ذو قار
استطاع عُدَي بن زيد، بدهائه وبما كان له من نفوذ عند كسرى ملك الفرس، أن يجعل النعمان بن المنذر ملكًا على الحيرة دون باقي إخوته، وكان النعمان قد رُبي في حجر عدي، فعرف له فضله في تربيته وفي تولي العرش فخصَّه بإكرام وإعظام.
ولكن رجلًا يُدعى ابن مرينا كان يودُّ أن يولي العرش ولدًا آخر من أبناء المنذر أشرف هو على تربيته بنفسه، فلما لم يوفق سخط سخطًا شديدًا، وخصَّ عُديًّا بالقسط الأكبر من سخطه، وكان ابن مرينا، هذا، غنيًّا بلغ الغاية في الغنى، فجعل يتقرب إلى النعمان ويسرف في إهدائه تحف الهدايا، حتى عطف عليه النعمان وأعاره أذنًا واعية، فبات ابن مرينا إذا ذكر عُدَي، يقول: نِعمَ الرجل! على أن فيه مكرًا وخديعة.
ونسج ابن مرينا وأعوانه مكيدة من أخبث المكائد، ذلك أنهم زوَّروا نص كتاب على لسان عُدي، وأرسلوه إلى قهرمان لدى كسرى، ثم دسُّوا من جاءهم بالكتاب فأطلعوا النعمان عليه، فإذا فيه شتم له وتعريض بملكه، فغضب النعمان واستزار عُديًّا وقذف به في السجن، فانطلق أُبيٌّ، أخو عُدي، يستغيث بكسرى، فبعث الملك الفارسي إلى ملك الحيرة يأمره فورًا بإطلاق عدي، فدسَّ النعمان إلى سجينه من قتله، ثم أَنفذ أمر كسرى فأطلق سراح الجثة!
وكان لعُدي ولد سمَّاه زيدًا، ففرَّ الولد خوفًا على دمه، ثم أدرك النعمان أن عُديًّا كان مكذوبًا عليه، فأسف وكفَّر عن ذنبه بهذا الغسل العجيب الذي يقال له الندم، الذي يستعمله من يذنبون وهم فوق يد القانون.
واتفق أن خرج النعمان للصيد، فلقي غلامًا عرف فيه ملامح عُدي، فسأله عن نفسه، فإذا هو زيد بن عدي، فأظهر له الحزن على ما حلَّ بأبيه، وحمله إلى بلاطه وأعطاه العطايا، ثم قدَّمه إلى كسرى، فشبَّ زيد في البلاط الفارسي، ولم يلبث أن أصبحت له منزلة أبيه من قبله لدى الملك.
على أن زيدًا لم ينسَ للنعمان فعلته بأبيه، ولم يغتفرها له، وترقب الفرص ليوقع به عند كسرى.
أما الصفة المكتوبة في الرقعة فلن أتلوها عليك، أيها القارئ، لأنني أخشى أن تصرف ذهنك عن متابعة ما نحن فيه!
وانقضت أيام، فإذا بزيد ورجل فارسي ينطلقان من المدائن إلى الحيرة، فلقد أنفذهما كسرى ليأتياه من النعمان بامرأة تطابق صفتها الصفة التي عثر عليها فشغلت عقله وحسَّه.
وبلغ زيد ورفيقه الحيرة، ومَثلا أمام النعمان، فلما قرأ كتاب الملك الفارسي، برُم وقال: أما في مها السواد وعين فارس ما يكفي به الملك حاجته؟ فسمع الفارسي وسأل زيدًا: ما معنى هذا؟ فنقل له زيد الكلام بحرفه، وترجم لفظتي «المها» و«العين» بلفظة «كاوان» الفارسية، ومعناها البقر!
ثم قفل زيد ورفيقه إلى المدائن، وزيد أعلم الناس بأنه قد وفِّق في عقدة عقدها لن تلبث أن تشتد على مخنق النعمان، وقال الفارسي لكسرى: إن النعمان ملك الحيرة يسألك: أليس في بقر السواد وفارس ما تكفي به حاجتك؟ فها نحن نعود إليك كما انصرفنا عنك.
فامتلأ صدر كسرى غيظًا، وراح زيد يطعم ناره وقودًا فتزداد ضرامًا.
