أغنية دافئة … ولكن …
ابتسم «أحمد» وهو يسير على شاطئ الجراند كانال … كانت الشمس مشرقة رغم موسم الشتاء … وكان سبب ابتسامته أنه وجد نفسَه يقع في مصيدة الخوف والتوقُّع، وقد تدرب كثيرًا على اجتياز مثل هذه الصعاب … وهو في نفس الوقت في انتظار وصول الشياطين … «عثمان»، و«زبيدة» … و«إلهام» … وعندما يصلون يُصبح الأربعة قوة من الصعب التغلب عليها …
وعندما وصل تفكيره إلى هذا الحد … أحسَّ بنوع من الرضا، وأخذ يتجول سعيدًا بين المحلات … ثم عبر أحد الجسور وانطلق في اتجاه ميدان سان ماركو الشهير … حيث يتجمَّع السياح من جميع أنحاء العالم للتفرُّج على الكنيسة الرائعة هناك.
وصل إلى ميدان سان ماركو … وكانت فرقة موسيقية تعزف أمام أحد الكازينوهات فاختار كرسيًّا وجلس. وطلب قدحًا من الشيكولاتة الساخنة … وجلس يستمع للموسيقى وقد مدَّد أمامه قدميه مُستمتعًا بشمس الشتاء الدافئة … وعزفت الفرقة لحنًا راقصًا … وقام عدد من الشبان والشابات يَرقُصون … كانت موسيقى دافئة هادئة … سمعها «أحمد» مرارًا منذ جاء إلى إيطاليا … ومضى الشباب يَرقُص وتمنَّى «أحمد» لو أن «إلهام» كانت موجودة، وأنهما رقصا معًا هذه الرقصة.
وانتهت الموسيقى … وبدلًا من أن تَنتقِل الفرقة إلى مقطوعة أخرى ارتفع هتاف الشباب يطلب إعادة نفس القطعة صائحين: كارميلا! كارميلا! … وانتبه «أحمد» من أحلامه اللذيذة على أصوات الشباب وهي تَطلُب إعادة المقطوعة الموسيقية … كارميلا؟ انتبه «أحمد» وقفزت إلى ذهنه صورة «بازوليني» وهو ملقًى على الأرض يقول له: فينسيا … سانتا كيارا … كارميلا.
لقد وصل إلى فينسيا ونزل في فندق سانتا كيارا … وها هي كارميلا في النهاية … قطعة موسيقى … فماذا يعني «بازوليني» بها … وما هي دلالتها بالضبط … هل هي كلمة سر؟ هل هو اسم شخص؟ … أم هي مقطوعة موسيقية فقط؟ كان عليه أن يجد إجابة سريعة ومحقَّقة … واستدعى الجرسون بإشارة من يده وقال: إنها مقطوعة جميلة!
رد الجرسون بأدب: نعم يا سيدي … وصاحبتُها أجمل منها.
أحمد: صاحبتها؟
الجرسون: نعم … المطربة الشابة «كارميلا» … لقد سموا الموسيقى باسمها لأنَّها تُغني عليها كل ليلة في كازينو الليدو.
شكر «أحمد» الجرسون ودفع له الحساب مع منحة سخية … ثم قام من مكانه يمشي … كان في حاجة لأن يَهضم هذه المعلومات الجديدة وأن يستفيد منها … ولكن هل «كارميلا» المطربة الشهيرة هي المقصودة؟ وماذا يقول لها؟ واستقر عزمه على أن يذهب إلى الليدو في الليل … ومر بأحد محلات الملابس فاشترى ملابس مناسِبة للسهرة، ولم ينسَ شراء قبعة أنيقة يخفي بها جزءًا من ملامحه.
قضى «أحمد» بقية اليوم في الفندق … وتغدَّى جيدًا، ثم نام نومًا هادئًا طويلًا استيقظ منه وهو أشد ما يكون نشاطًا … وكانت شمس الشتاء قد أسرعت إلى الاختفاء وهبط الظلام سريعًا على فينسيا.
لبس «أحمد» ثيابه، وتأنق بقدر ما يستطيع، ثم وضع المظروف في جيبه، ومسدسه في جيبٍ آخر، ولم ينسَ أن يأخذ جواز السفر الثاني باسم «ريمون» ثم نزل من غرفته ولم يترك مفتاح الغرفة كالمعتاد … فلعلَّه مُراقَب … وقد يتمُّ تفتيش غرفته في غيبته … وإن كان يدرك أن في كل فندق مفتاح عام يفتح جميع الغرف، إلا أنه فعل ما فعل على سبيل الاحتياط.
