لقاء مع حسناء
كان شابًّا طويل القامة … غزير الشعر … له لحية صغيرة متَّصلة بشارب … وفي عينيه نظرة خائنة شرِّيرة، ورفع قبضته بسرعة وهوى بها على وجه «أحمد»، ولكن «أحمد» هزَّ رأسه ببساطة فطاشت اللكمة … وكاد الشاب يفقد توازنه ويسقط على الأرض لولا أن تَمالك نفسه، ودار على عقبيه وقد أدرك أنه في مواجهة خصمٍ لا يستهان به.
كانت «كارميلا» تقف في طرف الغرفة شاحبة الوجه ترقب الصراع وعيناها معلقتان على «أحمد» في إشفاق … فقد كانت تظن أن رجل العصابات سوف يبطش به سريعًا … وتقدم الرجل مرة أخرى من «أحمد» … وفجأةً أخرج من جيبه مطواة ضخمة ضغط يدها فاندفع منها نصل طويل … وحرَّك المطواة يمينًا ويسارًا بسرعة. وكان «أحمد» يعرف أن هذه الحركة المقصود بها تشتيت انتباهه … فهذه أشياء درسها في المقر السري، ومرَّ بمئات التجارب، لهذا ظل مثبتًا عينيه على وجه الرجل الذي ارتبك قليلًا عندما فشل في هزِّ ثقة «أحمد» بنفسه … وفجأةً انقض على «أحمد» بالمطواة … وقام «أحمد» بحركتين في وقت واحد … قفَز جانبًا وأطلق قدمه في ضربة موجعة أصابت بطن الرجل … فانكفأ على وجهه … وكانت الحركة الثالثة ضربة قوية من يد «أحمد» على رقبة الرجل قبل أن يَسقُط على الأرض ويغيب عن الوعي.
نظرت «كارميلا» إلى «أحمد» في ذهول … لم تُصدِّق أن هذا الشاب النحيل يمكن أن يصرع هذا الثور الضخم … ورغمَ الشارب الذي يضعه «أحمد» … فقد كان واضحًا أنه صغير السن … وتقدمت «كارميلا» منه وقالت في صوت مبحوح: لماذا فعلتَ هذا؟
رد «أحمد» في ثبات: ألم يكن هذا واجبًا؟
كارميلا: ولكن بقية الرجال سوف يأتون الآن … ولن يَتركُوك تُغادر هذا المكان حيًّا!
أحمد: ماذا كان يُريد منك؟
تردَّدت الفتاة لحظة واحدة ثم قالت: لا شأن لك بهذا … انصرف فورًا قبل أن يراك بقية الرجال.
أحمد: لن أتحرَّك خطوة واحدة قبل أن أنجز المهمة التي جئت من أجلها.
كارميلا: أية مهمة؟
أحمد: إني قادم من طرف … «بازوليني».
فتحت الفتاة عينَيها في دهشة وفزع وقالت دون أن تعي: «بازوليني»؟
أحمد: نعم.
كارميلا: ولكن «بازوليني» … قتل!
أحمد: أعرف … وأنا المتَّهم الأول في قتله.
صاحت «كارميلا»: أنت الذي قتلتَه؟
أحمد: لقد قلت لك إنني المتهم … ولم أقل إنني القاتل … إنني لم أمسَّ شعرة في رأس «بازوليني» … ولكنَّني آخرُ شخصٍ شاهده حيًّا.
كارميلا: أنت الشاب الذي يبحث عنه رجال الشرطة؟
أحمد: نعم.
كارميلا: ولكن أوصافك لا تَنطبِق على أوصاف الشاب الذي كان في بنسيون فابريلُّو … المتهم بقتل أبي.
أحمد: أبوكِ؟
أغمضت الفتاة عينَيها … وأدرك «أحمد» على الفور أين رآها … إنه لم يرَها … ولكن رأى «بازوليني» أباها … وهي تُشبهه بالضبط.
أحمد: لقد قال قبل أن يموت ثلاث كلمات … فينسيا … سانتا كيارا … كارميلا … وقد وجدتُ فينسيا … وسانتا كيارا … وها أنا ذا أجدك. فماذا عندَكِ؟
كارميلا: هل أنت الرسول القادم من لبنان؟
أحمد: نعم.
