شاعِرُ الغناء
إذا كُنَّا قد سمَّينا ولي الدِّين يكن شاعر الحريَّة، وأوضحنا أنَّ أصالته لا تبرُزُ إلَّا في شعره السياسي، فإنَّنَا على العكس من ذلك سوف نرى إسماعيل صبري لا يتميَّز ولا تظهر أصالته إلَّا في الشعر الغنائي الذي يتحدَّثُ فيه عن نفسه، أو بمعنًى أدقَّ عن عاطفتين إنسانيتين كبيرتين شغلتاه كما شغلتا الكثير من الأدباء والشعراء، بل والعاديين من الناس؛ وهما العاطفتان اللتان تُثيرهما فكرتا الحب والموت. وذلك بينما جرى في مدائحه الكثيرة وتهانيه في الدروب المطروقة، وقلَّد الأقدمين أو استوحاهم معانيه، حتَّى استطاع الشاعر أحمد محرم أن يُحرِّرَ في سبتمبر سنة ١٩٣٤ عددًا خاصًّا من مجلة أبوللو، استنفد معظم صفحاته في تتبُّع المعاني التي أخذها إسماعيل صبري عن القدماء.
وجاءَ الأستاذ عمر الدسوقي في الجزء الثاني من كتابه «في الأدب الحديث» ص٢٥٦–٣٠٥، فأخَذَ بالكثيرِ من مُلَاحَظَات أحمد محرَّم وتنقيباته، واتَّخَذَ من إسماعيل صبري مثلًا للمدرسة التقليديَّة وخصائصها، وذلك بينما كان بعض الكتَّاب والأدباء والنقَّاد الآخرين أكثر إنصافًا لإسماعيل صبري؛ مثل: الدكتور محمد صبري، الذي أصدر كتيِّبًا عن إسماعيل صبري، ثمَّ عادَ فأدمج هذا الكتيب في كتابه الكبير المعنون «أدب وتاريخ واجتماع» ص٨٥–١٢٨، والدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «تراجم مصريَّة وعربيَّة» ص١٨١–١٩٥، والأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» ص٣٢–٣٩.
ثمَّ الأساتذة: طه حسين، وأنطون الجميل، وأحمد أمين، وأحمد الزين في المقدمات التي صدَّروا بها ديوانه، فكل هؤلاء لم تغب عنهم أصالة إسماعيل صبري وقد رأوها في روحه الحضريَّة الرقيقة المُرهفة، وهي روح تتجلَّى بنوعٍ خاصٍّ في شعره الغنائي، وهو شعر لا نُسمِّيه غنائيًّا أخذًا بالاصطلاح الأوروبي فحسب، بل ونُسمِّيه بهذا الاسم لأنه شعر يصلح فعلًا للغناء. وقد تغنَّى المغنون ببعض مقطوعاته، كما تضمَّن ديوانه في «التذييل» عدَّة مقطوعات غنائية كتبها إسماعيل صبري بالعاميَّة، ولحَّنها كبار الملحنين في عصره؛ كمحمد عثمان وغيره، وإن يكن حكم هؤلاء النقَّاد قد اختلَفَ بعد ذلك على هذه الروح الحضرية أو القاهرية العذبة المرهفة.
فالعقَّاد يرى «أنَّ الحياة غير تلك الحياة، وأنَّ الطبيعة الإنسانية أرحبُ وأرفعُ وأقوى وأعمق من الطبيعة الصبريَّة، وأنَّ النعومة كالطفولة الضعيفة تروقنا بعض الأحيان، ولكننا لا نلتزمُ لأجلها الطفولة أبد الزمان.»
وذلك بينما يعلِّق طه حسين مثلًا على مقطوعة صبري الشهيرة:
بقوله: «هل تعرف روحًا أعذب من هذا الروح، وعاطفة أصدق من هذه العاطفة، ولهجة أرق من هذه اللهجة، وموسيقى أجل وأظرَف وأحسَن تمثيلًا للروح المصري الشعبي من هذه الموسيقى التي يُلائم بها بين «نافعة وشافعة» في البيت الأول؛ يأخذ هاتين الكلمتين من حديث الشعب في حياته اليوميَّة العاديَّة فيرتفع بهما إلى أشدِّ الشعر روعةً، وأعظمه حظًّا من سذاجة؟! وهل تجد شيئًا من الغرابة في أن يغني في هذا الشعر بعض المغنِّين؟»
وبالمثل يطرَب محمد حسين هيكل لروح «ابن البلد»، أو رُوح رجل الصالونات والمجتمعات التي يحسها في شعر صبري الغنائي. كما يُسمِّيه الدكتور محمد صبري بشاعر الذوق.
إنه ينبوعٌ صغيرٌ، بلوري المياه عذبها، ينبوع يرشح المرة البيت والبيتين والثلاثة الأبيات، وينتظم مرَّة أُخرَى تسلسله المكرَّر اللماع الملوَّن، على أنَّه غير فيَّاض، لا يدهش بروعته، ولا يرهب بجلاله. إنَّما يجذب بحسنه المأنوس، ويرضى ببساطته وجلائه، ويُدخِلُ الطَّرب على النفس الطروبة برقَّة عواطفه، وسلامة ألفاظه، وإتقان نظْمِه. وهل ألطف من الينبوع الصغير في تدفُّقِهِ الموزون بلا تهوُّر؟! وهل أقرَبُ منه إلى إرواء الظمأ؟! هي هذه الصفات يسيطر عليها دوامًا الذوق الدقيق المصفَّى، التي جعلت من صبري باشا على بضاعته الشعرية المحدودة شاعرًا كبيرًا.
إذا نظم وقعت شاعريته من نفسك في مكانها الخاص بها، وصارت جزءًا من حاستك الغنائية تتناولها حافظتك بلا إجهاد، ويشربها قلبك كأسًا مُنعشة قد تُخالطها مرارة مُستحبَّة، غير أنَّها لا تجدد منك عطشًا، ولا تقلق عندك غورًا، ولا تبعثُ فيك هوس الطيران والغوص والمخاطرة.