ناقة الفقراء
يعرض أقدم ذكر للثموديين في نقشٍ يرجع إلى عهد الملك الآشوري سرغون الثاني.
حدَّث سرغون، على أسلوب الملوك الآشوريين في التفاخر، أنه حمل حملة شعواء على ثمود، فأخضعها في السنة السابعة من ملكه، أي في السنة ٧١٧ قبل الميلاد.
وألمَّ العالم بليني، بذكر الثموديين في كتابه: التاريخ الطبيعي.
ويرجِّج العلماء أن اللحيانيين، الذين كانت عاصمتهم ديدن، في الشمال من شبه الجزيرة العربية، كانوا يمتُّون إلى الثموديين بصلة النسب الوثيق.
وكل هذا لنقول: إن الثموديين قومٌ من العرب البائدة عرفهم التاريخ.
أكانت مساكنُهم على طريق التجارة بين الحجاز والشام، وكانت عاصمتهم الحجر، أو مدائن صالح اليوم.
وسُمُّوا ثمودًا لقلة الماء في ديارهم، وثمود من الثمد، وهو الماء القليل.
وهذا يكاد يكون كل ما نعرفه عنهم، لولا قصتهم التي وردت في القرآن بقصد المثل والعبرة، وقد توسَّع الرواة في هذه القصة، فكانت إحدى النفائس العربية الرائعة.
قيل: لما أتت الريح العقيم على عاد عمَّرت الأرض بعدهم ثمود، وازدهرت، وطالت أعمار بنيها حتى كان الرجل منهم يشيد البيت المتين، فيخرب البيت والرجل حيٌّ، فجعلوا ينقِّبون المنازل في صخور الجبال.
وداخلَهم العجبُ بأنفسهم، وذهب بهم البطرُ كلَّ مذهب، وعاثوا في الأرض مفسدين، ولعل معنى ذلك أنهم راحوا ينقضُّون على قوافل التجارة، ويحبسون الماء القليل عن المسافرين، ويعدو أغنياؤهم على فقرائهم.
وفي مثل هذه الحال، يظهر المصلحون وترتفع أصواتهم نقية صافية مجلجلة.
وظهر النبي صالح، وارتفع صوته داعيًا إلى الخير، ناهيًا عن المنكَر.
فلم يتبعه على مألوف العادة إلا قليلٌ مستضعَفون كانوا موضعَ الزراية، ثم أصبحوا موضعَ الاضطهاد.
ومشى سيِّد ثمود، جندع بن عمرو بن جواس، إلى صالح، في نفر من الزعماء والوجهاء، وقال جندع: إنك رجل يدَّعي أن الله يوحي إليه، وليس هذا بالأمر الهيِّن على التصديق، وإنك لتريد حملنا على غير ما ألفنا، وليس باليسير علينا أن نتبعَك، فنتحوَّل عن طريق إلى طريق، فجئنا بآية تشهد أنك نبي الله، وما الله بباخل عليك إن كنتَ نبيه حقًّا.
فأجاب صالح: وهل تؤمنون إذا جاءتكم الآية؟
فقالوا: نؤمن.
وأقبل العيد الذي يعيِّده الثموديون، فحملوا أصنامهم وخرجوا بها، ولحق بهم صالح، ودعا الثموديون أصنامهم أحرَّ الدعاء، والتفت جندع إلى صالح فقال له: لقد دعونا أصنامنا فادعُ أنت ربك، وانظر إلى هذه الهضبة الصخرية المنحازة عن الجبل، فاجعلها تلد ناقة.
فراح صالح يبتهل إلى ربه، وإذا بالقوم يشهدون عجبًا: فقد تحرَّكت الهضبة، وتمخَّضت صخرتها فانشقت عن ناقة عظيمة ما لبثت أن ولدت سَقْبًا عظيمًا.
فقال جندع سيد ثمود: أما أنا فقد آمنتُ! وآمنَ جملة من القوم، ولكن ثلاثة يُقال لهم: ذؤاب والخباب ورياب، أبو أن يصدقوا صالحًا، وكانوا هم أصحاب الأصنام الثمودية ينتفعون بها، فصاح صائحهم: أمن أجل ناقة خرجت من هضبة تُنكرون آلهتكم؟ بئس القوم أنتم لا يُقرُّ لكم دين!
