ثلاث دقات وكلمة واحدة
أخذَتْ سيارة التاكسي القديمة تهدئ من سرعتها، وقال السائق دون أن يلتفت: إننا في شارع سان مارسيني يا سنيور … إلى أين أتجه؟
كان السائق يتحدث الإيطالية التي كان «أحمد» يُجيدها إلى حدٍّ ما، ففهم ما قاله السائق وقال: قف هنا.
ونزل «أحمد» ووضع في يد السائق قيمة العداد وبقشيشًا سخيًّا، ثم وقف مكانه حتى عاودت السيارة سيرها، ثم تلفَّت حوله … كانت التعليمات التي وصلتْه هذا الصباح محدَّدة: اركب الطائرة إلى روما، ثم خذ القطار إلى ميلانو … اذهب إلى شارع سان مارسيني … اسأل عن بنسيون فابريلُّو … احجز غرفةً وحدك … انتظر رسالة من شخص يُقيم في البنسيون … ستكون إشارة التفاهم ثلاث دقات على الباب وكلمة «سولو»، وتعني بالإيطالية وحيدًا … سيُعطيك الرجل مظروفًا مغلقًا. وأعطِه أنت المظروف الذي معك … كن حذرًا … فقد تكون مُراقَبًا أو أن يكون الرجل مراقبًا.
كانت التعليمات طبعًا من رقم «صفر»، وكان على «أحمد» بعد أن ينتهي من مهمته أن يُغادر البنسيون وينام في فندق آخر كجزء من عملية التمويه التي يقوم بها. غاب التاكسي عند مُنحنى الشارع … ونظر «أحمد» أمامه … كان ثمة كازينو صغير قرَّر أن يشرب فيه كوبًا من الشاي قبل أن ينطلق للبحث عن البنسيون … وعبَر شارع سان مارسيني، ودخل الكازينو الصغير وجلس وطلب الشاي …
كان الشارع يُجاوِر محطة سكك حديد ميلانو الضخمة التي بُنيَت في عهد موسوليني على الطراز الروماني القديم، فجاءت آيةً في الفخامة، ورغم أن «أحمد» كان يمكنه أن ينزل من القطار إلى شارع سان مارسيني مباشرةً؛ فقد فضَّل أن يستقلَّ تاكسيًا ينزل فيه بعيدًا عن المحطة … ثم يستقل تاكسيًا آخر إلى قرب المحطة … لقد كانت تعليمات رقم «صفر» أن يكون حذرًا … ولا بد أن يُنفِّذ التعليمات.
وضع الحقيبة بين قدمَيه، وأمسك بكوب الشاي وأخذ يُفكِّر … إن هذه أول مرة يَزُور فيها إيطاليا … وأول مرة يقوم بمهمَّة ليست واضحة الهدف … فهو لا يعرف مَن هذا الرجل وماذا في المظروف الذي سيتسلمه … وماذا في الظرف الذي يحمله.
لقد استيقظ مبكرًا جدًّا في المقر السرِّي للشياطين في بيروت وتلقَّى التعليمات … وودَّع الشياطين وركب الطائرة، فوصل إلى روما خلال ثلاث ساعات … ثم أخذ القطار إلى ميلانو وها هو يجلس في شارع سان مارسيني لا يَدري ماذا ستأتي به الساعات القادمة.
انتهى من شرب الشاي … ودفع الحساب ونظر إلى الشارع، ثم حمل الحقيبة وقام وسار قليلًا حتى ابتعد عن الكازينو، واقترب من سيارة تاكسي واقفة، وسأل السائق عن بنسيون فابريلُّو. وأشار السائق إلى نهاية الشارع.
كان «أحمد» يَعرف بخبرتِه أن سائقي التاكسي هم أوفر الناس معلومات عن الأماكن، وفعلًا لم يمشِ أكثر من مائة متر حتى وصل إلى نهاية الشارع وطالعتْه لافتة قديمة كُتب عليها «بنسيون فابريلُّو» … ومرةً أخيرة التفت ونظر … ثم دفع الباب ودخل.
كان بنسيون فابريلُّو يقع في عمارة قديمة … ما زالت تَحتفِظ بطابع الفخامة القديمة … الأبواب الزجاجية، والسجاجيد ذات النقوش، والرائحة الرطبة التي تُميِّز الأماكن القديمة عن غيرها.
