البحث عن كارميلا
اختار «أحمد» مطعمًا صغيرًا خافت الضوء ودخل … كان جائعًا لم يتناول لقمة واحدة منذ الساندوتشات التي أكَلَها ليلًا … وهكذا اختار بعناية طبقًا كبيرًا من الاسباجتي بالصلصة … وقطعة لحمٍ مشوية، وطبقًا من السلطة الخضراء، وانهمك في التهامها.
وعندما أشرف الطعام على الانتهاء طلب طبقًا من الاسبتزا الإيطالية الشهية الْتَهَمه ثم اضطجع في كرسيه راضيًا سعيدًا … ثم دفع الحساب، واستقلَّ تاكسيًا إلى محطة السكة الحديد.
قطع «أحمد» تذكرة في القطار الذاهب إلى فينسيا … ثم تذكَّر أنه قد يَقضي الليل كله في الطريق، فعاد وطلب حجز ديوان مُنفرِد للنوم … ورغم المبلغ الكبير الذي طلبه الموظَّف فلم يتردَّد «أحمد»، كان في حاجة إلى الراحة بعد هذه المغامرات المتصلة، وأن يكون مُستعدًّا في الصباح لمزيد من المغامرات.
ووقف «أحمد» على المحطة يرقب ما حوله … ثم اشترى جرائد المساء كلها … وصعد إلى القطار … وعندما دخل ديوان النوم خلع ملابسه، ثم تمدَّد على الفراش وأخذ يقرأ … ولاحظ أن الصحف جميعًا قد اهتمَّت بالحادث … وقد كانت المعلومات التي قرأها على أكبر جانب من الأهمية.
كانت عناوين الجريمة تأخُذ مساحات واسعة في مختلف الصحف:
لم يهتمَّ «أحمد» كثيرًا بهذه العناوين المثيرة … فهو لم يَعُد الشاب الذي وُزِّعت أوصافه على جميع أقسام الشرطة … وفي الموانئ والمطارات … إنه الآن «ريمون» ذو العيون الخضراء … وقد قرر أن يشتري حقيبة أكبر يضع فيها حقيبتَه المهمة … لتختفيَ بذلك أية آثار يُمكن أن تدل عليه.
وبدأ «أحمد» يقرأ بشغفٍ ما قالته الصحف … إن القتيل هو رجل العصابات المعروف ﺑ «بازوليني» … وشهرته «النمر». وكان «بازوليني» واحدًا من خمسة يُسيطِرُون على تجارة المخدرات في البحر المتوسط … حتى وقعت بينه وبين بقية رؤساء العصابات خلافات أدَّت إلى انفراد «بازوليني» بالعمل وحدَه … وقد استطاع أن يُسيطِر بعصابته الجديدة على ثلثَي تجارة المخدرات … ولكن الزعماء الأربعة الآخرين استطاعوا استمالة أعوان «بازوليني» إليهم … وفجأةً وجد «بازوليني» نفسه وحيدًا بلا مُعين … مُطارَدًا من الزعماء الأربعة وقد خسر أمواله كلها.
وهزَّ «أحمد» رأسه مندهشًا: ما دخل رقم «صفر» بهذه الصراعات الرهيبة بين رجال العصابات في إيطاليا … وهل للمَظروفَين اللذَين كان سيقوم باستبدالهما هو وبازوليني علاقة بكل هذه الأحداث؟
ومضى «أحمد» يقرأ … وكانت مشكلة «بازوليني» هي أسرته المكوَّنة من زوجته وابنته وابنه الصغير … فقد كان يخشى أن تقوم العصابات بالانتقام منهم … وهكذا أخفاهم في أماكن مُتباعِدة ولم تكن الزوجة ولا الابنة ولا الولد يَعلمون بحقيقة عمل «بازوليني» في تجارة المخدرات، وقد كان مُصرًّا حتى النهاية على إخفاء حقيقتِه عنهم.
وتوقف «أحمد» عن القراءة … فقد طرأت له فكرة معقولة … كانت هي الفكرة الوحيدة التي يمكن أن تُفسِّر قصة رحلته إلى إيطاليا … وحكاية المظروفين … وهذه المطاردة المميتة.
