الريح العقيم
وأقام هود في عاد منذرًا مذكرًا، ولم يتعظ قوم عاد بمصير شداد وموكبه على أبواب إرم ذات العماد.
فحبس الله المطر عنهم ثلاثة أعوام احمرَّت فيها السماء كصفيحة من النحاس المُحمَّى.
وغاضت البشاشة من وجوههم، ويبست حلوقهم، فما كانوا يستطيعون الكلام إلا همسًا مبحوحًا.
وقال منهم قائل: في مكة البيت الحرام، والعرب إذا قحطت ديارهم لجأوا إليه فابتهلوا إلى السماء فجادتهم بالمطر، وكأني بكم تؤثرون الموت عطشًا على الاستسقاء بمكة، ألا فهيا نرسل وفدًا إلى البيت الحرام قبل أن يدركنا الفناء، وبمكة العماليق وسيدهم معاوية بن بكر، وما أم معاوية إلا ناهدة بنت الجبيري من قوم عاد، فالرجل ابن أختنا كما ترون ونحن أخواله.
فما وقع كلام من قوم عاد موقعًا أحسن من هذا الكلام، فاختاروا وفدًا بلغ سبعين رجلًا بينهم لقمان بن عاد وغيره من أهل الوجاهة فيهم، وانطلق الوفد حتى أتى مكة وحلَّ ضيفًا على معاوية بن بكر، فاستقبلهم معاوية خير استقبال، وأولم لهم الولائم، وأخرج قينتين له يُقال لهما الجرادتان، فأمتعتاهم بأطيب الغناء.
ولبث الوفد على طعام وسماع وشراب، وذهلوا عما جاءوا لأجله، وقديمًا نسي الشعبان الجوعان، والريَّان العطشان.
فقال معاوية بن بكر: هلك أخوالي من عاد، وهؤلاء النفر الذين أوفدوهم لاهون بشهواتهم، وهم ضيوفي وما أستطيع أن أذكِّرهم بالواجب خوفًا من أن يزعموا أن ضيافتهم ثقلت عليَّ.
فقالت له قينتاه: هيِّئ لنا شعرًا نغنِّهم به فيذكروا ما نسوا.
فخلا معاوية إلى نفسه فنظم هذا الشعر:
ولقَّنهما القينتين، فلما جلس الوفد على مألوف العادة إلى الشراب والطعام، أقبلت القينتان فغنتا البيتين، فما لفظتا اسم قيل حتى انتفض أحد أعضاء الوفد وكأنه كان في سِنة من نوم.
واندفع قيلٌ هذا، وهو رئيس الوفد، فقال: بئس ما فعلناه! نسينا قومنا وبلاءَهم، فلنخرج إلى البيت الحرام منذ الساعة، ولنستسقِ الغمام، فلعلَّ السماء تتكرَّم علينا.
فأجابه عضو من الوفد: ما أرانا بالغين خيرًا إن لم نؤمن بنبيِّنا هود.
فصيح به من كل جانب: إنك آمنتَ بالرجل سرًّا، ودسستَ نفسَك بيننا، فنهض فاعتزلهم.
ونهضوا إلى البيت الحرام، وتخلَّف الرجل الذي آمن بهود، وتخلَّف لقمان بن عاد، ثم تبعا الوفد.
وجعل الذي آمن بهود يدعو دعاءً خاصًّا، وجعل الوفد يدعو بلسان قيل دعاءً يختلف عن الدعاءين.
وكأن السماء وقعت في حيرة، فهل السماء أيضًا يبلبلها اختلاف الكلمة؟
ونشأت في الفضاء ثلاث سحب على عدد الأدعية: واحدة بيضاء، وواحدة حمراء، وواحدة سوداء.
فصاح قيل: لقد اخترنا السوداء، إنها حبلى بالماء! فغرَّه المظهر.
وسارت السحابة السوداء حتى أتت قوم عاد، فطلعت عليهم من وادٍ يسمُّونه المغيث، كان اسمه من قبل يطابق مسمَّاه.
فتباشروا بالخير.
