المدينة التي بناها الجن
ظل بدو الصحراء السورية عصورًا طويلة يعرِّجون على خرائب تدمر وأنقاضها، فيجدون أعمدة ضخمة صُفَّ واحدها إلى الآخر في شبه غابة متسقة الأشجار، ويجدون هياكل منحوتة في الصخر الأصم، ويلمسون قوة جبارة ومهارة فائقة صرفت في البناء والنحت والصقل، فقدروا أن ذلك كله شيء من عمل الجِنِّ بإشراف نبي من الأنبياء، وبتسخير من الله!
فقالوا: إن النبي سليمان هو الذي أخضع الجن بمشيئة العزة الإلهية لبناء تدمر.
ووقف النابغة الذبياني بين يدي النعمان، ملك الحيرة، فأنشده:
حقًّا إن الأبطال المجهولين الذين ساهموا في صنع التاريخ لأكثر من الأبطال المعروفين، فمن الذي أنشأ تدمر حيث هي في إحدى واحات الصحراء؟
الجِنُّ؟! لا بأس بهذه التسمية للأبطال المجهولين.
فما الذي جذبهم إلى هذا المكان المستغرَب؟ الماء؟ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، والتجارة؟ فلقد كانت تدمر، كجميع المدن العربية التي ازدهرت آنذاك، واقعة على إحدى الطرق التجارية بين الشرق الأبعد والشرق الأدنى، كانت تنام وتصحو على جلبة القوافل ترد عليها، وتصدر منها، كما تتلاحق الأيام والليالي.
شدَّ ما طمحت إليها الأنظار، أنظار الفاتحين، ويرجح أنها هي التي ذكرها الملك الآشوري «تغلاث فلسر» باسم تدمر آمرو، في أحد نقوشه الباقية من السنة ١١٠٠ قبل المسيح، فهل حلم «تغلاث فلسر» بضمِّها إليه، كما حلم القائد الروماني مرقس أنطونيوس بعده بألف وسبعة وخمسين عامًا، إذ هجم عليها بين السنة ٤٢ و٤١ق.م؟
قال مرقس أنطونيوس: سأخضع المدينة الصحراوية المعتزَّة بنفسها.
وقالت تدمر: كلا.
فارتدَّ القائد الروماني خائبًا.
ولكن لم يكن من الممكن أن تحتفظ المدينة بتمام استقلالها، وهي بين شِقَّي الرحى، بين أضخم إمبراطوريتين في الدنيا، نعني بهما: الفارسية والرومانية، فخيَّم عليها ظل النفوذ الروماني منذ أوائل العهد الميلادي، وزارها الإمبراطور هادريان في السنة ١٣٠، فألحقها إلحاقًا بالإمبراطورية وسمَّاها تدمر هادريان، ومر عليها أمد وهي جزء مندرج في جسم الإمبراطورية.
على أن ذلك كله — ويا للغرابة! — لم يكن إلا مقدمة لنهضتها العظيمة.
استمرت الحرب لا تخمد نارها بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، فكان أن برز في الفرس الإمبراطور سابور الأول، فأوقع بالإمبراطور الروماني فاليريانوس هزيمة شنعاء، وقبض عليه أسيرًا، فلم يستطع الثأثر لفاليريانوس غير بطل عربي تدمري هو أُذينة بن السميذع، طارد سابور الأول في السنة ٢٦٥ حتى أسوار المدائن عاصمة الفرس.
فأشرق نجم أذينة، وأشرق نجم تدمر، واعترف الإمبراطور الروماني غلينوس، الذي خلف فاليريانوس، بعظيم ما أسدى أذينة من معروف، فلقبه بالإمبراطور، وأقره قائدًا أعلى للفيالق الرومانية في الشرق، وهكذا باتت سلطة أذينة مبسوطة على سوريا وشمال الجزيرة العربية، وربما اتسعت إلى مصر وآسيا الصغرى وأرمينيا أيضًا، وباتت تدمر مدينة من أعظم مدن الدنيا في وقتها، تباري روما والإسكندرية ومدائن فارس.
ولكن يدًا مغتالة لم تلبث أن امتدت إلى البطل أذينة، ولا يزال مصرعه سرًّا من الأسرار، فقد جاء حمص في السنة ٢٦٧، فوجد مقتولًا بالسيف، ويقال إن ابنه قتله، ويقال ابن أخيه، ويقال إن زوجته زنوبيا هي التي دبَّرت مقتله ليخلو لها وجه الملك. وإنها كلها لَضروبٌ من الحَدْس، والطبيعي أن تكون روما هي التي عملت على إزالته من الوجود، خوفًا من تعاظم بأسه وسلطانه، والموقف الذي اتخذته الملكة زنوبيا، بعد موته، لا يدلُّ على ممالأة أو اشتراك منها في الجريمة. وكان أولاد أذينة جميعهم قصَّرًا، فليس من المنتظر أن يقتل ولدٌ قاصرٌ أباه.