ومضى «أحمد» يقرأ: وكان معروفًا في أوساط العصابات أن «بازوليني» ينوي ترك إيطاليا كلها بعد أن يَجمع شمل أسرته … وكانت مشكلته كيف يَخرُج من البلاد والشرطة تراقبه … وقد تردَّد في أوساط العصابات أنه على صِلة بجهة أجنبية ستُساعدُه على الخروج من إيطاليا إذا سلَّمهم أسرار عصابات التهريب، خاصَّةً التي تُصدِّر بضاعتها السامة إلى بعض البلاد العربية.
ألقى «أحمد» بالصحيفة جانبًا … لقد تأكَّدَت فكرته … فالمظروف الذي كان سيُسلمه «بازوليني» إليه لا بد أنه كان يحوي أسماء وأسرار رجال العصابات الأربعة … والمظروف الذي يحمله الآن في حقيبته فيه ما كان يُمكِّن «بازوليني» من السفر خارج إيطاليا … والجهة الأجنبية التي تحدَّثَت عنها الصحف ما هي إلا رقم «صفر».
قال «أحمد»: والآن تَعتقد العصابات الأربعة أنني أحمل أسرارهم وأسماءهم ولا بد أنهم سيتبعونني إلى أقصى الأرض … ورغم أنني لم أَحصُل على أية معلومات … وكل ما سمعته من «بازوليني» هي ثلاث كلمات لا أعرف حتى الآن إلى أين تؤدِّي بي: فينسيا … سانتا كيارا … كارميلا …
كانت ساعة العشاء قد أزفت … ولكن «أحمد» كان شبعانًا … وهكذا قرَّر أن ينام فقد أصبح لا يَدري متى يَنام … ومتى يأكل … وعليه أن يَنتهِز الفرصة ويتزوَّد بالنوم، قام فأغلق باب المقصورة التي ينام بها … وأخرج المسدَّس من الحقيبة ووضعه تحت المخدة وأطفأ النور … وساد الظلام المقصورة … وأحسَّ «أحمد» بالراحة تغزو جسده بعد سفر اليوم الطويل … ومضت عجلات القطار على القضبان في هدوء وبرتابة … وسرعان ما استغرق «أحمد» في النوم.
•••
استيقظ «أحمد» على ضوء النهار يتسلَّل من النافذة … ووجد القطار يُبطئ من حركته، وأدرك أنه وصل إلى فينسيا … فحمل حقيبته وخرج من المقصورة إلى ممرِّ القطار ونظر إلى الخارج … كان القطار يَدخل المحطة … وأخذ «أحمد» ينظر حوله … كان مئات من الركاب يتدافَعون للنزول إلى المدينة العائمة … وأكثرهم من السوَّاح القادمين من الولايات المتحدة.
خرج «أحمد» من المحطة إلى موقف الأتوبيسات البحرية … وبالطبع كان يعرف أن المدينة العائمة على الماء ليس فيها إلا الأتوبيسات العائمة، وهي زوارق واسعة تتَّسع لعشرات الأشخاص … وتحدث «أحمد» مع أحد الواقفين سائلًا عن سانتا كيارا.
قال الرجل: هناك محطَّة سانتا كيارا … وفندق سانتا كيارا.
أحمد: وهل يَبعدان عن بعضهما؟
الرجل: لا … إن فندق سانتا كيارا يطلُّ على محطة سانتا كيارا.
ركب «أحمد» الأتوبيس البحري … كان يشعر شعورًا غامضًا بالخطر … ولكن لم تكن المخاطر شيئًا جديدًا عليه … المهم كيف يصل إلى كارميلا؟! … بل مَن هي «كارميلا» وما هي علاقتها بالمغامرة كلها؟
مضى الأتوبيس يشقُّ طريقه في الجراند كانال … وهو مجرى المياه الرئيسي في فينسيا وتوقف في بضع محطات قبل أن يَصل إلى سانتا كيارا … وقفَز «أحمد» بنشاط يَحمل حقيبته، وتوقَّف أمام فندق سانتا كيارا … ومرة أخرى شاهد مبنى صغيرًا قديمًا ذكَّره ببنسيون فابريلُّو … وإن كان فابريلُّو أكبر … ولاحظ وجود كافيتريا تحت الفندق وبجوارها وقف عدد من باعة الفاكهة … وفي المياه وقفت عشرات من زوارق الجندول السوداء التي تُشتهر بها فينسيا … وعلى يسار سانتا كيارا حيث يقف «أحمد» … كان أحد الكباري الأثرية القديمة التي تَربط بين جزر فينسيا … وعلى اليسار سُلَّم حديدي مُرتفِع يُؤدِّي إلى بقية المدينة العائمة.
