل المغرب مهد الظلمة والمادة، وفي نفس الوقت شياطين المشرق هي القوة المُتخيلة، وهي أقرب إلى السلب منها إلى الإيجاب.
ويرمز إلى العقل الذي اكتسب التجارِب من السنين والرحلات. والرفقة ليست أشخاصًا، بل الشهوات والغرائز وسائر القُوى الإنسانية؛ فالقصة نظرية في التحرُّر والخلاص الفردي. والسؤال هو: والآن يكون التحرُّر من أي قيد؛ من الشهوات والغرائز أم من القهر والفقر والتخلف والجهل وعدم الولاء واللامُبالاة؟
والرمز أكثر قدرةً على التعبير من التصور، أقل قدر ممكن من اللفظ مع أكبر قدر ممكن من المعنى. ومن شدة التقابل تخرج بعض العبارات اللاذعة، مثل القوة التي على اليسار، وهي القوة الشهوية القذرة.
وأحيانًا يكثُر الرمز ويتكرر، ويغيب عنه الوضوح فلا يُحقق الهدف منه. ولمَ كل هذا الرمز وقد عبَّر ابن سينا من قبلُ عن مضمون الفلسفة الإشراقية في عديد من الرسائل دون صعوبة أو ألغاز للتعبير عنها مرةً ثانية رمزًا دونما حاجة للتخفِّي من القهر السياسي؟
وهل يجوز تأويل الرمز أم الإبقاء عليه بلا تأويل في وقائع محدَّدة تتغيَّر من عصر إلى عصر من أجل إعادة القراءة؛ فقد يكون القيد الآن ليس الشهوات والغرائز، بل الفقر والقهر والاستعمار والتخلف والجهل والتبعية والتفكك واللامبالاة؟
وموضوع القصة الإشراق والتجرد والتخلِّي عن الحواس، وليس اتفاق الدين والفلسفة كما هو الحال عند ابن طفيل؛ ففي الفلسفة بعض الجوانب الصوفية، وفي التصوف بعض الجوانب الفلسفية. إشراق الحكمة عند ابن سينا في مُقابل حكمة الإشراق عند السهروردي؛ وبهذا المعنى سُمي ابن سينا فيلسوف الإشراق حقيقةً، أو صاحب الحكمة المشرقية مجازًا.
والقصة رمزيةٌ تقوم على الثنائية المُتقابلة المعروفة في الإشراق بين النفس والبدن، والروح والمادة، والنور والظلمة، والرِّي والعطش، والستر والكشف، والحجاب والسفور. هي معركة بين الحس والعقل، بين القوى النفسية والقوى الناطقة التي تنتهي بانتصار أحدهما على الآخر. والرفاق هم الغرائز والعقل، والأمام قوة التخيل، واليمين القوة الغضبية، واليسار القوة الشهوانية، والمُموه القوة الخيالية، والهدى طريق العقل. والإنسان مع رفاقه أي قُواه للسياحة والمُتنزهات. ويظهر الشيخ حي بن يقظان رمز التجارب والعقل كالشيخ مع المُريد عند الصوفية. ويبدأ الحوار بعد بداية الشيخ بالتحية. اسمه حي بن يقظان من بيت المقدس، حِرفته السياحة، وجهته إلى أبيه، أخذ منه مفاتيح العلوم، وانتهى إلى علم الفِراسة، علم الظاهر والباطن. وينقد الشيخ الخيال والوهم والحس والقوى الغضبية والشهوية. ويؤثر الابتعاد عن هذه الصحبة رفاق السوء وعدم ترك الزمام لهم.
وقد أسَّس ابن سينا علم الفِراسة لمعرفة أثر النفس في الجسم، وهو موضوع رسالة «الفعل والانفعال». ويعني هذا العلم الظاهر الذي يكشف الباطن، ذريعة لابن سينا لشرح الفراسة التي أسَّسها، والتي لم يكتب فيها رسالة كما فعل الرازي، والتي يُعطيها تأويلًا صوفيًّا. والفطرة والفراسة ليسا في حاجة إلى تأويل.
