الأزمة الضميرية
تبدأ حكايتنا، هذه، بذكر ملك من الملوك الحِمْيَريين اسمه حسَّان، فهل هو حسَّان تُبَّع الذي غزا جديسًا وبلغ نجدًا فأقام مملكة كندة، أم هو حسَّان غيره، أم أن الحكاية رأت أن لا بد من اسمٍ للملك الحِمْيَري الذي تتحدث عنه، فدعته باسم حسَّان؟
ليكن ظنك ما شئت أيها القارئ.
وتعال نسمع الحكاية نفسها:
نقم الأقيال، أي الأشراف، من بني حِمْيَر على ملكهم حسَّان، وما دامت أسباب نقمة الأقيال، وغير الأقيال، كثيرة على الملوك، فلا موجب لذكر سبب النقمة.
والتمس الأقيال وسيلة ينتقمون بها من عدوِّهم، فمشوا إلى الأمير عمرو، وهو أخو حسَّان وولي عهده، فقالوا له:
وما يمنعك أن تكون أنت الملك الآن؟ أفما يليق رأسك بالتاج؟ أفما تليق هيبتك بالعرش؟ فاخلع أخاك أو اقتله، ونحن وأنت يد واحدة.
ونسي عمرو أن حسَّانًا أخوه.
وكأن كلام الأقيال أثار كبيتًا كان في نفسه منذ أعوام.
وقد لا يكون غريبًا أن يقتل أخ أخاه من أجل المُلك، فذلك شيء عرفه التاريخ وأكثر معرفته، وأقلُّ في الغرابة أن يحرِّض نفر من الأشراف أميرًا على قتل أخيه، ولكن الغريب حقًّا أن يظهر في مثل هذه القضية وجه لمثل هذا القيل الذي سمته الرواية ذا رُعين.
قيل إن ذا رُعين لم يكد يسمع بما فعل أصحابه الأقيال حتى أنكر قبح فعلتهم، وأسرع إلى عمرو ينهاه عما همَّ به.
أما الأقيال فضحكوا منه وقالوا له: طالما عرفناك واعظًا حسن الإرشاد، ولكننا الآن في شيء آخر، نحن في السياسة!
وأما الأمير عمرو فقطب في وجهه وقال له: لا بد لي اليوم من العرش والتاج، ولو على جثة أخي، وما يُدريني أنني أعيش لأرثه.
فقال ذو رُعين: وضميرك؟ ضميرك أيها الأمير.
فكانت تلك لغة لم يفهمها عمرو.
فانكسرت نفس ذي رُعين، ووقف منذ مئات السنين ذلك الموقف الذي لا يزال يقفه طيبو القلب، وهم حائرون في هذا الطلاق العجيب، الذي يبدو محتومًا، بين ما يسمُّونه السياسة والضمير.
وأحبَّ ذو رُعين أن ينبِّه حسَّانًا إلى المكيدة التي تدبر له، على أنه عرف أن حسَّانًا في مثل هذه الحال سيعالج أخاه بالقتل، وما الفرق بين أن يقتل حسَّان عمرًا، أو أن يقتل عمرو حسَّانًا؟
وما لبث صاحبنا أن قضى بأن خير موقف يقفه هو الحياد.
ثم فطن إلى شيء: أليس من واجبه أن يُرضي ضميره على الأقل؟ والمستقبل؟ من يدري ما يتكشف عنه المستقبل؟ ومن يصدِّق أن ذا رُعين لم يكن مواطئًا للأقيال في قبيح فعلتهم؟ فما العمل؟
وكانت النتيجة أن قام ذو رُعين إلى صحيفة بيضاء وخط فيها سطرين، ثم طواها طيًّا محكمًا وحملها إلى الأمير عمرو وقال له: سألتك، أيها الأمير، أن تختم على هذه الصحيفة المطلوبة بخاتمك وتستبقيها وديعة لي عندك.
وانزوى ذو رُعين وهو يقول: ما أحسن راحة الضمير!
وجرت الحوادث مجراها، فقتل عمرو أخاه حسَّانًا وأصبح صاحب الأمر من بعده، لبس التاج الذي كان يتمناه، وقعد على العرش الذي كان يتشهاه، وسكر السكرتين، سكرة الملك وسكرة النصر.
