«محضر» مؤرخين: الغساسنة والمَناذرة
أبصر مزيقيا عمرو بن عامر، ماء السماء، ذلك الجرذ المشئوم يقرض سد مأرب، فباع ما يملكه في أرض اليمن — على ما حكت الحكاية — ونزح بقومه إلى حوران والبلقاء، حوالي أواخر القرن الثالث الميلادي.
ووجد قومًا من العرب قد سبقوه وسبقوا قومه في النزوح إلى تلك الديار، فنشبت مناوشات بين الفريقين، انتهت بتغلُّب عمرو بن عامر وقومه، فلما كان عهد جفنة، وهو من أبناء عمرو بن عامر، برز الملْك الجديد، ملك الغساسنة، مستقرًّا على قواعده، وعُدَّ جفنة مؤسسه.
وعاش الغساسنة دهرًا على موارد الطريق التجاري بين مأرب ودمشق، وتلاحقت الأيام، وتململُ العربِ في شبه جزيرتهم يشتدُّ، كان تقدم الملاحة يصرف عنهم التجارة من البر إلى البحر، وكانت أرضهم، التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية، تضيِّق عليهم سبل الرزق، وكانوا يتسامعون أنهم إذا قطعوا حواشي شبه جزيرتهم، اتصلوا بأرض خصبة خيِّرة في جهة العراق والشام.
ولذلك ازداد تشوُّقهم إلى الخروج من أرضهم وأخذوا يسطون على التخوم، يقعون ويرتفعون كأنهم الطيور الطائرة.
ورأى البيزنطيون أن هؤلاء البدو المتوثبين مصدر من مصادر القلق الدائم، فاستمالوا إليهم الغساسنة، وجعلوهم قوة تضمن الأمن على تخوم مملكتهم.
وشعر أكاسرة الفرس بالقلق نفسه في جهة العراق، فاصطنعوا دولة المناذرة في الحيرة، وهي الدولة التي أقامها عمرو بن عدي بن نصر اللخمي، ولخم قبيلة يمنية هجرت اليمن إلى الشمال كأختها غسان.
ولما كان البيزنطيون والفرس أعداء لا تهدأ بينهم الحروب، فقد وافق مصلحة كل من الدولتين أن تقيم على حدودها دويلة صغيرة تتلقى أول الصدمة كلما انقض جانب على جانب في هجوم.
وانتقل العداء بين البيزنطيين والفرس، بالعَدوى، فأصبح عداءً بين الغساسنة والمناذرة.
ولو شئنا لوقفنا هنا عند موسم غني من قصص تاريخية وأسطورية تتصل بالمناذرة والغساسنة، بحربهم ومنشآتهم العمرانية وأياديهم على الشعراء.
لكننا سنفعل شيئًا آخر، سندخل مجلسًا منعقدًا من المؤرخين، فنصغي إلى نقاشهم في شأن الدولتين اللخمية والغسانية، ولعل المؤرخين يتفقون على شيء، هذه المرة!
قال مؤرخ الغساسنة: «لقد قطع بنو غسان شوطًا بعيدًا في الحضارة، متأثرين بالبيزنطيين، فشادوا القصور والكنائس والمسارح، وشقُّوا أقنية الماء، على أن يد الدمار عبثت بأعمالهم فلم يبقَ منها اليوم إلا آثار ضئيلة منثورة في حوران، ولا تكاد قصائد مدَّاحيهم، كحسان بن ثابت والنابغة الذبياني، تفتح لنا مطلات نتلمح منها حضارتهم، حتى تنغلق في وجهنا تلك المطلات الضيقة، وتعصب عيوننا بالظلام».
فقال مؤرخ المناذرة: «ولقد قطع بنو لخم شوطًا بعيدًا في الحضارة أيضًا متأثرين بالفرس، وهم الذين أدخلوا الكتابة إلى شبه جزيرة العرب، كما أجمعَ الرواة، وليس من قارئ عربي يجهل اسمَي الخورنق والسدير، القصرَين اللذين بناهما المناذرة».
