مأرب وبلقيس
«سبحان الله، كأنكِ الملكة بلقيس نفسها!»
أيُّنا لم يسمع بهذه الكلمات تقولها امرأة من نسائنا لجارة لها إما سخرية وإما تعظيمًا؟
فمن هي بلقيس هذه؟
مهلًا …
يجب أن نبدأ من غير هذا المكان ويجب أن نقنع. لقد كُتبت لنا القناعة حتى بالقليل من معلومات التاريخ.
أخذت الدولة المعينية تخلي مسرح الزمان فتقوم مقامها الدولة السبئية.
كانت دولة طويلة العمر نشأت أولًا إلى جانب المعينية، وأهلها أنسباء المعينيين، ثم ورثتهم حوالي السنة ٦٥٠ قبل الميلاد.
ومن يستطيع أن يستنطق قصر صرواح — هذا الأثر المثقل الصامت من آثارهم — في بلدة الخريبة في اليمن اليوم؟ على أن الحظ لم يقطع بنا كل القطع، فهذه مأرب عاصمة السبئيين التي يقول فيها الشاعر:
أما الرخام، وأما الذهب الأحمر، فلم يبقَ لنا منهما إلا الشعر، غير أن صفحة المدينة المجيدة لم تنطمس كلها انطماسًا. ويظهر أن السبئيين لم ينصرفوا إلى الاهتمام بالتجارة وحدها فأعزَّوا الزراعة، ولا زراعة بلا علم.
إن لكل شيء عظيم جنوده المجهولين، وللهندسة أيضًا جنودها الذين ليس لدينا ما يفرض وجودهم إلا آثارهم.
فهل لنا أن نعرف المهندسين الذين وقفوا يومًا، في اليمن، على هضبتَي بلقا وبنوا، فرأوا المضيق العميق بين الهضبتين يمتد نحوًا من مائة وخمسين ذراعًا في العرض، ورأوا مياه الشتاء تتوافد عليه فتندفع خلاله قوية سخية زاخرة، حتى تضيع وتضمحل في السهول أمامه؟
وهكذا بدر لهم خاطر غير نظم الشعر، فأنشئوا سدًّا عظيمًا حوَّل أرضًا عظيمة جنات.
لقد كان هذا السد حقيقة أسطورية، أو أسطورة حقيقية، اتصلت بها أساطير من النوع الآخر الذي يعبث بالعقل ويعبث به العقل.
وأوقع الرواة فتنة حول بنائه، ففريق زعم أن بانيه لقمان بن عاد، وفريق زعم أن الباني بلقيس. وطبيعي أن لا يكون لمثل هذا السدِّ بانٍ واحد، على أن النقوش تجعل منشئه ملكًا سبئيًّا اسمه «يثئي أمارا باين» بدأ المشروع من قبله أبوه.
ولكن فلندَعِ السدَّ الآن يروي الزرع ويملأ الضرع ريثما نعود إليه في فصل آخر.
ولنلتفت إلى بلقيس.
كانت هذه المرأة — فيما يُقال — من الملوك الذين تولوا العرش السبئي، وقد تولت العرش بعد ابن عمها الذي سمته الحكاية هدهاد بن شرحبيل. وكان هدهاد سيئ السيرة، فاحشًا، يتخيَّر النساء ويتزوَّجهن، حتى إذا أشبع منهن شهوةَ ليلةٍ قتلهن، فلما دار الدور إلى بلقيس حبكت له مكيدة بأن أكمنت له رجلين في قصره قتلاه، فأصبحت هي صاحبة العرش.
أما هذا العرش فهو إحدى أعاجيب الدنيا، ولا نحسب أن الشاعر وقعت عليه عيناه، إلا أنه مع ذلك وصفه لنا وصفًا دقيقًا:
غير أن الشاعر نسي أن يذكر لنا السلَّم التي كانت تصعد عليها بلقيس إلى هذا العرش الباسق.
قال الرواة: سمعت بلقيس بسليمان ملك الإسرائيليين وبحكمته الكبيرة، فأحبَّت أن تلقاه.
وكان سليمان — على ذمة قصَّاص المعجزات — قد سمع من هدهده عن بلقيس وعرشها، فإن هذا الهدهد الذكي، الذي كان يتجسس مخابئ الماء تحت الأرض، غاب غيبة وعاد فوصف لسليمان ملكة سبأ وقصرها وعرشها.
وساقت بلقيس نفائس الهدايا إلى سليمان، وأعدت له الأحاجي تختبر بها صحة ما ذاع عنه من الحكمة.
وقال الرواة: إنها أهدت إليه في جملة الأشياء وُصفاء ووصائف، فألبست الغلمان لباس الجواري، وألبست الجواري لباس الغلمان، وطلبت منه أن يُميِّز فريقًا من فريق، فأمرهم جميعًا بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تحفن الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تنقله إلى اليد الأخرى، ثم تنشره على وجهها، وإذا أرادت غسل ساعدها صبَّت الماء صبًّا وجعلته على باطن الساعد، أما الغلام فكان يغرف من الإناء بكلتا يديه، ثم يضرب به وجهه، وإذا أراد غسل ساعده حدر الماء تحديرًا وجعله على ظهر الساعد.
