سيف بن ذي يَزَن وعبد المطلب بن هاشم
لم يكن نصر الأمير سيف بن ذي يزن على الأحباش نصرًا يمنيًّا وحسب، ولكنه كان نصرًا عربيًّا، اغتبط له العرب وتحدثوا به في شبه جزيرتهم من أقصاها إلى أقصاها.
وأسرعت الوفود إلى قصر غمدان تهنِّئ الأمير الظافر، وفي مقدمتها وفد الحجاز.
وهل يمكن أن يخلو وفد الحجاز من شيخ الأبطح عبد المطلب بن هاشم؟
فلما مثل الوفد بين يدي سيف، كان الشيخ عبد المطلب هو الذي افتتح الكلام فقال: نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة، في كلام طويل حلو فصيح.
غير أن سيفًا لبث والحزن في وجهه، ولم يستطع هذا الكلام الذي سمعه، على ما فيه من حلاوة وفصاحة وصدق وإخلاص، أن يصرفه عمَّا يخالج نفسه من ألم.
لقد حزَّ في قلبه باب صنعاء الذي أمر وهرز بهدمه كي يستطيع دخول المدينة ورايته مرفوعة.
ورحَّب سيف بالحجازيين خير ترحيب، وملأ عينيه من عبد المطلب، ثم دعا بمن حوَّل الجميع إلى دار الضيافة.
ومرَّ شهر والوفود تتلاحق، حتى إذا قلَّ القادمون، ووجد سيف منفسحًا من الوقت، بعث برجل إلى دار الضيافة، فأتاه بعبد المطلب، فخلا به خلوة طويلة.
قال عبد المطلب: كأني بك، أيها الملك، لستَ على ما نروم، مع أن الله ساق إليك نصرًا على أعدائك، وشفى غلك، وأعزَّ بك العرب.
فاغتصب سيف ابتسامة، وقال: اصغ إليَّ، أيها الشيخ، إنك لعارف بالأمور، ثم تزعم أن الله أعزَّ بي العرب، وكيف أعزَّهم بي؟ لقد طردنا الأحباش، ويُخيَّل إليَّ أننا استبدلنا أسيادًا بأسياد، وسيحكمنا الفرس كما حكمنا الأحباش، ومع ذلك فالساعة آتية لا ريب فيها، اصغ إليَّ، أيها الشيخ، هل تعلم لماذا ملأتُ منك عيني في أول يوم قابلتني فيه؟
فأجاب عبد المطلب: لم يفتني أن أفكر في الأمر، وقد ظننت أن شيبتي أعجبتك، أو حسبت أنك تعلم خبري يوم قابلت أبرهة وهو على أبواب مكة.
فقال سيف مبتسمًا: شيبتك تُعجِب، أيها العم، وخبرك يوم قابلت أبرهة وهو على أبواب مكة مشهور، على أنني أدمت النظر لسبب آخر: أن العرب الذين تزعم أن الله أعزَّهم بي سيُعَزَّون، ولكن على يد جديدة، وإيمان جديد، وعقل جديد، هذا ما يوحيه إليَّ هاجس خفيٌّ جليٌّ.
ونظر سيف في وجه عبد المطلب وفاجأه بسؤال غريب: هل ولد في بيتك غلامٌ تحسُّ من أمره عجبًا؟
فارتعش الشيخ وبان التغيُّر في وجهه.
فألحَّ عليه سيف أن لا يكتمه شيئًا.
فاندفع عبد المطلب يقول: أجل ولد في بيتي مثل هذا الغلام الذي تسأل عنه، وهو حفيدي، مات أبوه ولم يكن قد خرج إلى الدنيا، وكان عام ولادته العام الذي زحف فيه أبرهة يطلب الكعبة، وذكرت النساء أن أمًّا لم تضع طفلها بأيسر مما وضعته أمُّه، وأتتنا الأنباء بالأعاجيب من كل صوب، فقيل إن إيوان كسرى أصابته ارتجاجة حتى تصدَّع، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وقيل إن النار التي يعبدها الفرس ويوقدونها من جيل إلى جيل أصابها الانطفاء لأول مرة منذ ألف سنة، وقيل إن بحيرة ساوة غاضت، وقيل إن موبذان فارس شهد في نومه إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة وانتشرت في البلاد، وقيل إن سطيحًا الكاهن أوَّل ذلك لكسرى بانتهاء ملك الفرس، وقيام ملك العرب.
فترقرقت عينا سيف، وصاح بعبد المطلب: إن حفيدك هذا لهو المنتظَر الذي ننتظره، فتعهَّده بخير ما تستطيع يا عبد المطلب، إن له لشأنًا عظيمًا، وإنه سيلقى عنتًا شديدًا، وما أتمنى إلا أن يمدَّ لي في الأجل فأدرك ظهور أمره، وأجعل يدي يده، ولكن كأني بحبل الحياة سينقطع بي قبل الأوان.
فأطرق عبد المطلب لا يدري حقيقة هذه العواطف التي تساوره، أهي الزهو، أم الغبطة، أم الخشية والقلق، أم كل ذلك مجتمعًا في شعور لا يترك مسربًا من مسارب النفس إلا تغلغل فيه؟
ولما قفل عبد المطلب إلى مكة، سمع بعد أمد يسير أن الملك سيفًا غدر به الأحباش الذين جعلهم خوله وجمَّازيه فقتلوه، فقال عبد المطلب: كأن منيَّته أنبأته بقرب مقدمها! ومسح بيده على رأس حفيده الصغير، وهو يتمتم: لقد خسرت صديقًا يا بني.