كارميلا: ومعك المظروف؟
أحمد: نعم …
وقبل أن تفتح «كارميلا» فمها سمعا صوت أقدام تَقترب من الباب … ثم سمعا دقًّا قويًّا وقالت «كارميلا» مشيرة إلى النافذة: أسرع … من هنا.
كارميلا: سأتَّصل بك.
وأسرع «أحمد» إلى النافذة فاجتازها إلى شرفة واسعة … وقفَز من الشرفة إلى الأرض وأسرع مُبتعدًا في الظلام … توقف بعد فترة … وأخذ يَستمع … كانت الأمواج ترتطم بالبيوت في قوة فقد بدأت الريح تشتد … ولم يكن في إمكانه أن يستمع إلى شيء آخر … ولكن فجأة أحس بأعصابه تتوتَّر وأدرك أنه متبوع.
التصق بجدار أحد البيوت … ووقف ينصت … لم يكن هناك أي صوت … ولكن فجأةً على ضوء النوافذ الملوَّنة شاهد رجلين يَجريان … وقد شهَرَ كلٌّ منهما مسدسًا في يده … وتساءل … هل وشت به «كارميلا»؟ إنه يَستبعِد ذلك … ولكن لعلها اضطرَّت لذلك تحت ضغط … ووقف ثابتًا لا يتحرك … واختفى الرجلان … وفجأة من زقاق مجاور برز أحد الرجلين ووقع بصره على «أحمد» … كانت ثانية رهيبة يكسب فيها الأسرع … وكان «أحمد» هو الأسرع … كانت أمامه عمارة تُبنى حديثًا فاندفع إليها … واندفعت في نفس الوقت بجوار أذنه رصاصة ضاع صوتها في عصف الريح.
دخل «أحمد» العمارة … كانت قد أوشكَت على الانتهاء … وقد غُطِّيَت من الخارج بغطاء من البلاستيك وهو شيء أدهشَه وأعجبه … ومضى يجري بين الحجرات … وكان يعرف أن أكثر البيوت لها بابان يفتح كلٌّ منهما على أحد قنوات فينسيا … فأخذ يبحث عن الباب الآخر.
كان الظلام يسود المكان … ولم يكن من السهل أن يعرف إلى أين يتجه … فتوقف يستمع وقد ارتفع صوت دقات قلبه … ويبدو أن المُطارِد أيضًا كان يستمع فلم يكن هناك صوت على الإطلاق.
مضَت دقائق … وخشيَ «أحمد» أن ينضم الرجل الآخر إلى زميله … وتصبح مهمة ابتعاده صعبة فبدأ يتحرَّك مرةً أخرى … وسرعان ما عثر على الباب الآخر … وبدأ يقترب في هدوء وحذر … ولكن قطعة من الخشب على الأرض ارتطمت بقدمه وأحدثت صوتًا واضحًا وسرعان ما أزَّت رصاصة ثانية بجواره، ثم اندفع «أحمد» إلى الخارج فقد كان الرجل قريبًا منه. وفي نفس الوقت اندفع الرجل بسرعة … وكانت فرصة ليُجرِّب «أحمد» أحد الحركات البهلوانية التي تعلمها الشياطين … فقد ثنى ركبتيه … ورفع يديه إلى فوق … واستفاد من اندفاع الرجل ناحيته فرفعه بين ذراعَيه ثم ألقاه بكل ما يملك من قوة خارج الباب … وسمع صوتَ وقوعِه في المياه … وخرج «أحمد» من الباب مسرعًا … وانحرف في أقرب شارع قابله … وأطلق ساقيه للريح …
لم يتوقَّف إلا عندما أصبح على مقربة من محطة الأتوبيس العائم … فأصلح ملابسه ثم تقدم في هدوء وركب الأتوبيس … كان عدد الركاب قليلًا في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل وفي هذا الجو العاصف … واختار «أحمد» مقعدًا في نهاية الأتوبيس وجلس.