فردَّ مؤرخ الغساسنة: «ومع ذلك فيجب الاعتراف بأن المناذرة لم يبلغوا شأو الغساسنة في منطلق الحضارة».
وهنا انبرى مؤرخ بدا أنه كان يمسك نفسه إمساكًا، فقال: «على أن هذا كله لا ينفي أن الغساسنة والمناذرة كانوا في خدمة دولتين أجنبيتين، وكان بعضهم يمزق بعضًا من أجل هاتين الدولتين. كان المنذر الثالث اللخمي الملقب بابن ماء السماء، والحارث الثاني، الملك الغساني الأعرج، يصطدمان بتحريك وتحريض من البيزنطيين والفرس، فيوفق أحدهما، المنذر، إلى أسر ولد الحارث، فيذبحه ضحية للإلهة العزى في السنة ٥٤٤، فيتأهب الحارث الثاني، طوال عشر سنوات، لاصطدام آخر يقع عند قنسرين، ويُخرج ابنته الحسناء حليمة لتُدهن بالطيب وتكفن بالبياض مائة من الفرسان الغساسنة أقسموا وتعاهدوا على الظفر أو الموت، حتى إذا اضطرمت المعركة، ودارت الدائرة على المنذر، تطلع الحارث إلى عدوِّه فذبحه، ثم اتجه إلى الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس، فكافأه بلقب من الألقاب الضخمة …»
وسكت المؤرخ سكتة، ثم استأنف حديثه: «إن قيمة الغساسنة والمناذرة في التاريخ العربي ليست في دولتيهما بذاتهما، بل بالمعنى العميق الذي اقترنت به هاتان الدولتان، لقد دلَّ الغساسنة والمناذرة على أن العرب شعب كفؤ لاقتباس الحضارة وبنائها، وتنظيم الجيوش وكسب المعارك. لقد دل الغساسنة والمناذرة على الحيوية العربية التي كان يستغلها الفرس والبيزنطيون، ولكنها كانت على كل حال حيوية قوية».
«ولا شك في أن الشعوب جميعها، حتى في أدوار النحس والشقاء من تاريخها، لا تُعدم، بوجه من الوجوه، مظهرًا من مظاهر الحيوية، وهذا قياس ليس بأقل انطباقًا على العرب منه على غيرهم، ويكفي أن المناذرة والغساسنة أنفسهم عاشوا صنائع الفرس والبيزنطيين، ولكنهم ما لبثوا أن أحسُّوا بالدافع الاستقلالي ينبض في ضمائرهم، ويحفِّزهم إلى فرض وجودهم، فرأى الفرس والبيزنطيون أن يعالجوهم بالهدم».
«وهكذا قبض الإمبراطور البيزنطي، طيباريوس الثاني، على المنذر بن الحارث، فحمله إلى جزيرة صقلية، وحاول خلفه النعمان الغساني أن يواصل كفاح البيزنطيين فوقع أسيرًا وحُمل إلى القسطنطينية، وبذلك أصابت المملكة الغسانية ضربة ضعضعتها، وزاد في ضعضتها أن اجتاح الفرس، أيام كسرى أبرويز، قطرَيْ سوريا وفلسطين في طلائع القرن السابع الميلادي، فلمَّا استعاد هرقل الأرض المفقودة رمَّم مملكة الغساسنة ترميمًا، بحيث تكفي لخدمة مصالحه وحسب، وأقبل الفتح العربي الإسلامي، فوجد على الغساسنة أميرًا قليل الخطر يُدعى جبلة بن الأيهم».
وتابع مؤرخنا حديثه فقال: «ولم يكن حظ المناذرة من الفرس بأحسن من حظ الغساسنة من البيزنطيين، فقد تذرَّعت الدولة الكسروية بحجةٍ ما، لتقضي على النعمان الثالث، أبي قابوس، ابن المنذر الرابع، واستعان الفرس بانشقاق العرب، فنصبوا إياس بن قبيصة الطائي واليًا على الحيرة، ومعه حاكم فارسي يأمر وينهى، وتلك كانت الحال يوم فتح خالد بن الوليد العراق في السنة ٦٣٣».