وتأخذ الجغرافيا الطبيعية معانيَ الأقاليم الروحية. وأسماء الأماكن والأعلام رموزٌ تربوية؛ فالتقابل بين المشرق والمغرب تقابل بين الهيولى والصورة. والمشرق لا يسكنه أحد. والعين وحدها ربع المعمورة، إنما يعني دار الهجرة والعزلة والتوحد. والسياحة الجولان الروحي. بلده بيت المقدس؛ أي المعراج إلى السماء، وبلاده برزة هي الأعضاء والبدن وعمل قُواه. والبرزة تعني النهضة والتيقظ وراء البدن. والمنتزهات هي الأمور البعيدة؛ أي المقولات. ولكل فلك مدنٌ وسكان. والأرقام تدل على الأفلاك. فأحيانًا يكون الرمز بين الآفاق مثل الأفلاك، أو من النفس مثل القوى، أو من الحرث مثل المموه والهدى واللمعة، وأحيانًا من الحيوان. ويجمع ابن سينا بين علم الفلك وعلم التنجيم كما يفعل إخوان الصفا؛ فالتنجيم هو الدلالة الباطنية للنجوم.
والسدود استحالة العقل التخلص من الخيال والحس. والخافقان عالم المركَّبات المحسوسة في الأرض وفي السماء. والمدَّان القريبان الهيولى والصورة؛ الأولى من الغرب، والثانية من الشرق. والبرزخ مدد للعقل الهيولاني في المعارف. واللمعة نور الكائنات الفاسدة المستمدة من أقوال الصورة، والأقاليم الأنواع المعدنية والنباتية والحيوانية والإنسانية. والأمور الأجرام السماوية، وأقربها القمر، وهو أولها، وآخرها الفلك التاسع، وفوقه إقليمٌ آخر، علة العلل، وهو الله الذي لا يكون ولا يفسد. والمدن الثمان القمر، صغار الجثث، حثات الحركات. والمدن التسع عطارد، الكتابة، والنجوم، والنيرنجيات والطلسمات، والمصانع الدقيقة، والحركة الثقيلة.
والمدن الثمان الزهري والصحابة والمرء والخير والقصف والطرب. والمدن الخمس الشمس، بسيطة في الجسم. والمدن السبع المريخ، الإفساد في الأرض، والمشتري المغالاة في العفن، وزحل السر، وفلك البروج اثنا عشر قسمًا. والفلك التاسع الروحانيون والملائكة.
والملك النفس الإنسانية، والخازن الآخر القوة الوهمية، والقرن الأول (الظلم والغشم) القوة الغضبية، والقرن الثاني (الفحشاء) القوة الشهوانية، والقرن الطيار القوة المتخيلة، والجن القوى المتعلقة بالحواس، والحفَظة الكرام الكاتبون قوى النفوس الإنسانية، والملوك العظام النفوس الفلكية، والقرن الذي يطير القوة المدركة في الإنسان، والقرن الذي يسير القوى المحركة، وقبيلة البهائم الشهوية، وشياطين المشرق القوة المتخيلة، والغالب النفس الإنسانية، وسكك البرية الخمس الحواس الخمس، والأنبياء في كتابٍ مطوي مختوم. وهناك طوائف من الملائكة الأرضية ميمنةً وميسرةً كالجن والإنس، والحفَظة كرامٌ كاتبون. اليمن إمارة، واليسار عمالة. وهناك هبوط إلى الأرض ورقيٌّ إلى السماء في حركتَي الذهاب والإياب. والإشراق النهائي في الفناء والصوفية، مجوهرات وشباب وبهجة.
ومن ثَم يتراوح الرمز بين الإنسان والدولة. الدولة لها رموزها مثل البريد وسككه الخمس والملك والقُواد والموظفون. والإعلام له خازن يعرض على الملك الأسرى. والإنسان مثل الدولة من حيث الرئاسة والأعوان. الإنسان دولةٌ صغيرة، والدولة إنسانٌ كبير. فالرمز له مدلولٌ سياسي بالإضافة إلى المدلول الإشراقي، مثل القرن الأول الذي يدل على الظلم والغشم سياسيًّا، والقوة الغضبية إشراقيًّا.