وانجلى الأمر على فريق آمن بالجديد، وفريق أصرَّ على القديم.
وقال صالح: هذه الناقة لا بد لها من ماء كثير، وأنتم في مكان ماؤه نَزرٌ يسير، فاجعلوا البئر يومًا لها، ويومًا لكم، ثم احلبوا من الناقة ما شئتم، فإن درَّها لَغزير.
وتلاحقت الأيام والناقة ترد البئر التي أصبحت تُسمَّى باسمها، فتشرب ماءها يومًا حتى لا تبقي فيها قطرة، وتترك الماء لأهل ثمود في اليوم التالي، وأقام الثموديون يحلبون الناقة فيملئون آنيتهم ويغتذون.
وكأنها كانت ناقة الفقراء خاصة، فما لبث بعض الثموديين، من أصحاب المواشي، أن برموا بها، وقديمًا ضاق الأغنياء برزق الفقراء.
قال أصحاب المواشي: إن هذه الناقة الهائلة لَتفرغ بئرنا يومًا من يومين، ولتنزل الوادي في القيظ فتحتل الظل وتُذعر مواشينا إلى مسقط الشمس في رأس الجبل، ثم إنها لترعى العشب والشجر، فلا تكاد تترك لمواشينا ما تقتات به.
وعقدوا النية على قتلها، ودبَّت الحماسة، أول ما دبَّت، في النساء.
فتحرَّكت عنيزة، وهي امرأة ذؤاب أحد أصحاب الأصنام الذين أبوا تصديق صالح، وكان لها ولزوجها غنمٌ كثير، وكانت أمُّ بناتٍ حِسانٍ فاتنات، وتحرَّكت صدوق، وهي امرأة غنية عهدت بأنعامها إلى زوجها، فآمن زوجها سرًّا بصالح، وأنفق في سبيله الأموال، فلما علمت بالأمر أكلها الغيظ، وانفصلت عن زوجها، وأبعدت عنه أولاده، فبجهدٍ ما استطاع المسكين ردَّهم إليه.
واتصلت صدوق بالخباب، وهو أحد أصحاب الأصنام الذين رفضوا صالحًا، وقالت له: إني جميلة كما ترى، فاعقِرْ هذه الناقة الخبيثة أقبلك زوجًا، فقال لها: لستُ بفاعل، فاعذريني، ولكني ظهيرك في هذا الأمر الذي تطلبين.
فاتجهت صدوق إلى ابن عم لها يُسمَّى مصدع بن مهرج، ووعدته بنفسها ومالها إن هو أجابها إلى عَقرِ الناقة، فوافقها.
أما عنيزة فدعت رجلًا يُقال له قدار بن سالف، فأطمعته ببنتٍ من بناتها، وكان قدار هذا أشقر أزرق، قصير القامة، عظيم الزهو بنفسه، قليل الاحتشام، ذكر الرواة أنه ابن زنى!
وكان صالح قد أحسَّ من قبل بأن مكيدة تُدبَّر للناقة، فأنذر الثموديين بأن هلاك الناقة هلاكهم.
فقالوا له: لن يصيب الناقة شرٌّ، فقال: انظروا إلى أولادكم، فسيولد منهم في هذا الشهر شقيٌّ يُشقيكم، فقالوا: لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا أمتْناه.
وولد للثموديين أولاد أماتوهم جميعًا، إلا واحدًا أبى أبوه أن يمسَّه.
فكان ذلك قدار بن سالف.
وجعل قدار يكبر في سرعة مخيفة، يشبُّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، ويشبُّ في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشبُّ في الشهر شباب غيره في السنة، حتى استوى في بضعة أعوام رجلًا أشقر أزرق قصير القامة، أما كيف ظل قصير القامة، مع سرعة نموِّه، فهنا العجيبة …
وأقبلت المرأتان، صدوق وعنيزة، كلٌّ بالرجل الذي تعتمد عليه، وتمَّت الصلة والموافقة بين مصدع بن مهرج وقدار بن سالف.
ويظهر أن امرأتين لم تكونا كافيتين، فأضاف بعض الرواة ثلاث نسوة دعوا إحداهن: ملكة، وكانت أشبه بالملكة في ثمود، أما الأخريان فعشيقتا مصدع وقدار.