واتجه «أحمد» إلى مكتبٍ كبيرٍ أسوَد اللون جلست خلفه سيدة عجوز مشغولة بالكتابة في دفتر، وقال لها بالإيطالية: بونا سيرا (مساء الخير).
قالت دون أن تَرفع رأسها: بونا سيرا.
وقف «أحمد» لحظات في انتظار أن تتحدَّث إليه … ولكنها استمرَّت في الكتابة، وهكذا أخرج جواز سفره، ووضعه أمامها؛ فقد كان يُريد أن يرتاح بعد رحلة اليوم الطويلة.
فتحت السيدة جواز السفر، ونظرت فيه ثم كانت المفاجأة عندما قالت باللغة العربية: أنت مصري؟
قال «أحمد» مندهشًا: نعم … ولكن! …
ابتسمت العجوز ابتسامة طيبة وقالت: لقد عشتُ في مصر أجمل سنوات عمري، كنت أملك بنسيونًا في الإسكندرية … في محطة الرمل.
ومضت السيدة العجوز تَروي ذكرياتها عن الإسكندرية … ولو لم يكن «أحمد» في حاجة إلى الراحة لكان سعيدًا بسماع حكايات السيدة … واضطرَّ إلى مقاطعتها قائلًا: هل أجد غرفة؟
ردت السيدة الطيبة: من أجل بلادِك العزيزة لا بد أن أجد غرفةً لك!
وأخذت تُراجع دفاترها ثم قالت له: للأسف … ليس عندي سوى غرفة صغيرة تُطلُّ على شارع جانبي.
قال «أحمد»: لا بأس.
مضت السيدة تُدوِّن المعلومات التي في جواز السفر … بينما كان «أحمد» يفكر … هل كان اختيار رقم «صفر» لبنسيون فابريلُّو بسبب صاحبته؟ هل هذه السيدة التي تتحدَّث العربية في ميلانو جزء من المغامرة؟ أم أنها مجرَّد صدفة … كان يعرف أن عددًا كبيرًا من الإيطاليِّين واليونانيِّين قد عاشوا في مصر … وأن من الممكن باستمرار أن يسمع الزائر لإيطاليا واليونان اللغة العربية تتردَّد في الشوارع والمقاهي … ولكن وهو يَحمل هذا المظروف … وفي انتظار الرجل المجهول كان عليه أن يكون حذرًا.
ولاحظ «أحمد» أن عددًا من نزلاء البنسيون يَخرُجون من المصعد، فالتفت إليهم نصف التفاتة يتفحص وجوههم … إن واحدًا منهم هو الشخص المجهول … فمن يكون فيهم؟ هل هو القصير السمين الذي يَعرج قليلًا؟ هل هو الأشيب الذي يضع نظارات سوداء على عينيه؟ هل هو الشاب الأنيق الذي يُصفِّر في سعادة ومرح؟ هل تكون هذه السيدة التي تُشبه الحصان هي الشخص المجهول؟
وعاد «أحمد» يتحدث إلى صاحبة البنسيون العجوز التي ناولته مفتاح غرفته وأخذت تسأله عن مدة بقائه وسببِ حُضورِه إلى إيطاليا. ولم تَترُك له فرصة الإجابة … فقد قالت وهي تبتسم: لقد جئت تبحث عن عمل طبعًا … إن عددًا كبيرًا من شباب مصر يَحضُر إلى إيطاليا في الإجازات للبحث عن عمل … ولكن هذا ليس موسم الإجازات …
وتركها «أحمد» تُثرثِر وسحب جواز سفره ثم ركب المصعد إلى الدور الثاني حسب تعليمات السيدة … وسرعان ما كان يقف أمام الغرفة رقم ٩ … ونظر حوله … لم يكن هناك أحد بالممر … وبسرعة … وحسب تعليمات رقم «صفر» أخرج من جيبه دائرة صغيرة حمراء مِن الورق، وألصقها بسرعة على الباب … كانت هذه هي الإشارة التي سيَعرف بها الشخص المجهول مكانه …
ونظر مرةً أخرى في الدهليز … ثم فتح الباب ودخل وأغلق الباب خلفه بالمفتاح، وسحب المفتاح ووضعه في جيبه … ثم وضع الحقيبة في الدولاب وأسرع إلى الحمام فاغتسل … ثم ألقى نفسه على الفراش ونام.