وسمع النعمان بغضب كسرى، وأتاه كتاب كسرى يدعوه إليه، فحمل أهله وسلاحه وما قوي عليه من متاع، فلجأ إلى بني طيٍّ، وكان متزوجًا فيهم، وسألهم أن يدخلوه بين جبليهما المنيعين، ويحموه من الملك الفارسي إذا وجَّه الجيش في طلبه، فخاف بنو طيٍّ من بطش كسرى.
فارتحل النعمان عنهم وطاف القبائل حتى نزل سرًّا في بني شيبان، فاجتمع بكبير من كبرائهم هو هانئ بن مسعود، واستجاره فلبَّاه هانئ، ولكنه قال له: ما أظن الخرق قد اتسع على الراقع، وما ينبغي لك أو لي أن نهجم هجومًا على أمر قد يكون فيه هلاكك وهلاكي سدًى، وما أحبك أن تفهم من هذا أنني أريد تملصًا من رعي ذمامك، على أنني رأيتك رجلًا مكذوبًا عليه، فلو انطلقت إلى كسرى وحملت إليه الهدايا وأخبرته اليقين، لكان لك حظ في النجاة مع السلم، ولعدت إلى عرشك ملكًا، ولئن متَّ فذلك خير لك من أن تعيش مخلوعًا ساءَت بك الحال وانقلبت من عزٍّ إلى ذلٍّ.
فأجابه النعمان: رأيك نِعم الرأي، فكيف أصنع بحرمي؟ فقال هانئ: يمكثن في حفظي لا يخلص إليهنَّ أحد وفيَّ وفي قومي رمق.
فقبل النعمان، وتوجَّه إلى كسرى، فلم يكن كسرى أقل هياجًا عليه من فيلته التي طرحته تحت أرجلها فوطئته وعجنته بدمه في السنة ٦٠٢.
واستعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة، وأمره أن يجمع ما خلَّفه النعمان فينقله إليه، فأرسل إياس إلى هانئ بن مسعود يطلب منه تركة النعمان، فأجاب هانئ: إني أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة فما ينبغي له أن يردَّها إلا إلى صاحبها، وإما رجل قيل عنه ما قيل افتراءً وبهتانًا، ولا أرى لأحد عليَّ في الحالتين حقًّا.
وحدث أنْ وَفَدَ على كسرى قيس بن مسعود بن خالد بن ذي الجدَّين، وكان سيدًا عربيًّا وجيهًا، فقال له الملك الفارسي: أجعل لك ولقومك مالًا وإقطاعًا تستعينون به على جدب أرضكم وقحط زمانكم، أفتكفيني غاراتكم على السواد؟ فرضي قيس، ولكنه لم ينجح في قطع الغارات إلا أمدًا يسيرًا.
فطفح صدر كسرى، واستشار إياس بن قبيصة الطائي في الحملة على بني بكر، فدعاه إياس إلى الصبر والملاينة، واتِّباع الحيلة، حتى يجد منهم غفلة وتفرقًا، فيرميهم بفرسان من العجم، فلم تُعجب كسرى نصيحة إياس وقال له: ما أراك إلا رجلًا من العرب، وبنو بكر أخوالك، وإنك لتريد دفع العقاب عنهم.
وكان عند كسرى رجل تغلبي اسمه النعمان بن زرعة، قد طوى النفس على حزازات من حرب البَسوس بين التغلبيين والبكريين، فقال للملك الفارسي: إني بنا معشر العرب لخبير، أشد ما يؤذينا القيظ، فلو أعددت العدة وارتقبت ميعاد القيظ لوجدت بني بكر يتهالكون على ماء يُقال له ذو قار تهالكَ الفراش، فعاجلتهم بالجيش وأمكنتك منهم الفرصة، وإني مقيم عندك إلى أن يأزف الزحف، فأنطلق مع الحملة التي تأذن بتسييرها، فوافقه كسرى.