ولما أقبلت بلقيس على سليمان شاء هو اختبارها أيضًا، فأمر ببناء صرح من زجاج نقي البياض، وأجرى تحته الماء وألقى فيه السمك، ثم أقام عرشه في صدر المكان وجلس عليه، فحين همَّت بلقيس بدخول الصرح خالت نفسها قادمة على ماء، فتردَّدت لتكمش جلبابها الطويل، فتذكَّرت شيئًا وزاد ترددها، ولكنها لم تجد بدًّا من التشمير وألقت قدمها تخوض اللُّجَّة فناداها الملك، إنه صرح ممرد من قوارير، وطافت على شفتيه ابتسامة عابثة، ذلك أنه شهد من ساقيها ما كان يُحِب أن يشهد فيمنعه جلبابها الطويل.
ولا شك في أن بلقيس أحست ببعض الحنق وأرادت أن تُعجز سليمان بسؤال، فسألته عن ماء لم ينفجر من الأرض ولم ينحدر من السماء، فتحيَّر الملك الحكيم، ثم أمر بإجراء جياد حتى تفصَّد جلدها عرقًا فملأ منه قارورة وقال لها: دونك ماءً لا من الأرض هو ولا من السماء.
فأقرَّت له بالحكمة!
وهنا كادت تنقطع القصة بين الملكة السبئية والملك الإسرائيلي لولا أن بريطانيا حاربت الأحباش سنة ١٧٦٨م فهزمت النجاشي تيودورو، وأخذت في جملة الغنائم نسختين من كتاب قديم هو تاريخ الحبشة، ثم ردت إحدى النسختين إلى النجاشي يوحنا الرابع، واحتفظت بالأخرى في المتحف البريطاني.
وإن في هذا الكتاب، خصوصًا، وفي غيره من الكتب القديمة، لغرائب عن بلقيس وسليمان.
فقد جاء أن الملك الحكيم أحبَّها لما رآها، وكان باب قلبه سهل الانفتاح على النساء، فتزوَّجها، فحملت الجدَّ الذي ينتسب إليه نجاشيُّو الأحباش.
حكت بلقيس، أو حُكي عن لسانها، أن سليمان أظهر لها الرغبة فيها، ولكنها دافعته ومانعته لأنها رأت كثرة نسائه فعزَّ عليها أن تكون محض واحدة منهن.
فعمد سليمان إلى الحيلة، دعا بعشاء ثقيل، فأكل وأكلت بلقيس، وانصرف القصر ومن فيه إلى النوم، وإذا بالعطش يوقظ الملكة السبئية في سكون الليل، فنهضت تتلمَّس الماء والقصر خالٍ والخدم في عميق رقادهم، فلم تعثر على ما تبلُّ به حلقها اليابس.
نبَّهت بعض الجواري، على أنهن جميعًا قلن لها ليس في القصر ماء إلا في حجرة الملك.
فلم يلبث العطش أن كسر نفسها وثلم كبرياءها، ولكن أيُّ العطشين؟ وأقبلت على باب سليمان تقرعه، وكانت الليلة المباركة التي ولد بعدها بتسعة أشهر جدُّ النجاشيين.
ولسنا ندري هل يوافق الملك سليمان على وقائع هذه القصة بالتفصيل.
فالحق أن بلقيس كانت جذَّابة، حلوة، سمراء، فلا بأس بأن تجعل نفسها أو يجعلها أصحاب الحكاية مطلوبة لا طالبة.
ولكن ربما احتجَّ الملك سليمان بأنه خُدع بها شيئًا ما، فقد كانت باعتراف الرواة أنفسهم شَعْرَاءَ، بُليت بكثرة الشعر في ساقيها؛ لذلك كانت أبدًا تحرص على جلباب طويل؛ ولذلك ترددت في التشمير لما همَّت بدخول الصرح على سليمان، وظنت أرض المكان مياهًا جارية، وزاد في سوء حظها أن فاجأتها ريح وقحة في أحد الأيام وهي جالسة إلى الملك في باحة قصره في أوروشليم، فأزاحت الجلباب، ولما لم يكن على الساقين جوارب، فقد ظهر فيهما كثافة الشعر.
ودَّت الملكة الأنثى لو تبتلعها الأرض! ولاحظ سليمان خجلها وارتباكها.
فسأل نساءه عن دواء يزيل الشعر، ولما رجعت بلقيس إلى بلادها، كانت ساقاها ملساوين ناعمتين.
وكان جلبابها قصيرًا.
وشاع في اليمن أن الملك سليمان قصَّ من أطراف جلبابها الطويل محطَّ أكفٍّ أربع، واستبقى القماش تبركًا وتيمنًا.