عنترة: إنسانية العروبة
يأبى علينا راويتنا إلا أن نسمع حديثه عن عنترة، وقد نقول له ونعيد القول: إننا نعرف عنترة خير المعرفة، تُليت علينا قصته في الجبل ونحن صغار ناعمو الأظفار، تليت علينا من كتاب في حلقة تحت إحدى شجرات السنديان التي تتوسَّط قرانا، وتليت علينا من أفواه جدَّاتنا حول مواقد الشتاء، ثم سمعناها في مقاهي المدن، إننا نعرف عنترة وليد سبية حبشية، حملت به من أبيه شداد العبسي، فجاء عبدًا فاحم البشرة، متَّقد العينين، غليظ الشفتين، فأنكره أبوه إنكارًا، فلما كبر ألحقه بالماشية يرعاها، فوقعت غارة على الماشية وانتشب القتال بين العبسيين والمغيرين، وكادت الدائرة تدور على العبسيين، وعنترة واقفٌ ناحية، فصاح به أبوه: كرَّ يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يُحسِنُ الكرَّ، وإنما يُحسنُ الحلابَ والصرَّ!
فصاح أبوه: كرَّ وأنت حرٌّ!
فخاض المعركة لما سمعَ بالحرية، فرجح به جانب العبسيين، وردُّوا عنهم الغارة، واستنقذوا الماشية، وأصبح عنترة فارسًا مشهودًا له.
وكانت له ابنة عم تدعى عبلة أحبَّها وأحبته، ولكن عمه مالكًا كره سواده، فلم يزوِّجه بها، فعاش عنترة يخوض المعارك ويكلل رأسه بغار البطولة في الحرب التي ثار ثائرها بين عبس وذبيان، وكان، خلال حياته الحافلة بالمواقع، ينشد الشعر الذي يفيض رجولة وألمًا وحنينًا، فظل تطفو منه بقايا على شفاه الرواة وأنقاض العصور، كما تطفو بقايا السفن على العباب.
قد نقول لراويتنا هذا القول ونعيده، ولكنه يأبى علينا إلا أن نسمع حديثه، فإن لعنترة قصة غنية بالمعاني، وإن كنا نعرف القصة فلربما فاتتنا المعاني.
سأل راويتنا: هل خطر في بالكم لماذا أحبَّ الشعب العربي، ويُحبُّ، عنترة هذا الحب الرائع الثابت على الدهر؟
ولم ينتظر جوابًا فأردف قائلًا: ذلك أن بيْن عنترة والشعب صلات عميقةً لم يعبِّر عنها ولكن وجودها حقيقة لا شك فيها، فعنترة منبوذ والشعب طالما أحسَّ بأنه منبوذ أيضًا، ولقد جاهد عنترة جهادًا مرًّا، واستطاع أن يفرض نفسه فرضًا بفروسيته وشعره، فكان انتصاره — انتصار هذا المنبوذ — عزاء للشعب بل أملًا بأن المنبوذ الآخر يستطيع هو الانتصار أيضًا.
وأضاف راويتنا: ثم إن حب العرب لعنترة إعلان عن صفة — كدت أقول طبيعة! — من صفات العروبة لا يصح نسيانها أو إهمالها، فعنترة أسود ابن سبية سوداء، وطالما عيَّره المعيِّرون بسواد لونه، ومع ذلك فالشعب العربي قد رفعه في التصوُّر إلى مستوى مجيد في الرجولة، واعترف له بالبطولة، وجعله مثلًا من المُثل العالية في الفضيلة، وحفظ شعره وتغنَّى به، وكأن الشعب العربي أراد أن يتحدَّى مذهب العرقية والمؤمنين بهذا الضلال.
وكان راويتنا عارفًا بمنكرات العصر الحديث، فقال: اشتهى فردريك نيتشه أن يرسم مثلًا ينهد إليه الناس، فصوَّر «الوحش الأشقر»، وظهر كثيرون يعلنون أنهم تجسيد من لحم ودم لهذا الوحش الأشقر، ولكن الإنسانية — لو سُئلت — ما زالت تؤثر عليه الفارس الأسود عنترة.