وعلى كل حال، مات أذينة وملكت زنوبيا باسم ولدها وهب اللات (اللات صنمٌ)، وكانت هذه الأنثى التي صعدت العرش امرأة حسناء، مثقفة، على أن قلبها قلب لبوءة. رأت لديها جيشًا تدمريًّا لا يقلُّ عن خمسين ألفًا من المقاتلين المجهَّزين بخير أسلحة العصر، وآنست ضعفًا من روما، وتحرَّكت فيها شهوة الثأر لزوجها، وتذكرت أن رجلها كان يتطلَّع إلى مستقبل خاص بتدمر، منفصل عن سيادة الإمبراطورية الرومانية، ولم تكن هي أقل طموحًا ولا أصغر بطولة.
فقادت جيوشها وزحفت بها على مصر في السنة ٢٧٠، فاحتلت الإسكندرية، وهي، وإن كانت عربية، فقد كان فيها عرق أفريقي ينتهي بها إلى كليوباترة والبطالسة وكأنها لما دخلت وادي النيل تذكرت جدَّتها التي دجَّنت بجمالها يوليوس قيصر وأنطونيوس، ثم قضى عليها أوكتافيوس الذي أصبح أول إمبراطور على روما، وزحفت، في السنة نفسها أيضًا، شَطْرَ آسيا الصغرى، وجعلت من أنطاكية عاصمتها الثانية، ودفعت بالفيالق الرومانية إلى وراء، حتى أنقرة، وكانت جد موفقة بقائديها الكبيرين زبده وزباي.
لقد بلغ كوكب تدمر العربية أوجَه في الصعود والإشراق.
ثم تولى عرش روما الإمبراطور أوريليانوس، فسار مع الملكة العربية سيرة مهادنة في أول الأمر، ولكنه كان يلبس في إحدى يديه قفازًا ناعمًا من مخمل، ويجمع اليد الأخرى ليكيل الضربة.
وما كادت تقبل السنة ٢٧٢ حتى تحرَّك أوريليانوس بجيوشه الجرارة، فهزم القائد زبده في معركة على مقربة من أنطاكية، ثم هزمه في وقعة حمص، وتقدم إلى أسوار تدمر نفسها.
شدَّ ما كان الحصار هائلًا! وشدَّ ما صمدت المدينة العنيدة وثبتت ملكتها اللبوءة! فأرسل أوريليانوس إلى زنوبيا يقول: استسلمي، وأنا ضامن لك الحياة.
فأبت! إن الاستسلام هو الموت، الموت المعنوي، أقبح الموتين.
على أن الأفق بات يزداد ظلامًا يومًا بعد يوم، إن الذخيرة تقلُّ، والمؤن تخفُّ، وأذرع الشجعان تكلُّ.
عزمت الملكة عزمًا، خرجت تحت ستار حالك، ومعها نفر من جنودها، كانت تقصد الفرس لتستنجدهم على الرومان، أعدائهم وأعدائها.
إلا أن نبأها اتصل بأوريليانوس، فأنفذ فصيلة أدركتها وطوَّقتها وهي تعبر الفرات.
واستسلمت تدمر، استسلمت في ربيع تلك السنة، السنة ٢٧٢.
كانت الواحة التدمرية تكتسي بالخضرة الطالعة، ولكنها خضرة أشبه بشحوب الخريف، وقُيِّدت لبوءة الصحراء بسلاسل، سلاسل من ذهب، يا للسخرية! ما الفرق؟
وسيقت إلى روما، وعرضت في المهرجان الذي أقيم للإمبراطور الظافر.
وتسامع التدمريون بما لحق بملكتهم من إهانة، ورأوا تغير حالهم من حرية إلى خضوع وطأطأة، فثاروا، فأعاد أوريليانوس الكرة عليهم، ودمَّر مدينتهم، ونزع منها زينة هيكلها البديع المشيَّد للشمس، ونقل الزينة إلى روما حيث شيَّد هيكلًا للشمس الشرقية ذكرى انتصاره.
وترك الشمس الشرقية، الحقيقية، ترتفع كل يوم، فوق خرائب تدمر، وترسل حبال أشعتها إلى هيكلها الموحش …