وانقطع المؤرخ انقطاعة قصيرة، ثم أردف: «ولكن العرب لم يسمحوا بالدولة الفارسية أن تتصرَّف على هواها بالملك العربي النعمان بن المنذر، فردُّوا لها الضربة بضربةٍ وُفِّقوا فيها، فكانت أول نصر جعلهم على ثقة من أنفسهم، وساعد في إعدادهم المعنوي للوثبة الكبرى التي أدهشوا بها الدنيا».
وكأن مؤرخنا فطن إلى شيء فقال مستدركًا: «على أنَّا لن نأخذ في حديث ذي قار قبل أن أذكِّركم بدولة عربية يظهر أنكم نسيتموها أو أهملتموها إهمالًا، فإنها في رأيي لعظيمة المغزى في التاريخ العربي، تلك دولة بني كندة!»
وأحب مؤرخنا أن يتبين موقع كلامه من جماعة الجالسين، فدار بنظرات عجلى يتصفح الوجوه، ثم استأنف حديثه:
«إني لأرى علامة الاستفهام ترتسم على الوجوه كيف التفتُّ، فقليلون هم الذين يجعلون مملكة الكنديين في هذا الموضع الذي جعلتُها فيه، ولكن تعالَوا نُشهد الواقع.»
«نشأت دولة بني كندة بتأييد من التبابعة، فقد أعدَّ حسان تبَّع حملةً، وزحف نحو الشمال في شبه الجزيرة العربية، وكان التبابعة، بحكم انقطاع الموارد البحرية عنهم، قد ازدادوا اتجاهًا إلى البر وانتهجوا سياسة توسُّع لو أتيح لها النجاح لكانت انتهت في الواقع إلى توحيد شبه الجزيرة، وكان في حملة حسان تبَّع، بنو كندة يرأسهم أمير قوي، لُقب بآكل المرار، فلما انقلب حسان تبَّع إلى اليمن، ترك آكل المرار وبني كندة حكامًا يحكمون في الشمال، ولست أزعم أن الكنديين بلغوا مبلغًا عظيمًا من الحضارة، ولكن مصدر دولتهم كان عربيًّا لا أجنبيًّا، وكان قيامهم محاولة استنباط للنظام من الفوضى، ومحاولة لمٍّ لشتات الديار والقبائل في شبه الجزيرة».
وهنا عاد مؤرخنا فأدار نظراته في الجالسين، وقال:
«هذا هو المغزى الذي أراه لدولة الكنديين في التاريخ العربي، وجدُّ واضحٍ أن الكنديين فشلوا لأسباب كثيرة، منها سقوط دولة التبابعة، ومنها عداء الفرس والبيزنطيين والمناذرة والغساسنة لهم، ومنها سوء تدبيرهم وثورات القبائل عليهم كما اتفق الحجر، والد امرئ القيس الشاعر، إذ بعث جباته يجمعون له الإتاوة من بني أسد بالعصا، فانتفضوا عليه وقتلوه، ولكن فشل الكنديين أمر لا ينال من مغزى دولتهم في التاريخ العربي».
وسكت مؤرخنا هذه المرة سكوت الختام، وكأنه توقَّع أن يسمع كلمة من غيره، إلا أن سائر المؤرخين ظلوا صامتين، فهل كان صمتهم موافقة؟ إن للصمت معانيَ كثيرة! وبغتةً ارتفع صوت من أحد المؤرخين يقول له: «إنك تملأ إناء الماضي مادةً من الحاضر.»
فأجابه: «ذلك خيرٌ من أن نملأ إناء الحاضر مادةً من الماضي، ومع ذلك ففي الحاضر من الماضي مادةٌ لا تنكَر، ولولا الشوق إلى فهم الحاضر والمستقبل لما كان لتفهُّم الماضي معنًى، والنظر إلى وراء هو جزء من النظر إلى أمام!»
وانفضَّ مجلس المؤرخين، ونحن لا نعلم هل وافقوا زميلهم على ما قال، ولكن تعزَّينا بأن اختلاف المؤرخين حكمٌ من أحكام القضاء والقدر.