اختار جندولًا من المرسى المُواجِه للفندق ونزل فيه، ثم قال للبحار: كازينو الليدو من فضلك.
جلس «أحمد» في نهاية قارب الجندول الأسود الطويل، وأخذ البحار الفارع الطول يُجدِّف، كانت الأمواج مُرتفعة نسبيًّا، ولكن البحار الماهر استطاع أن يمضي بالجندول في هدوء … وكانت أضواء فينسيا على الجانبين تبدو كعيون ذهبية تلمع في الظلام … وكان «أحمد» يفكر في الساعات القادمة وما يمكن أن تحمل له من أخبار … وربما أحداث … ولكنه كان مُصرًّا على أن يعرف ما هي حكاية «كارميلا».
وصل إلى كازينو الليدو … كانت الأضواء تلمع على واجهته … وقد كُتب بالضوء الأحمر كارميلا … ودفع «أحمد» حساب الجندول … ثم قفز إلى الشاطئ … وقف لحظات أمام المبنى القديم … إنه أحد القصور القديمة في فينسيا وقد تحوَّل إلى ملهًى محتفظًا بعراقته وأصالته.
كان «أحمد» قد وصل مبكرًا فلم يكن هناك إلا عدد قليل من الزبائن قد جلسوا على شرفة الليدو … فاختار «أحمد» كرسيًّا وجلس … ووجد نفسه يُحدِّق في المياه التي انعكست عليها عشرات الأضواء وهو يُفكر … كيف يتصل ﺑ «كارميلا»؟ هل يُرسِل لها وردًا ومعه بطاقة صغيرة باسم «بازوليني»؟ هناك احتمالان … ألا تقرأ البطاقة … أن يقرأ شخصٌ آخر اسم «بازوليني» … وهذا يعني شيئًا كثيرًا … إنه رجل عصابات قُتل في ظروف غامضة … والشرطة تطارد قاتله … وهو المتهم الأول، لا داعي إذن للورد!
هل يمكن أن يقترب منها ويهمس في أذنها باسم «بازوليني»؟ ما هي ردود الفعل؟ هل تنكر أنها تعرفه؟ … من الجائز جدًّا أنها لا تعرفه … ومن الجائز أن تُنكِر بعد أن انتهت حياة الرجل.
مشكلة!
وقد لا تكون «كارميلا» المُطربة هي كارميلا المقصودة في حديث الرجل الميت …
وأخذ ينظر إلى صورة «كارميلا» الكبيرة الموضوعة تحت الأضواء الباهرة في مدخل الكازينو … وشعر شعورًا غامضًا أنَّ وجهها مألوف له … لقد رآه من قبل.
أخذ يقدح زناد فكره … ولكن عبثًا … وعاود النظر إليها … إنَّ الوجه ليس غريبًا عنه جدًّا إنه رآه بالتأكيد من قبل … ولكن متى؟ وكيف؟ وأين؟
وبدأ الرواد يدخلون الكازينو بعد أن اشتدَّ البرد …
كانت قاعة الليدو الداخلية المكيَّفة الهواء غاية في الفخامة … والتماثيل القديمة لفرسان العصور الوسطى تُضفي جوًّا سحريًّا على المكان … واختار «أحمد» مائدة منعزلة وجلس … وكانت فرقة الموسيقى تعزف ألحانًا هادئة … وقام عدد من الراقصين إلى حلبة الرقص … ومرةً أخرى تذكر «أحمد» «إلهام» … وغاب في أحلامٍ وتمنيات … أفاق منها على الجرسون وهو يَنحني له … فطلب عشاءً … ثم مضى يتذكر وجهَ «كارميلا» … الذي يتخيَّل أنه رآه من قبل ومضى الوقت سريعًا … وجاءت اللحظة المهمة في الليلة كلها … وأعلن قائد الفرقة الموسيقية أن «كارميلا» ستَظهر بعد لحظات قليلة … انتشرت أحاديث سريعة بين الحاضِرين.
عزفت الموسيقى لحن «كارميلا» … وصفَّق الناس طويلًا … ثم انطلق شعاع من الضوء سقط على الحلبة وظهرت فجأةً «كارميلا» تُمسك بالميكروفون الصغير بين يدَيها وانطلقت تغني.
