إذا صدَق الإيمان!
النعمان بن المنذر، ملك الحيرة وعامل الدولة الساسانية على عرب العراق وتخومه، كان له نديمان: خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود بن كندة، اصطفاهما لساعات أنسه ولهوه، واشتدَّ تعلقه بهما، فكان لا يطيق فراقهما في ليل أو نهار.
ولكنه شرب يومًا وطرب حتى أخذ منه السكر كل مأخذ، وخيل له أن نديميه أساءا في حضرته الأدب، فأمر من فوره بقتلهما، فضرب السياف عنقهما.
ثم صحا النعمان في اليوم التالي، فطلب نديميه فقيل له: أوَليس قد أمرت بقتلهما؟ إليك الجثتين!
فحزن حزنًا شديدًا وأمر بدفنهما ورفع بناءين جميلين فوق قبريهما سمَّاهما الغريين، وقال: إن يومًا شربت فيه وطربت لهو يوم نعيم، ولأجعلنَّ كل يوم موافق له من كل عام يوم نعيم، فلا يفد عليَّ فيه وافدٌ إلا أكرمته وأجزلت عطاءه، ولكن يومًا عرفت فيه بقتل نديمَي لهو يوم بؤس، ولأجعلنَّ كل يوم موافق له من كل عام يوم بؤس، فلا يأتيني أحدٌ إلا قتلته وطليت بدمه الغريين.
فكانت تلك سُنَّة النعمان أعوامًا طوالًا، له في كل عام يومان متعاقبان: يوم نعيم يسرُّ به نفسه ويسرُّ الوافدين عليه، ويوم بؤس يغتمُّ فيه ويغضب فلا يزوره أحد إلا قتله.
واتفق يومًا أن خرج بحاشيته في نزهة صيد إلى البادية، فعرض له حمار من حمر الوحش، فطارده حتى بَعُدَ عن أصحابه وانفرد عنهم، وفاجأته السماء بمطر صبيب، فلجأ إلى خيمة رجل من طي يقال له: حنظلة بن أبي عفراء.
فتلقاه الطائي بأحسن ترحاب وإن لم يعرفه أو يسأله عن اسمه، وتلك عادة العرب في الضيافة.
وقال الطائي لامرأته: قدِّمي هذه الشاة لأحتلبها ثم أذبحها، ولم تكن له شاة غيرها، فأطاعته، ثم انصرفت إلى دقيق عندها تصنع منه خبزًا.
فأجاب الطائي: سأفعل أيها الملك، إن شاء الله.
ونسي النعمان أن يحذِّره من أن يأتيه في يوم بؤسه، وكان أصحابه قد وصلوا إليه فركب وانصرف.
ومكث حنظلة زمانًا حتى أصابته نكبة وساءت حاله وجاعت عياله، فقالت له امرأته: لو أتيت النعمان في الحيرة وذكَّرته بنفسِك لعرَفك وأنعمَ عليك، أوَليس قد دعاك إلى زيارته ليجزيَك على حسن ضيافتك له؟
فاستصوب حنظلة رأي امرأته وقام من ساعته يطلب الحيرة، فبلغها بعد مشقة.
واستأذن على الملك والناس يَعجبون من هذا الأعرابي الغريب يسعى بنفسه إلى هلك محقق، فاليوم كان يوم بؤس النعمان!
قال النعمان: قُضيَ الأمر، أنت مقتول، ولا سبيلَ إلى غير ذلك.
قال حنظلة: إذن أجِّلني، أيها الملك، عامًا أعود فيه إلى أهلي أودِّعهم وأفي ديوني، وأرجع إليك.
قال النعمان: أقِم كفيلًا!
قال حنظلة: ومَن لي بالكفيل، أيُّها الملك، في مثل هذه الحال؟!
غير أنه ما أتمَّ كلامه حتى وثب فتى في مجلس الملك يُدعى قراد بن أجدع الكلبي، فقال للنعمان: أبيت اللعن، عليَّ ضمانه.
قال الملك: يا قراد، لا بدَّ من قتلك إن لم يرجعِ الطائي.
قال قراد: رضيت أيها الملك.
فاحتجز النعمان قرادًا، ووهب لحنظلة خمسمائة ناقة، فأخذها ومضى إلى أهله.
قال قراد: رويدك أيُّها الملك …
فذهب قوله مثلًا.
ثم لما كان الغد أمر النعمان بقتل قراد، وكان يشتهي أن يقتله ليسلم الطائي، ولكن وزراءه قالوا له: ليس لك أن تنفذ فيه القتل حتى يستوفي يومه.
واصفرَّت أشعة الشمس صفرة يخالطها احمرار، وبدا كأن قرادًا لم يبقَ له إلا لحظات يعيشها.
ويئس الجميع من عودة الطائي وقالوا: لن يرجع وقد فرَّ من الموت! وقال بعضهم: هذا جزاء المروءة! وقال آخرون: ما كان ينبغي لقراد أن يكفل أعرابيًّا لا يعرفه في أمر تتوقف عليه الحياة.
ولكن قبل أن تغيب الشمس لاح فجأة للناظرين شخص من بعيد، يغذُّ السير كأنما تحمله الجنُّ.
وأراد النعمان أن يُصدر أمره الحاسم بقتل قراد، غير أن الحاضرين استمهلوه حتى يتبينوا من يكون هذا الراكب المجدُّ إليهم.
وإذا هو حقًّا حنظلة بن أبي عفراء الطائي!
فاتسعت عينا النعمان من الدهشة وصاح به: ويحَك! ما الذي دعاك إلى الموت بعد ما أفلتَّ منه؟
فقال له حنظلة: الوفاء أيُّها الملك.
قال: ولكن ما الذي دعاك إلى الوفاء؟ يا له من مركب صعب ركبتَه!
قال حنظلة: دِيني أيها الملك، إن لي دِينًا يقضي عليَّ بأن لا أجازيَ شرًّا بشرٍّ، فكيف أجازي مروءةً بخيانة وغَدْر؟
قال النعمان: ذلك دِينٌ عجيب، فما هو؟
– مسيحيتي، أيُّها الملك!
فأطرق النعمان لحظة، ثم قال: إن قرادًا رجل تناهى في المروءة، وحنظلة رجل تناهى في الوفاء، وأنا ماذا أكون؟ أأرضى لنفسي أن أكون مثال اللؤم! لا لَعمري، أطلقوا قرادًا، أطلقوا حنظلة، اهدموا الغريين، ولن يكون لي بعد اليوم يوم بؤس، ثم التفتَ إلى حنظلة وقال له: أما دِينك هذا فإنه جدير بأن يُتبَع، وأنا بعد اليوم على دِينك فعلِّمني إياه.