جوِّع كلبك يتبعك
نحن في الجاهلية ما زلنا، وفي اليمن أيام الحِمْيَريين التبابعة.
ومع ذلك، سنتحدَّث عن مسألة حديثة، ونرى كم هي قديمة، ونتحدث عن مسألة قديمة، ونرى كم هي حديثة!
قال الراوي: كان أحد ملوك حِمْيَر — وما يعنينا من اسمه؟ — شديد الوطأة على الرعية، غصَّابًا لما في أيديها، وكان الكُهَّان يفتشون الغيب، فينبئونه بأن الرعية ستقتله إذا هو لم يقلع عن سيرته، واغتبط التاريخ بأن سجل خبرًا عن كُهَّان مالوا عن ملك إلى شعب.
إلا أن الملك لم يحفل بما جاءه به كهَّانه، وظنهم حقًّا يفتشون الغيب، فقال: ومن أين لهم أن يعلموا الغيب؟ وما درى أنهم إنما رأوا الغد من خلال اليوم.
ولبثت رعيته تتقلب من جوره على الجمر، وعاث فيها الفقر، وازدحم السائلون على بابه يئنون ويشكون، فسمعتهم امرأته، وأطلت يومًا فشهدت وجوهًا فرَّ لونها، وعيونًا كاد يطفئ البؤس بصيصها، فقالت له: نحن في العيش الرغد، وهؤلاء يلقون ما يلقون من الجهد، وإني لأخشى أن يصيروا عليك سباعًا، وقد كانوا وما زالوا لك أتباعًا.
فضحك منها وقال لها: شأن لا علم لك به! أراكِ أصبحتِ سجَّاعة، أما عرفت حكمة الحكماء: جوِّع كلبك يتبعْك، فسكتت، كما تسكت المرأة غير مقتنعة، لتترك لرجلها مجال إعجاب بروعة كلامه.
واتفق أن وقعت هذه الجملة في سمع رجل يُدعى عامر بن جذيمة، أو فلانًا من الناس، فوعاها، ولم يذكر لنا الراوي شيئًا عن وظيفة عامر هذا، ولكنه كان مفكرًا على الأرجح. وخرج عامر بين الناس ممتعضًا فرأى استسلامًا وخضوعًا، وكان ينتظر أن يرى فورة، وثورة تقع بعد ساعة، ففوجئ وقال في سره: لقد أصاب الملك، هذا الشعب لا يعدو أن يكون كلبًا، وجوِّع كلبك يتبعْك!
وانقضى الوقت الذي ينمِّي الأشياء وينضِّجها في صمت، وعامر بن جذيمة مُصِرٌّ على رأي الملك الذي أصبح رأيه هو أيضًا.
ثم فوجئ مرة أخرى، وكأن لا وظيفة للمفكر إلا أن يفاجأ لأنه إما متأخر جدًّا عن الركب أو متقدِّم!
انفجر الشعب بالثورة!
ولكن المفاجأة كانت، بالطبع، أشدَّ وقعًا على الملك، ذلك أنها دحرجت رأسه عن كتفيه، بينما هي لم تزد على أن خطَّأت عامر بن جذيمة في حسابه.
غير أن عامرًا لم يقبل، وأقام يقلب الأمر على وجوهه ليعلم كيف بدر من «الكلب» ما بدر منه، ثم وقع على تفسير جعل المفاجأة طبيعية، جد طبيعية، فقال: وأي عجب؟ ربما أخذ الكلب بمخنق سيده الظالم إن لم ينل شبعَه.
وإلى اليوم — بعد ثورات التاريخ كلها — لا يزال الشعب كلبًا في رأي بعض، على أن هذا الكلب لا يلبث أن يفاجئ هؤلاء، كما فاجأ الملك الحِمْيَري وعامر بن جذيمة المفكر، أما الملك الحِمْيَري فيتدحرج رأسه، فلا يبقى قادرًا على أن يعطي رأيًا، وأما عامر بن جذيمة المفكر العميق، فيفاجأ أولًا، يفاجأ عند الإبطاء وعند الإسراع، فيكون سابقًا أو مسبوقًا، ثم لا يرى آخر الأمر عجبًا في أن يأخذ الكلب بمخنق ظالمه.
ولكن ما علينا، ما دام الأخذ بمخنق الظالم واقعًا، على أي حال!