وأيُّ بأس في أن نتخطى الجاهلية قليلًا، فنلقى الأمير العربي الحبيب الذي طفحت عنه السير بأنباء الفروسية والجود، ذلك هو معن بن زائدة! وأن له لحكاية بديعة يتحفنا بها ويكشف لنا جهة من النفس العربية، قال: كنت منقطعًا إلى يزيد بن عمر بن هبيرة في عهد بني أُميَّة، فانقلب الحكم إلى العباسيين، وكان عهد أبي العباس، ثم عهد أبي جعفر، ونشبت خصومة عقبتها الحرب بين ابن هبيرة والمنصور، فانحزت بنفسي إلى ابن هبيرة، وغلبَنا المنصور، فغصت بين سمع الأرض وبصرها خوفًا على دمي، وأقمت في الشمس حتى دُبغ وجهي، وخففت لحيتي، ولبست جبَّة من صوف، وامتطيت بعيرًا أريد التغلغل في البادية، وخلتني آمنًا على نفسي من عيون الحرس.
غير أني لم أشعر إلا بعبد، متقلِّد سيفًا، دنا فأخذ بخطام الجمل حتى أناخه وقبض عليَّ، فقلت له: ما شأنك يا هذا؟ فأجابني: أنت والله بغية أمير المؤمنين! فتفرَّست فيه وقلت له: دعْني يا هذا فمثلي لا يخطر لأمير المؤمنين ببال، فتبسَّم عن أسنان ناصعة، وقال لي: أنت معن بن زائدة، إن تجاهلت نفسك، فما أنا بالذي يجهلك. فمددتُ يدي إلى عقد كان معي وهمستُ في أُذنه: هذا جوهر تساوي قيمته أضعاف ما يبذل لك أمير المؤمنين إذا دفعتَ بي إليه، فخذه ولا تكن سببًا في تضييع دمي. فتناوله وتأملَّه طويلًا، فحسبته قد رُشي به، إلا أنه نظر إليَّ فقال: إنك لعلى حق في تقدير قيمة هذا العقد، غير أني سأسألك عن شيء، فإن صدقتني خلَّيت عنك. فأجبته: سَلْ ما بدا لك. فقال: شاعت عنك كثرة الجود يا رجل، فهل وهبت مالك كله؟ فأجبته: لا! فسألني: أنصفه وهبت؟ فأجبته: لا! فأتبع السؤال: أثلثه؟ فكنت أجيبه: لا، لا، وهو يسألني حتى بلغ العُشر. فقلت له: أما هذا المقدار فنعم!
فأطرق قليلًا، ثم قال: لم تصنع شيئًا. إني والله جندي من المشاة، وليس رزقي من الخليفة بأكثر من عشرين درهمًا، وهذا العقد بألف دينار على ما أقدِّر، فاستبقه، ودمك عليك محقون، فإني وهبتك لنفسك ولحسن سمعتك في الناس، ولتعلم أن الدنيا لا تخلو ممن هو أجوَدُ منك. ورمى إليَّ بالعقد، وانطلق يعدو وأنا أهتف به: لهذا أهونُ عليَّ من قطع الوريدين!
ثم صفا عليَّ المنصور، فطلبت ذلك الزنجي فما عثرت له على أثر، فكأن أرضًا بلعته.
قال راويتنا: فإن كل هذا العبد حقيقة، فإنها والله لسجية كريمة أن يتحدث عنه معن بمثل هذا الإكبار، وقد كان يستطيع أن يطوي الحكاية، وإن كان العبد فرَضًا افترضه معن، فإنها والله لسجية أكرم أن يخصَّ أميرٌ زنجيًّا من دون الناس بمثل هذه الشهامة، حقًّا إنها لَإنسانية عميقة في الفارس العربي جعلته منذ مئات السنين يضفي مثل هذه الإنسانية على زنجي، بينما يقوم اليوم أقوام يدَّعون لأنفسهم أوج التمدن وينكرون الإنسانية، لا على السود وحسب، بل على غيرهم من البيض أيضًا.
وما رُدَّ على هؤلاء بأحسن من قول القائل: من ينكر الإنسانية على سواه من الناس، ينكر الإنسانية على نفسه، علِم أو لم يعلم.