وجاءت أيام القيظ فقصد البكريون موضع ذي قار، حتى إذا علم الملك الفارسي أنهم باتوا منه على مسيرة ليلة، في المكان الذي يُدعى حنو ذي قار، أخذ في تعبئة الحملة، فعقد لإياس بن قبيصة الطائي على الشهباء والدوسر (وهما كتيبتان جعلهما ملوك الفرس قوة عسكرية تابعة للمناذرة: رجال الشهباء من الفرس ورجال الدوسر من العرب التنوخيين على الأخص)، وعقد للنعمان بن زرعة على بني تغلب والنمر، وعقد للهامرز، وهو قائد فارسي كان يلي السواد، على ألف من الأساورة، وعقد لقائد فارسي، يُدعى خنابزين، على ألف أيضًا، وانتهز المناسبة، فسيَّر معهم اللطيمة، وهي قافلة المتاع الذي كان يرسله إلى عامله باليمن. ومن هنا يبدو أن الملك الفارسي كان يرمي من الحملة إلى غرضين، أولهما: منع العرب من الاعتداء على تخوم مملكته، وثانيهما: تخويفهم من الاعتداء على قوافله، لتصبح الطريق آمنة بينه وبين اليمن البلد المحتل.
وزحف الجيش الكسروي حوالي خمسة آلاف من عرب وفرس، وليس هذا بالعدد القليل إذا نُسب إلى الزمن والمحيط، وكان عتاده من أمتن العتاد وأوفره.
فلما شارف الجيش الأرض التي ينزلها بنو بكر، مضى النعمان بن زرعة إليهم فنزل بابن أخت له، ولقي القوم من بني شيبان ومعهم هانئ بن مسعود، فقال لهم: أتاكم ما لا طاقة لكم به من جنود كسرى، والشر بعضه أهون من بعض، فادفعوا إلى الملك رهنًا منكم فلعله يعفو ويكفُّ عنكم، ولأن يفتدي قليلُكم كثيركم خيرٌ من أن تهلكوا جميعًا.
فكان جوابهم: ننظر في أمرنا.
وبثوا الخبر في بني بكر، وأقاموا ببطحاء ذي قار ينتظرون وفود البكريين كلهم ليروا رأيًا في ما يفعلون.
وقدم بنو بكر، قوم بعد قوم، حتى ظهر منهم بنو عجل وعليهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجليُّ، فلم يبقَ من لم يصحْ: هذا سيِّدنا، وسألوه الرأي، وقالوا له: هذا النعمان بن زرعة أنبأنا بما نوى كسرى من البطش، وهانئ بن مسعود أَميل إلى ركوبنا الفلاة.
وكان حنظلة أصلع ضخم الهامة، عظيم البطن مشرب الوجه بحمرة، وكان الحر قد فصَّد عرقه وزاد وجهه احتقانًا، فقعد ومرَّ بيده على جبينه يمسح العرق وصرخ بصوت مغضب: إني لأسمع أصواتًا تضجُّ حولي، فلا تجرنَّ فارس أرجلها بهذه البطحاء، بطحاء ذي قار، وأنا أسمع لكم نبرة أو نفَسًا يتردد. إني لا أرى وجهًا غير وجه القتال، أما ركوبنا الفلاة فهو الموت عطشًا، وأما الاستسلام إلى كسرى فهو ذبح رجالنا وسبي نسائنا وذرارينا، ثم التفت حنظلة إلى هانئ فقال له: أخرج ما أودعك النعمان من سلاح وفرِّقه في المقاتلة، فإن كان الظفر ردَدْناه عليك، وإن كان الموت فلا أرى هذا السلاح إلا أهون مفقود بجانب أرواحنا.
ودار حنظلة فوجد النعمان بن زرعة واقفًا فصاح به: إنك شهدت وسمعت يا هذا، ولولا أنك رسول، ولولا أننا نريدك أن ترجع إلى من أرسلك فتخبره، لقتلناك، فامضِ عنا.
وانطلق النعمان بن زرعة، وجعل هانئ بن مسعود يوزِّع ما لديه من سلاح، وتفجَّرت في النفوس ينابيع من قوة، كانت محبوسة في الأغوار، وكان حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي صاحب اليد السحرية التي فكت عن تلك الينابيع أقفالها، فتفجرت زاخرة عامرة، ولولا وجود تلك الينابيع المحبوسة لذهب جهد حنظلة عبثًا من العبث، فالبطل الفرد يكون أثره بمقدار ما يجد — أو يوجد — التجاوب بينه وبين من حوله.
وبات الجميع ليلتهم على يقظة وتأهُّب.