وفي «رسالة الطير»، وهي قصةٌ رمزيةٌ أخرى، يبدو ابن سينا صوفيًّا رمزيًّا خالصًا يفوق الغزالي الذي له أيضًا رسالة بنفس العنوان. هي رسالةٌ صوفية خالصة، يعبِّر فيها ابن سينا عن إطلاق سراح النفس من القفص، من السجن إلى الحرية، وفك رباط الأرجل والطير حتى الملك والرئاسة؛ فقد نصب قومٌ الشراك للطيور فسقطت فيها، إلا أن بعض الطير أخرجت رءوسها وأجنحتها من الشَّرَك، وبرزت تطير وفي أرجُلها بقايا الحبائل. لقد فُتح باب القفص، ولكن الأرجل ما زالت في الحلقة، وطارت الطيور فوق الجبال، جبل الإله، وله ثمانية شواهق، ووصلت حتى السابع، فوجدت مدينة عليها ملكٌ عظيم يكشف الضر عن المظلوم، ويسكن في قصر به صحنٌ فسيح، وللملك جمالٌ يوقع في حبه، جماله يصعق الإنسان، ولا يُفيق إلا بالأدوية، ولا يقدر على حل الحبائل من الأرجُل إلا رسول، ويستريح الطير في المروج.
ورسالة «العشق» بنيةٌ مُحكَمة، مقدمة وسبعة فصول طبقًا للعدد الرمزي. تبدأ من العشق الطبيعي الحيوي مرورًا بالعشق الإنساني حتى العشق الإلهي. يبدو العشق أولًا قوةً كونية في كل الهُويَّات، وهو أقرب إلى العشق الميتافيزيقي؛ ثم يتجلَّى في الجواهر البسيطة غير الحية، وهو العشق الكوني؛ ثم يبدو في الصور؛ أي النفوس النباتية، ثم في الجواهر؛ أي القوى الحيوانية، وهو العشق الحيوي؛ ثم يأتي عشق الظرفاء والقيان والأوجه الحِسان، وهو العشق الإنساني. ويبلغ العشق الذروة في النفوس الإلهية في العشق الإلهي، وهو الاختيار الأعظم.
ابن سينا هو واضع التفسير الرمزي صراحةً من الحكماء، بعد أن مارَس الكِندي التفسير العقلي كما هو الحال عند المتكلمين لإثبات خلق العالم، سجود الجرم الأقصى أو حشر الأجساد. وكتب ابن سينا في ذلك «رسالة في إثبات النبوات وتأويل رموزهم» ورسالة «الحروف». والآيات في «الإشارات والتنبيهات» علامة وليست نصوص اللغة.
ويؤوِّل اللمس والمعانقة تأويلًا روحيًّا، وتعني التقارب والاتحاد والشعور بالنسيم المشترك بعيدًا عن الشهود الحسي. والصلاة والصيام رموز في حاجة إلى تأويل. والنعيم الحسي كالحُور العِين مرتبةٌ متوسطة بين النعيم الدنيوي والنعيم الأخروي. والبرزخ وأمور المعاد كلها أمورٌ مُغلَقة، لها دلالاتٌ كثيرة في شرحها النجاة، وفي تخويفها الهلاك.
(٢) الأخلاق النفسية
والهدف منها السيطرة على الانفعالات مثل الخوف من الموت، والحث على الذكر، ونيل السعادة. كتب ابن سينا رسالة «دفع الغم من الموت»، وهي تجربةٌ إنسانية خالصة في الوافد والموروث على حدٍّ سواء، سواءٌ موت سقراط أو لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وليس بناءً على مجرد سؤال.
والنتيجة إذن أن الموت ليس برديء، إنما هو الخوف من الموت. ويكشف الوصف عن فلسفةٍ ظاهراتية وجودية بلغة العصر، وإبعاد الفكر من السلطة وحياة الناس، وفي نفس الوقت يقوم على الاستدلال والاتساق ورفض التناسق. والدليل المُقابل إثبات بقاء النفس بعد تجرُّدها من البدن؛ لذلك يجوز التصدق على الميت لأن النفس واحدة؛ وبالتالي يتحوَّل الشرع إلى فلسفة، والنص إلى عقل، والوحي إلى تجربة. الموت ضرورة، وإلا لما اتَّسعت الأرض للبشر. وضرب المثل بأولاد علي حجةٌ شيعية تبرِّر الشهادة، كما أنها حجةٌ كمية. والأرض تسع لأضعاف أضعاف الخلق.
