فينيقيون قبل فينيقيا
نعود أدراجنا في شعاب التاريخ العربي القديم، وننتهي إلى حيث ننتهي في كل تاريخ قديم، عند منقطعٍ تضيع فيه الطرق وينعقد الضباب، ولكن لا بد للحكاية من بداية.
ها نحن في الجزء الجنوبي من شبه جزيرة العرب، وقفنا نودِّع القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ونستقبل الثالث عشر.
وهذه هي الدولة المعينية، أولى الدول العربية التي نقرأ لها ذكرًا صريحًا في التاريخ، نشأت يغذيها شريان من أعظم شرايين التجارة في تلك الدنيا الملتفة بكثائف من القدم.
وإذا قيل العرب، قيل الصحراء، عادةً، وأولى عندي أن يُقال البحر!
كانت البضائع التجارية تصدَّر من الهند فتمر خلال شبه الجزيرة العربية إلى أسواقها في الشرق الأدنى والعالم، وكانت اليمن وحضرموت إحدى المحطات التجارية العظمى؛ لأن البحر الأحمر — وهو العصبي المزاج والأمواج — كان عصيًّا على الملاحة في سفن العصر، فكان التجار يتابعون طريقهم من اليمن شمالًا عبر الحجاز.
ولكن سنترك المعينيين يورِّدون الطيب إلى الدنيا، وتقف عند هذا البحَّار المعيني الذي طالما زار البنجاب في الهند، ومخر رقعة المياه التي يتنازعها العرب والهنود، في الاسم، فيقال لها تارةً البحر الهندي، وطورًا البحر العربي.
تقف عند هذا البحَّار الذي ينشق لنا عنه، في الخيال، ضباب المحيط وضبابُ الزمن، هو سلف السندباد، وهو سلف أحمد بن مجيد، البحَّار العظيم الذي لقي فاسكو داغاما الرحَّالة البرتغالي قبل ذرور القرن السادس عشر الميلادي، وكان فاسكو قد عبر رأس الرجاء الصالح، وسار محاذيًا الشاطئ الأفريقي الشرقي، فصادفه أحمد بن مجيد وأعانه على تفهُّم الملاحة وتعرُّف الطريق في ثنايا العباب.
وحبذا لو كنا نفهم لغة هذا البحَّار المعيني، إذن لسألناه بعض تلك الغرائب التي تمتلئ بها عادةً حقائب البحارة الذهنية، فحدَّثنا عن بنات الماء وتزاوجهنَّ والآدميين، وزواجه بإحداهنَّ، وحدَّثنا غير ذلك مما نقرؤه في قصص البحر في الآداب العربية، وإنها لَقصص من الطرافة والمتعة بحيث يجب جمعها يومًا في دفتي كتاب.
ولكنا ما دمنا لا نفهم لغته فلنتركه، ولنقف هذه المرة — ويا للغرابة! — أمام أحد النقوش.
هو أثر سمَّاه العلماء ﺑ «نقش نقب الحجر» نسبةً إلى موضع عثر فيه رجل موفق اسمه «جيمس ولستيد» في شبه جزيرة العرب على سطور محفورة في صفيح الصخر، فرسمها وأذاعها على أوروبا، فاهتدى الأثريون إلى قراءتها، وإذا هي كتابة معينية!
أما محتواها فلن يهمنا ما دمنا لا نأمل أن يكون أحد تجَّار مَعِين كتب لي أو لك، أيها القارئ، صكًّا بميراث! ولكن شكل الكتابة جدير بأن يحبس انتباهنا، فخطها هو الخط المسند أو الحِمْيَري كما يدعوه مؤرخو العرب، وهو يمثل شقة بعيدة انقضت بين الكتابة المصرية الصورية، أي الهيروغليفية، والكتابة الفينيقية بالحروف.
ومن المعجِب أنَّ الإنسان بدأ رسَّامًا لا خطَّاطًا، ومن هنا ظل العرب مصرِّين، طوال العصور كلها، على اعتبار الخط فنًّا من الفنون الجميلة، واشتقوا منه الأنواع وتأنقوا فيها وأبدعوا.
وأقبلُ إنسان خطَّ خطًّا بل رسم رسمًا هو الإنسان المصري، فكان إذا شاء أن يكتب حمامة رسمها بشكلها، ثم جدَّت الكتابة المقطعية، وهي كتابة أقرب إلى الصورية، إلا أن الصورة فيها لا تكون كلمة، بل مقطعًا من كلمة.
أما آخر دور من أدوار التطور في الكتابة فهو استعمال الحروف.
والخط المسند أدنى إلى الكتابة بالحروف منه إلى الكتابة الصورية، والكتابة المقطعية، وأبجديته تسعة وعشرون حرفًا.
ولكن هذه ورطة محرجة! فالتاريخ مُصرٌّ على أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الأبجدية، ومنهم اقترضها اليونان فانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها.
وكم في التاريخ من قصص مفككة ضاع الكثير من حلقاتها، وإحداها قصَّة الأبجدية، وإذا كان الإنسان لا يعرف الكثير عن مبدأ التاريخ وألف بائه، فالتاريخ كذلك لا يعرف إلا اليسير عن ألف باء الإنسان.
غير أن بعض المؤرخين غامروا مغامرة، فوفقوا فيها إلى ملء الفراغ في هذه القصة الطريفة.
قالوا: إن المعينيين قبسوا الخط المسند عن الهيروغليفية، بعدما وصلت إلى دور كاد يتعدى الكتابة المقطعية إلى الكتابة بالحروف، وأيَّد هذا الرأي نقوش وُجدت في شبه جزيرة سيناء تحمل شبهًا بالخط المسند، وكانت للمعينيين صلات وثيقة بشبه جزيرة سيناء؛ لأنها كانت على الطريق التجاري بينهم وبين مصر.
والفينيقيون، ما شأنهم في هذا كله؟ هل أخذوا هم أبجديتهم من شبه جزيرة سيناء أيضًا، أم أنهم حملوها معهم من البحرين في شبه الجزيرة العربية؟
فإذا صحَّت الحكاية، وهي معقولة على الأقل، وجب على أصحاب الخصومة الفينيقية العربية أن يبدلوا نظرًا، أو يلتمسوا سببًا يُمتن الخصومة بعد أن زعزعتها الألف باء.
ولكن برغم كل شيء، سيبقى المعينيون فينيقيين قبل الفينيقيين، ازدهروا عصورًا على شواطئ المحيط الهندي، واقتضتهم مصالح التجارة أن يبتدعوا خطًّا يخف على اليد ولا يغبن حقوق الجيب.
غير أن الأنكى — الأنكى لي هذه المرة — أن تكون الألف باء شيئًا لم يُخترَع، أولًا، لتدوين شعر امرئ القيس أو شكسبير، بل لكتابة «الفواتير».