تقدم «أحمد» في هدوء وثقة ودخل الفندق الصغير … كانت الأشجار المتسلِّقة تُغطي واجهته … ورائحة الأسماك تملأ المكان … فقد كان الجزء الأسفل منه مطعم صغير … وكان بمفارشه البيضاء والزهور المتناثرة في جوانبه يغري بالأكل.
قدم جواز سفره إلى الرجل العجوز الذي جلس على منصَّة الاستقبال … وقال الرجل باسمًا: هل تختار غرفة على الكانال؟ … إنها تُكلِّفكَ زيادةً قليلة … ولكنها تجعل رحلتك ممتعة.
وافق «أحمد» على الزيادة، وحمل حقيبته وصعد … لم يكن هناك مصعد … فقد كان الفندق كله مكونًا من طابقين فقط … ووجد غرفته سريعًا فدخل … كانت غرفة نظيفة واسعة … بها سريران … ونافذتها عالية … وفتح النافذة على مشهد طبيعي جميل … الورود على طرف النافذة … والأشجار المتسلِّقة حولها … وأمامه على بُعد أمتار قليلة كانت الشمس الشتوية الهادئة تتألَّق على المياه … والجندول الأسود يَحمل عُشاق فينسيا إلى مختلف أنحاء المدينة العائمة … وقال «أحمد» مبتسمًا: لو كنتُ مكان شكسبير لاخترتُ هذا المكان لروميو وجولييت!
نظر في أركان الغرفة … كان يَبحث عن مكانٍ يُمكن أن يُخفيَ فيه حقيبتَه … ولكن لم يكن هناك سوى دولاب قديم … واختبر أدراجه … وعرف أنه من المُمكن أن تفتح بقطعة من السلك بمنتهى البساطة … ولم يكن أمامه إلا أن يُخرج المظروف فيضعه في أحد جيوبه الداخلية … وكذلك المسدس … وهكذا لم يبقَ في الحقيبة ما يخشى عليه.
أغلق باب الغرفة ونزل إلى الكافيتريا … كانت المشكلة هي البحث عن كارميلا … وكان يجب أن يكون حذرًا … إنَّ العصابات الأربعة تبحث عنه … والشرطة … وقد تكون كارميلا هذه مراقبة سواء أكانت مكانًا أو شخصًا.
وفجأةً خطرت له الفكرة الوحيدة المعقولة … أن يبرق إلى الشياطين ليحضر عدد منهم لمساعدته في البحث عن كارميلا … إنَّ فتاة مثل «إلهام» أو «زبيدة» لا يُمكن أن تلفت الأنظار.
لم يكن مكتب البريد والتلغراف بعيدًا عنه … وهكذا أسرع إلى هناك … وأملى برقية تبدو في مظهرها عادية جدًّا … ولكنه استطاع أن يضع فيها أهم المعلومات التي يُريد إيصالها إلى رقم «صفر» … ويَطلُب في نفس الوقت حضور «عثمان» و«إلهام» و«زبيدة».
وقال «أحمد» في نفسه وهو خارج من المكتب: سنكون أربعة في مواجهة أربع عصابات وهذا معقول أكثر! … واشترى صحف اليوم، وجلس على الجراند كانال يقرأ ويشرب كوبًا من الشاي الساخن.
ووجد اهتمام الصحف بالجريمة ما زال مُستمرًّا … وقرأ شيئًا بعث الاضطراب في نفسه فقد روى بعض الشهود لرجال الشرطة أنهم شاهَدُوا شخصًا تنطبق عليه أوصاف «أحمد» في مدينة فيرونا.
ومضت الصحيفة تقول: وتقوم قوات كبيرة من رجال الشرطة بالبحث عن الشاب ويُرجِّح المحقق «غيتا» المسئول عن الحادث أن الشابَّ قد اتجه جنوبًا … وأنه ربما يوجد في أحد الموانئ محاولًا الفرار من إيطاليا.
وطوى «أحمد» الصحيفة وهو يحسُّ أن أنظار كل الناس تتجه إليه.