وإذا بعاصفة تهب، لها زئير الضواري، وقوة تقتلع المنازل والأشجار، وتدفع في الفضاء بكل إنسان وحيوان، وكأن أنفاسها من جهنم، فلا تمس خضرة أو حياة إلَّا أتت عليها.
فعلم قوم عاد أنها دنياهم قاربت النهاية، وأقبلوا على الموت كما يقبل الناس غير مختارين ولا طائعين، ودفنتهم ودفنت آثارهم طبقاتُ الرمال التي ذرَّتها العاصفة، وانطوى عليهم صدر من الأرض شديد الكتمان.
أما الوفد الذين كانوا بمكة، فلما جاءهم النبأ بفناء عاد، علم قيلٌ أنه خُيِّر فأساء الاختيار، فقال: أموت كما ماتت عاد، وكأن روحه كانت بين شفتَيه فنفخها فطارت ووقع ميتًا.
واختار الذي آمن بهود أن يؤتى البر والصدق، فقُذِفا في قلبه، ففحص عن مكان هود فلحق به.
واختار لقمان العمر الطويل، وقال: مات قومنا بالريح العقيم، فلأعيشنَّ ما استطعت الحياة، وخيَّرته السماء بين عمر يطول ما بقيت سبع بعرات لا يمسها القطر، وبين عمر يمتد ما امتدت آجال سبعة أنسر، فاحتقر البعرات، وطلب عمر الأنسر السبعة.
فكان يأخذ الفرخ الذكر، إذا خرج من بيضته، فيربِّيه، فإذا مات أخذ غيره حتى بلغ النسر السابع وهو لبد.
وأدرك لقمان أن هذا نسره الأخير، وعرف أن كل يوم ينفرط من مدة هذا النسر إنما ينفرط من مدَّته، وأحسَّ أن أنفاس هذا الطائر إنما هي أنفاسه تتلاحق، فاشتدَّ حرصه عليه، وكثيرًا ما ناجاه قائلًا: ويحك إنك آخر عمري، فلا تطر بعيدًا فوق الجبل فتعرِّض نفسك للأذى، ليتني كنت اخترت البعرات السبع، إذن لآويتهن من وقع الشمس والمطر وفعل الريح، فحفظتهن الدهر، أَلَا إنني كنت أحمق يوم علَّقت عمري على أجنحة النسور، ولكن تبًّا للبعرات! من يقبل أن يعيش دهره كالبعرة في كنٍّ من شمس الدنيا ومطرها وريحها؟
وطوى لبد ما طوى من الدهر، وفي يومٍ أفاق لقمان فوجد نفسه وهنًا، ونظر إلى الجبل حيث كان يقع لبد إذا طار، فلم يره جاثمًا، فمشى إلى رأس الجبل خائر العزم فأبصر نسره ملقًى، فزجره: انهض لبد، فطار طيرة وهو يضطرب.
فقال لقمان: أتى أبد على لبد، أسفنا على عاد إن أفنتها الريح العقيم في يوم، ألا إن الأبد لريح عقيم، ولكنها بطيئة.
وغزا نفسه هذا اليأس الذي لا معنى له، هذا اليأس الذي يغزو الناس إذا قاربوا الموت فيأبون أن يموتوا قبل أن يقولوا رأيهم في الدنيا كلها، في آخر لحظة.
وسمع لقمان وقع جسد خبط الأرض قريبًا منه، فهوى هو الآخر، وحاذى فمه منقار لبد، ومست يده مخلبه.
ولكن كان بين الفم الإنساني والمنقار فرق، وكان بين اليد البشرية والمخلب خلاف.
كان المنقار منطبقًا راضيًا بالانطباق، وكان المخلب منحلًّا قانعًا بالانحلال، أما الفم الإنساني، فكان برغم الموت لا يزال يقول: لي كلمة أخرى جوهرية، لماذا لا تتركونني أنطقها؟ وأما اليد البشرية، فكانت برغم الموت تدَّعي أن لها عملًا ضروريًّا لما يكتمل!