وعلم البكريون، من نزيل كان بينهم، أن الفرس رماة أفتك ما عندهم النشاب، فقرروا أن يتكردسوا للمعركة كراديس، أي: قطعًا قطعًا من الخيل، فإذا صرف الفرس نشابهم إلى كردوس وهجموا عليه شدَّ كردوس أو كراديس أخرى على الفرس، حتى لا يعرف العدو أين يضرب، ولا من أين تقع عليه الضربة.
وأقبل اليوم التالي، وهو يوم المعركة، فنهض حنظلة إلى الوضن التي تستعملها النساء في ركوب الأينق، فبدأ بقطع وضين امرأته، ثم قطع الوضن كلها كي يستحيل على النساء الفرار على الأينق إذا فرَّ الرجال، وصاح: ألا فليعلم كلٌّ منكم أنه إذا خلَّى مكانه فقد أسْلَم حليلته للسبي، فقاتلوا في مدى ما بين الظفَر أو الموت، وإنه لمدى ضيق، وبادروا العدو بالشدة فذلك أوقع.
ونهض هانئ بن مسعود وقد قنع بالقتال، فأرسلها كلمات فيها هدوء الحكمة، وليس فيها برود الحكماء، فقال: إن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدَّنيَّة!
وتعالت أصوات النساء في الحضِّ على البأس والبلاء، فصاحت امرأة عجلية:
ودنا جيش الفرس يسير على تعبئة وفق النظام، ومعه الأفيال، ووقف الجانبان متقابلين، وخرج أسوار فارسي يتحدَّى العرب للبراز، فلم يلبث طويلًا حتى انبرى له فارس عربي طعنه فدقَّ صلبه، فاغتاظ الهامرز وخرج بنفسه يدعو إلى البراز، فانبرى له فارس عربي هو الحوفزان، فألقاه صريعًا.
وكان ذلك مما شجع العرب وفتَّ في أعضاد الفرس، حتى أن بعض العرب الذين كانوا في الجانب الفارسي هزَّهم الحنين إلى قومهم، فعزموا أن يضمُّوا صفوفهم إلى صفوفهم، وتذكر بنو إياد، وكانوا مع الجيش الكسروي، قول شاعرهم:
والإياديون كثيرًا ما أذاقوا المملكة الفارسية بأسهم، وكثيرًا ما ذاقوا منها العذاب، قبل أن تجندوا لها جنودًا مرتزقة، فبعثوا إلى البكريين يقولون: أيٌّ أحبُّ إليكم، أن نلحق بكم الساعة أم أن ننتظر اشتداد المعركة فننتقل إلى جانبكم؟ فأجابهم البكريون: بل أحب إلينا أن تنتقلوا في غمار المعركة، فإنه أشد ضعضعة ودهشة للعدو.
والتحم الفريقان، ولحق بنو إياد ببني بكر في عنفوان المعركة، ولم يستطع الفرس أن يجاروا العرب في سرعة التفرق والتجمع، مع رشاقة الضربة وشدتها، فذاقوا أول هزيمة أنزلها بهم العرب، وكان ذلك حافزًا أيقظ ثقة العرب بأنفسهم وجرَّأهم وهيأهم لساعة قريبة أعدَّها لهم التاريخ وأعدَّهم لها، والتاريخ يزن الإرادات ويعتبرها، ولكن له، بالنتيجة، إرادته الخاصة، والبرهان أن يوم ذي قار كان مفاجأة للفرس، كما كان مفاجأة للعرب، وغير يسير أن نحكم أي المفاجأتين كانت أشدَّ وأعظم!
قال الراوي: وكان العرب عامة، والنصارى خاصة، ناقمين على الكسروية الفارسية لما أنزله بهم سابور الثاني الملقب بذي الأكتاف، وكان مما فعله هذا الملك أن ضاعف الجزية السنوية على النصارى، فلما وقع يوم ذي قار، خرجت الصبايا النصرانيات العربيات في أكمل زينة فرحًا بالانتصار الرائع.
ولم يمضِ وقت حتى كان محمد بن عبد الله يذكر ذا قار ويقول: «هو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نُصروا».
وكأن فرح الصبايا النصرانيات وكلمة محمد بن عبد الله رمزان باقيان يذكِّراننا بيومٍ اجتمعت فيه الكلمة العربية من أجل إثبات الوجود ودفع الحيف.