إلا أن السكرتين لم تدوما طويلًا، وجعل عمرو كلما اجتمع لديه الأقيال، يذكر أنهم هم الذين حرَّضوه وأعانوه على قتل أخيه، فكيف يأمنهم على نفسه؟ ولقد كان على يقين من بلوغ الملك بعد وفاة أخيه، فهل أكسبه قتله إلا الغدر؟
وطفق شبح أخيه يزحف عليه من زوايا القصر كلما هبط الليل.
وثار به الضمير الذي ينام ويستيقظ، وكأن ضميره بات يهمس إليه في هدأة الليل: لقد استيقظت أنا، فلن تنام أنت.
وذهب عمرو كل مذهب يفتش عن الدواء لدائه، وعمد إلى الكهان، فطيَّبوا نفسه وسهَّلوا عليه الأمر، واستعملوا فنون كهانتهم، فوجدهم جميعًا مشعوذين، إلا كاهنًا شجاعًا قال له: هذا أيسر ما يُجزى به قاتل أخيه أيها الملك.
فعزم أخيرًا على أن يدعو الأقيال فيبطش بهم، وأنفذ عزمه فسفك منهم دماء خلق كثير، حتى وصل إلى ذي رُعين.
فقال له ذو رُعين: أتقتل بريئًا أيها الملك؟ لقد نهيتُك عن قتل أخيك فلم تنتهِ، فوقفت على حياد.
فقال عمرو: لا أذكر أنك نهيتني، ولكن رأيك كان رأي سائر الأقيال.
فأجاب ذو رُعين: لي، أيها الملك، وديعة ختمت عليها بخاتمك وسلمتها إلى خازنك، فمره يأتنا بها.
وتذكر عمرو الصحيفة المطوية، فدعا خازنه أن يخرجها له، فلما تسلَّمها ذو رُعين فضَّها في حضرة الملك وأقرأه إياها، فإذا فيها بيتان من الشعر:
فصمت عمرو، وخلَّى عن ذي رُعين.
غير أن بعض الرواة أبى إلا أن يكمل الحكاية، فقال: صمت عمرو صمتة طال أمدها، ثم خاطب ذا رُعين بهذه الكلمات: إنك بريء كما تقضي الظواهر، وبريء كما يقضي العُرف، فلن أقتلك، ومع ذلك فإنك لست ببريء: لقد علمت بشرٍّ يقع ففهت بكلمة وسكتَّ، وكتبت صحيفة تحتجُّ بها فيما بعد ليسلم لك رأسك، وقد يصح ما كتبته مثلًا سائرًا من الأمثال، ولكنه لا يصح لك تبرئة وتنزيهًا.
فأجابه ذو رعين: كلا، أيها الملك، لم أفكر إلا بحجة تكون لي أمام ضميري، وأمام الناس، ووقفتُ على حياد.
فقال عمرو: إن الحياد في وجه الشرِّ لضرب من ضروب المشاركة في الجريمة يقع فيه الخبثاء والسُّذَّج على السواء، وما همهم من القضية كلها إلا أن يستطيعوا، في يوم من الأيام، أن يقولوا لأنفسهم وللناس: لقد كنا على حق، لقد كنا نعرف النهاية، ولقد بقينا والحمد لله ناصعي الجبين!
وكان الملك عمرو ساعتئذ قاضيًا ينطق بحكم صوابي عميق، ولكنه كان من القضاة الذين يحسنون الحكم على غيرهم، وحسب!
وانحلت هذه الأزمة، الأزمة الضميرية! وهدأ الملك عمرو بعد الذي سفكه من دم على دم، وبدأ بعضٌ يلقبه بالملك العادل الذي انتقم لأخيه.
وقال ذو رُعين لأحد أصدقائه من السياسيين المعجبين «بالملك العادل»: يا صديقي، لقد كان على هذا الملك العادل أن يبدأ في القطع برأس نفسه، فأجابه الصديق السياسي: ولكن ألا ترى أنه لو قطع رأس نفسه لما استطاع أن يقرَّ العدل ويقطع رءوس المذنبين؟
فسكت ذو رُعين؛ لأنه أعجبه هذا المنطق العجيب.