و«الحث على الذكر» بين علم النفس وعلم الأخلاق في الطريق إلى الدين من أجل بلوغ مرتبة الواصلين. والبشر لا ملائكة ولا حيوانات، بل إن أكثر الحكماء والأنبياء الذين لا يعتريهم خطأ أو سهو هم أيضًا بشر. والذكر المقصود هو الذكر باللسان، والغاية منه قمع هواجس النفس وإيقاظها من سُباتها. الفكر على الذكر استخلاص النية من المداجلين، والذكر على الفكر تخليص للتخييل من الهائمين، والتخلِّي عن الذكر والفكر للإنابة إلى الله، والاستسلام الكلي له، وهو معنى آية وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، ونسيان الخلاف والاستغراق في الله.
والسؤال هو: هل هناك تعارض بين الفكر والذكر ليتسلَّط أحدهما على الآخر، أم إنهما شيءٌ واحد؛ فالذكر لا يكون إلا بالتفكر، وإلا كان مجرد تمتمة باللسان وعدًّا بالأصابع كما يفعل ماسكو السبحات؟ وهل الحواس مدانة لارتباطها بالشهوات؟ أين الموقف الطبيعي للإنسان؟ وهل وظيفة الذكر قمع هواجس النفس أم تحرير الطبيعة؟ أليس هذا استبعادًا وتخليصًا للنفس وتسكينها للغير وإعطاءها الرضا الزائف والاطمئنان الخادع؟ وهل الذكر باللسان أم بعمل يحقِّق الشريعة؟ ومن ثَم يكون السؤال: هل سلاح ذكر الله حقيقة أم وهم؟ كل ذلك صورٌ فنية لهداية السبيل في صوره العضوية، بروز العروق في القلب، طلوع الأغصان من الغيث. وهل موضوع العلم الوصايا والحث على الخير أم المنهج والشرح والتحليل والتفسير؟
وتتحول الأخلاق النفسية إلى أخلاقٍ دينية عن طريق أثر العقائد في البناء النفسي للإنسان. ومقدار الخوض في العقائد هو الدعوة المُجملة للتوحيد والعدل؛ فالعدل هو الأساس الأخلاقي للتوحيد، والتوحيد هو الأساس العقائدي للعدل. وفضيلة الشريعة مذهبها في المعاد.
والشيء الأولى بالشيء يُفيد كمالًا إن كان بالحقيقة فحقيقي، وإن كان بالظن فظنِّي، مثل استحقاق المدح والقدرة وبقاء الذكر؛ فهذه كمالاتٌ ظنية. أما الربح والسلامة ورضا الله وحسن معاد الآخرة، فهي كالإشارات حقيقية لا تتمُّ بالقصد وحده. وهنا تبدو أشعرية ابن سينا في جعل قانون الاستحقاق ظنيًّا، وأمور المعاد يقينية. وهو تناقض؛ لأن قانون الاستحقاق إنما يتم في المعاد؛ فإذا كان المعاد نموذج اليقين فإن الاستحقاق يحدث فيه. وتظهر بعض قيم المجتمع التِّجاري في تصور الربح والسلامة والخير العميم باعتبارها أخلاقًا دينية. ويُستعمل لفظ الشريعة كلفظٍ مُجمل يشمل العقيدة والشريعة معًا كما يفعل ابن رشد.
ولما جعل ابن سينا الأخلاق الدينية كلها مركَّزة في أمور المعاد، جعل العلوم تشترك كلها في منفعةٍ واحدة هي تحصيل الكمالات الإنسانية بالفعل مُهيئةً إياها إلى السعادة الأخروية؛ فالعلم أيضًا طريق إلى الله. وتشترك الفلسفة والدين في معرفة الفرق بين الخير والشر، الضار والنافع. وكانت رغبة الحكماء في السعادة الأخروية وليست في السعادة الدنيوية، في سعادة الروح وليست في سعادة البدن.
ومن العقائد الدينية الداعية إلى الراحة النفسية العناية وقَبول الشر كجزءٍ من القضاء الإلهي. وتعني العناية كون الأول عالمًا لذاته بما عليه الوجود في نظام الخير، إرادة الخيرات الكائنة عن هذه الأشياء إرادة أولية؛ لأنه ليس من الحكمة ترك الخيرات الفائقة الدائمة. العناية إذن إدراك اللذات قبل أن تكون عناية بالآخر، من ضرورة الذات قبل أن تكون من احتياج الموضوع. العناية أقرب إلى الفيض منها إلى التدبير، وإلى الواجب أكثر منها إلى الحق.