كان شريط الأحداث التي مرَّ بها منذ نزل أرض إيطاليا حافلًا … حتى إنه لم يُصدِّق أن كل شيء قد حدث خلال ٤٨ ساعة فقط … وبعد أن كان يَعتبر مهمَّته في إيطاليا مجرد نزهة … أصبح يراها أشد مغامراته خطورة وعنفًا.
وصل الأتوبيس إلى محطة سانتا كيارا … وصعد «أحمد» إلى المرسى الخشبي ومضى إلى الفندق الصغير الذي كان قد أغلق أبوابه … وخوفًا من أن يكون متبوعًا، تجاوز الفندق ومشى مبتعدًا حتى نهاية الشارع وهو يَرقُب بزاوية عينه ما يدور خلفه … ولكن لم يكن هناك أحد … وهكذا عاد … ودقَّ جرس الباب … وبعد فترة فتح له البواب … فصعد إلى غرفته وفتح الباب، ثم أخرج مسدسه، واندفع داخلًا … ولكن لم يكن هناك أحد …
خلع ثيابه ولبس ملابس النوم، وجلس على الفراش قليلًا ثم قام ووضَع كرسيًّا خلف الباب بحيث يقع إذا حاول أي شخص اقتحامه … ثم تمدَّد على الفراش وذهب في سبات عميق.
•••
استيقظ «أحمد» في صباح اليوم التالي نشيطًا … فاغتسل … وأعاد وضع الماكياج على وجهه ليبدو في شكل «ريمون» كما هو في جواز السفر … ثم نزَل إلى صالة الطعام بعد أن أخذ معه المظروف المغلق ومسدسه … وطلب إفطارًا شهيًّا تناوله في سعادة … ثم خرج وجلس على الكازينو الذي يتبع الفندق … واستعرض الأحداث كلها … ووجد أنه يُمكن تفسير كل ما حدث إلا شيئًا واحدًا. لماذا اختار له «بازوليني» أن ينزل في سانتا كيارا؟!
لم يجد إجابة تُقنعه على هذا السؤال … وانتهى من تناول الشاي وقرر أن يذهب إلى ميدان سان ماركو.
استقلَّ الأتوبيس البحري مرةً أخرى … ووجد نفسه بعد ربع ساعة يتجول في الميدان الفسيح، على يَمينه كنيسة سان مارك الشهيرة … ببرجها العالي … وعلى يساره القصر القومي الذي تتناثر تحته محلات بيع التحف … وفي الميدان كان عدد من الرسامين الشبان يَرسُمون من يشاء مقابل بضع ليرات … ومضى «أحمد» يتفرج عليهم … وأحسَّ فجأة بعينين ترمقانه بين مئات من السائحين … ورفع بصره إلى حيث كانت صاحبة العينين التي لم تكن سوى «كارميلا».
كانت تلبس بنطلونًا أزرق بلون ماء البحر … وقميصًا أصفر في لون الليمون وقبعة صغيرة وقد أخفَت وجهها خلف نظارة كبيرة … وبدا واضحًا أنها تُحاول إخفاء شخصيتها الحقيقية.
التقت عيناهما … ثم مضت «كارميلا» تسير … وسار خلفها «أحمد» من بعيد، كان متأكدًا أنها تريد أن يتبعها ففعل … ومضت «كارميلا» تتجوَّل بين المحلات … ثم دخلت محلًّا لبيع الدانتيلا التي تشتهر بها فينسيا … ووقف «أحمد» أمام المحل لحظات متظاهرًا بالتفرج على المعروضات في انتظار خروجها … وفجأةً شاهد سيدة في منتصف العمر … حسناء رغم سنها … تخرج من المحل وتقول له: لا يستطيع السنيور أن يَجد أشياء جميلة بالداخل.
أدرك «أحمد» على الفور أنها رسالة موجَّهة إليه … فدخل المحل … ولم تكن «كارميلا» موجودة … ولكن السيدة انتظرت حتى انصرف أحد الزبائن الذي كان يَشتري بعض الدانتيلا ثم أشارت إلى ستار من الخرز الملوَّن فمضى «أحمد» إليه وأزاحه … وفي غرفة صغيرة وجد «كارميلا» تجلس على كرسي كبير، وقد خلعَت نظارتها.