كانت «كارميلا» طويلة القامة … يتمثل فيها الجمال الإيطالي بكل معانيه … رقيقة ولكن صوتها كان قويًّا رائعًا … واستغرق «أحمد» تمامًا في الاستماع حتى نسيَ المهمة التي جاء من أجلها … ولكن نسيانه لم يَطُل … فقد أحسَّ بحركة في نهاية الصالة … وسمع صوت أقدام كثيرة مقبلة … ولاحظ على الفور أن هذه الحركة شدَّت انتباه «كارميلا» … فقد اضطربت قليلًا … والتفت «أحمد» إلى الخلف وعرف على الفور السبب … كان أربعة من الرجال يتقدَّمون ليجلسوا إلى مائدة محجوزة … وخلفهم عدد آخر من الرجال … وعرف «أحمد» دون مشقَّة من هم الأربعة … فقد كانوا رؤساء العصابات الأربعة التي اختلف معها «بازوليني»، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الشر والغدر.
كان الأربعة في غاية الأناقة … وثلاثة منهم يُدخِّنون السيجار … وهم لم يهتمُّوا بالأغنية الجميلة … فقد كانوا يتحدَّثون بأصوات مُرتفِعة … ويضحكون … وأحسَّ «أحمد» بالدم يندفع إلى رأسه … وتمنى أن يقوم فيَصفع كلًّا منهم على وجهه … ولكنه كان يُدرك أن أي اشتباك الآن معناه نهاية مهمَّته … وربما نهايته.
مضت «كارميلا» تُغني … ولكن «أحمد» فقد قدرتَه على الاستمتاع … فقد توتَّرت أعصابه ومضى يرقب الأربعة … وفجأةً خطر له خاطر … إن اهتمام «كارميلا» واضطرابها عند حضور الأربعة يعني أنها على صلة ما بهم … إنها تَخشى شيئًا منهم … وإن رسالة «بازوليني» لها علاقة بهذه الفتاة الرقيقة.
ولكن ما هو نوع هذه الصلة؟
كان عليه أن يجيب على هذا السؤال … أو يعثر على إجابته … وانتهت «كارميلا» من أغنيتها وانسحبت بين تصفيق الجمهور … وأعلن المذيع أنها ستُغني مرة أخرى عند نهاية السهرة.
مضى الرجال الأربعة يضحكون … ثم أشار أحدهم إلى أحد رجاله وهمس في أذنه ببضع كلمات … وانصرف الرجل مسرعًا … ولا يدري «أحمد» ماذا دفعه لأن يقوم هو الآخر ويلحق بالرجل … هل كان إلهامًا داخليًّا … أم كانت لحظة اندفاع؟
المهم أنه مشى خلف الرجل … عبر الصالة الواسعة إلى ممرٍّ مغطى بالسجاد الأحمر وقد انتشرت فيه الأضواء الخافتة … وسار الرجل وخلفه «أحمد» حتى وصل إلى غرفةٍ دقَّ بابها. ودخل الرجل وأغلق الباب خلفه … ووقف «أحمد» أمام الباب متردِّدًا بين الدخول والانصراف … ولكن فجأة سمع ما جعله يدفع الباب ويدخل … لقد سمع صرخةً خافتة تصدر من داخل الغرفة … صرخة فتاة تتألم … ولم يتردَّد … دفع الباب ودخل … ووجد الرجل يُمسِك «كارميلا» من ذراعها … ويحاول جذبها خلفه … وهي تُحاول مقاومته عبثًا … نظر الرجل إلى «أحمد» باستهتار … ومضى يجرُّ الفتاة.
ووقف «أحمد» في طريقه ونظر إليه … وقال الرجل بضيق واحتقار: ابتعد عن طريقي!
رد «أحمد» بجمود: اترُك الآنسة!
توقف الرجل عن جذب الفتاة، وإن ظلَّ مُمسكًا بذراعها وقال: مَن أنت أيها الحشرة؟
قال «أحمد» بهدوء: سأَتجاوز عن ألفاظك غير المهذبة … وأُكرِّر طلبي لك أن تترك الآنسة وشأنها.
ترك الرجل ذراع «كارميلا» ووقف في مواجهة «أحمد» وشرر الغضب يتطاير من عينيه.