وتظهر العناية الإلهية أولًا في الأجرام العُلوية ابتداءً من الجِرم الأقصى الذي يُسميه أصحاب الشرائع العرش طبقًا لظاهرة التشكل الكاذب؛ فهي أكثر الأشياء قبولًا. وقد جرى على لسان أكثر الأمم أن الله على السماء وعلى العرش، وإليه تُرفع الأيدي للدعاء.
(٣) الأخلاق الباطنية
وهي الأخلاق التي تدل على الجانب الباطني للشرائع، وتعتمد على التأويل في مُقابل التنزيل، وهي قضية الكم والكيف. الصلاة الشرعية أعداد وأوقات وهيئات وأركان كالقراءة والركوع، وكلها مربوطة بالبدن المكوَّن من العناصر الأربعة، وهي خطاب التكليف، للثواب والعقاب، لتميُّز الإنسان عن الحيوان. أما الأخلاق الباطنية فمرتبطة بسياسة العالم، تمهيدًا لقسمة الناس إلى عامة وخاصة؛ الشرعية للعامة، والباطنية للخاصة. وهي القسمة التي أجمع عليها المتكلمون والحكماء والصوفية، بل والأصوليون في تفرقتهم بين المُفتي والمُستفتي، الغاية من الصلاة الشرعية الأخلاق، النهي عن الفحشاء والمنكر؛ أي الأخلاق الاجتماعية وليس الأنواع الربَّانية، بينما الغاية من الصلاة الباطنية المعرفة، وهي غاية الحكيم. الصلاة الباطنية هي الصلاة الحقيقية، مشاهدة الحق بالقلب الصافي والنفس المجرَّدة المطهَّرة، لا شأن لها بالإبداء والحركات، بل بالخواطر الصافية والنفوس الباطنية، لا قصر فيها ولا طول.
وفي «معنى الزيارة» يترك ابن سينا الموضوع غامضًا عن قصد؛ زيارة من؟ صديق أم مريض؟ إنسان أو ملاك كما هو الحال في التراث المسيحي؟ زيارة الملاك لإليصبات أم مريم تنبِّئها بحملها العذري وتُسمى أيضًا «الزيارة»؟ والمقصود هي زيارة المساجد، وهي جزء من الأفعال الشرعية. والرسالة إجابة على سؤال للشيخ سعيد بن أبي الخير الصوفي؛ فصورة ابن سينا الحكيم هنا أيضًا أنه صوفي، والزيارة المقصودة أقرب إلى المعنى الصوفي المسيحي وتأثيرها في النفوس والأبدان. المطلوب من الزيارة التأثير في العالم عن طريق الدعاء في الزيارة.
فهل دخل ابن سينا الحكمة ليضربها بالتصوف، مؤامرةٌ شيعية على العقل الإسلامي السُّني؟ لم تنجح مؤامرة الإخوان لأنها لم تكن ذكية، بل مكشوفة نقلية شعبية، ثم أتى العبقري ابن سينا لاستئناف نفس المشروع أكثر ذكاءً دون نقل كثير، إلا في الرسائل الصوفية وفي موسوعاتٍ أضخم وأكبر. وربما كانت بنية الرسالة خروجًا على الموضوع، أو تمهيدًا لخرافة الزيارة بخرافةٍ أخرى؛ الفيض.
والحقيقة أن الأمر والنهي لا يقوم على الترغيب والترهيب إلا للعامة، ويقومان على جلب المصالح ودرء المفاسد عند الفقهاء. وكذلك ليس المقصود من الحدود الردع والتخويف إلا للعامة، أما الخاصة فإنهم يفعلون الخير لذاته ويتجنَّبون الشر لذاته. والشرع والعقل قيدان للعامة، وتحرُّر للخاصة؛ تحرُّر من الأهواء والانفعالات.
(٤) الأخلاق العقلية
والفضائل المرتبطة بالغضبية: الصبر، الحلم، العفو، الصفح، التجاوز، رحب الباع، كتمان السر.
والفضائل المرتبطة بالتمييزية: الحكمة، البيان، الفطنة، أصالة الرأي، الحزم، الصدق، الوفاء، الود، الرحمة، الحياة، عظم الهم، حسن العهد، التواضع.