وقالت ملكة للمرأتين: إذا سكر مصدع وقدار، فطلباكما لما يطلب الرجل المرأة، فقولا لهما: نحن الليلة كئيبتان لحزن ملكة، ولن تمسَّانا قبل أن تقتلا الناقة.
فكان ذلك مما زاد في وقدة الغضب لدى مصدع وقدار.
وأفاد أعداء صالح من باب افتتحوه للتشنيع عليه، فقد راحوا ينظرون إلى قدار، ويقولون: إن صالحًا هوَّل علينا، في شهر من الشهور، وعظَّم الخطب حتى دفعنا إلى قتل موالينا، ولو أننا أبقينا عليهم لكانوا اليوم كقدار، ووجد هذا التشنيع على صالح آذانًا، وسخط الذين قتلوا أولادهم، وتحمَّسوا لقتل صالح، ومشوا إليه بنية السوء، فانقلب شرُّهم عليهم فماتوا، فقويت حملة التشنيع، وقال القائلون: إن صالحًا حملهم على قتل أولادهم، ثم لم يكفه ذلك حتى قتلَهم، وقام فريق يريدون الفتك بصالح، ولكن شرَّهم انقلبَ عليهم أيضًا، وانتصر لصالح جماعة فكفَّ عنه المغتالون.
على أن المكيدة التي كانت تدبَّر للناقة ظلَّت خيوطها تُنصَب سرًّا، وظل حبكُها مستمرًّا.
وفي يوم خرج قدار ومصدع ومن مالأَهما، وخرجت عنيزة بإحدى بناتها التي وعدت بها قدار، فوقفت قبالته، وكمن قدار في جذع شجرة على طريق الناقة، وهي صادرة عن البئر، وكمن مصدع في جذع شجرة أخرى.
فما مرَّت الناقة حتى أصابها مصدع بسهم نافذ، وشدَّ عليها قدار بالسيف فعقرها.
أما فصيلها ففرَّ إلى رأس الجبل معتصِمًا.
وتحدَّثَ الناسُ بالحَدَث العظيم، واعتذروا لصالح، فقال: إنكم لَهالكون إن لم تدركوا فصيلها.
غير أن مصدعًا لحق بالفصيل، فنظم قلبه بسهم.
وكان مقتل الناقة وفصيلها يوم الأربعاء (أو يوم جبار) كما كانوا يُسمُّونه.
فقال صالح: ليس لكم إلا أن تنتظروا الهلاك بعد ثلاثة أيام، فغدًا، في مؤنس (أي: يوم الخميس) تصفرُّ وجوهكم، ثم تحمرُّ يوم العروبة (أو الجمعة) ثم تسودُّ في شبار (أو السبت)، ثم يُدرككم الفناء صبيحة الأحد.
وذهبَ عنهم صالح، وهم به مستخِفُّون، فلما اصفرَّت وجوههم نهار الخميس أرادوا اتباعه وقتله، إلا أنه كان في حمى مكين، واشتغل الثموديون بأنفسهم فتكفَّنوا وتحنَّطوا وأقاموا ينتظرون الموت.
فما أقبل الأحد حتى دبَّ فيهم الفناء، ووقعت عليهم صيحة من السماء.
ولم تنجُ إلا جارية مقعدة استفزَّها الرعب فخلعت عنها شللها، وانطلقت تحمل النبأ الهائل إلى وادي القِرى، وهو حدُّ ما بين الحجاز والشام، ووصفت الواقعة بلسانها المتلجلج، ثم استسقت مَن حولها شربة ماءٍ، فما شربت حتى أسملت الروح.
وكان في حرم الله، في مكة، رجل ثمودي غنيٌّ، حماه الحرم، فلما خرج منه صعقه الموت، فدُفن، وجُعل معه غصن من ذهب!
أما صالح فسار إلى الرملة في فلسطين، ويقال إنه عاد فلحق بمكة.
وسأل سائل من التاريخ: أمن أجل ناقة يصنع الله بقوم هذا الصُّنع؟
وأجابه مجيب: كلا! ولكنه رزق الفقراء سُمٌّ على هاضمه، ولقد دفن مع الثمودي الذي مات بمكة غصن من ذهب، سخريةً بالذهب، وتحديًا للأولى يودون لو كانت دماء البشر ذهبًا لهم!