هبط الظلام على ميلانو مبكرًا في تلك الليلة الشتوية … ثم نزل المطر رذاذًا في أول الأمر … أخذ يتزايد باستمرار حتى أصبح سيلًا … وعندما استيقظ «أحمد» وجد الغرفة تسبح في ظلام دامس … وسمعَ دقَّات المطر على نافذة غرفته الصغيرة … فنظر في ساعته … كانت الثامنة والنصف … وأحس بالجوع … فهو لم يَتناول طعامًا منذ وجبة الطائرة … وأزاح الأغطية جانبًا ثم أضاء النور، وفتح الدولاب. كانت الحقيبة في مكانها.
جلس «أحمد» في وسط الحجرة يُفكِّر … إن الرجل المجهول قد يصل في أي وقت … فهو لن يستطيع مُغادَرة غرفته … ودق الجرس … وانتظر فترة طويلة قبل أن يَسمع دقًّا على الباب ووجد أمامه وجه حسناء صغيرة تَبتسِم في مودَّة … فطلب منها بعض الساندوتشات وكوبًا من الشاي.
فتح «أحمد» الحقيبة وأخذ ينظر إليها … كان المظروف مُختفيًا في أحد جيوبها، وفي جيب آخر سرِّي مسدس سريع الطلقات … كاتم للصوت … وفي جيبٍ ثالثٍ أدوات للتنكُّر وجواز سفر آخر عليه صورة له … ولكن بها بعض التغيير … وفي جيوبٍ أخرى أشياء كثيرة … إنها حقيبة مُعَدَّة بطريقة فنية تُغطي احتياجاته الشخصية … واحتياجاته كمُغامر … وسمع دقات على الباب … فأغلق الحقيبة بسرعة … وأخذ يعدُّ الدقات … هل هو المجهول؟ ولكن الدقات استمرت … وقام ووجد صينية عليها الساندوتشات وكوب الشاي … وتناول «أحمد» وجبة العشاء البسيطة بسرعة وأذنُه على الباب في انتظار الدقات الثلاث.
كان المطر ما زال يتدفَّق … والبرد يشتدُّ … فأخرج كتابًا من حقيبته … وتمدد في الفراش وأخذ يقرأ … وينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى … ومضَت الساعات بطيئة دون أن يحدث شيء … وقام «أحمد» إلى النافذة الزجاجية يَنظر إلى الشارع … كان المطر ما زال يهطل … وقد أغلقت المتاجر في الشارع الصغير أبوابها … ولم يكن هناك عابرٌ واحد. وأحسَّ «أحمد» بالاكتئاب والوحدة … ولكنه لم يَكدْ يَستدير إلى الخلف حتى خُيِّل إليه أنه يرى من تحت عقب الباب المضاء من الخارج ما يمكن أن يكون قدمَي إنسان … وتقدم «أحمد» على أطراف أصابعه إلى وسط الغرفة … ونظر إلى الباب … كان المقبض يدور في هدوء … وتأكَّد «أحمد» أن شخصًا يُحاول فتح الباب … خطا خطوتَين فأصبح بجوار الحقيبة، وفتحها بحذر، ثم أخرج مسدَّسه، ووقف وسط الغرفة مُنتظرًا … ولكن المحاوَلة لم تستمر … وفكَّر «أحمد» بسرعة هل يفتح الباب ليرى من خلفه … ولكنه فضَّل أن ينتظر … لقد جاء من أجل مهمة محدَّدة. وإذا اشتبك في مغامَرة أخرى فقد تُعطِّله عن أداء مهمته.
اختفى خيال القدمَين … وتوقَّفَت محاولة فتح الباب … ولكن «أحمد» ظلَّ واقفًا مكانه في انتظار ما يُمكِن أن يحدث … وبهدوءٍ انسلَّ إلى الكرسي الذي في وسط الغرفة وجلس ووجهه إلى الباب ومسدَّسه في يده … ومرَّت لحظات … وفجأة سمع مع صوت المطر، صوت أقدام مُسرعة في الدهليز … وألقى نظرة خاطفة على ساعته. كانت الواحدة بعد منتصف الليل … وتوقَّفت الخطوات أمام الباب … وسمع ثلاث دقات مُتتالية، وقفز من مكانه وأسرع يفتح الباب.