الإنسان المنقسم على نفسه
في كتاب المستطرف للأبشيهي هذه الحكاية الغريبة، نقل عن أحدهم أنه قال: دخلت بلدة من بلاد اليمن، فرأيت بها إنسانًا من وسطه إلى أسفله بدن واحد، ومن وسطه إلى أعلاه بدنان مفترقان، برأسين ووجهين وأربع أيدٍ، وهما يأكلان ويشربان ويتقاتلان ويتلاطمان ويصطلحان.
قال: ثم غبت عنهما قليلًا، ورجعت فقيل لي: أحسن الله عزاءك في أحد الشقين.
فقلت: وكيف صُنع به؟
فقيل: رُبِط في أسفله حبل وثيق وترك حتى ذبُل ثم قطع، ورأيت الجسد الآخر بالسوق ذاهبًا وراجعًا …
قال راوية من العصر: قرأت هذه الحكاية الغريبة وأنا لا أزال في مطلع من العمر، وعيناي لم تنفتحا على الحياة إلا بعض انفتاح، وكنت قد سمعت الكثير عن كذب القصاصين العرب، وعن حبهم للمبالغة والغلو والإغراق، فقلت في نفسي: شدَّ ما أساء ناقل الحكاية إلى راويتها، وهل يعقل أن يعتدي إنسان على المعقول مثل هذا الاعتداء؟ ومن يجهل أن هذا المخلوق الذي نعتته الحكاية إنما هو تزوير مفضوح على الطبيعة؟ ثم طفقت أسمع أن الروح العربية سطحية، وأن العقل العربي غير غوَّاص، وأن القدرة العربية على التعبير الفني عن عميقات الفكر ليست بالقدرة العظيمة، وكدت في يوم من الأيام أن أصدق كل هذا الذي سمعت، إلا أن عيني كانت تزداد انفتاحًا على الحياة، وكانت النتيجة أن أصبحت قارئًا خيرًا مما كنت، وأدركت صحة قول القائل: لا يستطيع الأَديب أو المفكر، مهما استغنى، أن يستغني عن القارئ الصالح، وكم فقر أو غنى في أديب، أو مفكر، إن هو في الواقع إلا فقر أو غنى في القارئ، وها أنا أعود اليوم فألتفت إلى الحكاية الغريبة، حكاية المخلوق الذي رُوي أنه عاش في بلدة من بلاد اليمن.
كنت أريد أن أقول المخلوق الشاذ، على أني أتمثله اليوم إنسانًا واحدًا من وسطه إلى أسفله، وإنسانين اثنين من وسطه إلى أعلاه، وبدلًا من أن أَعجب منه أراني أَعجب من نفسي كيف كنت أجده تزويرًا على الطبيعة، وكل إنسان هو في الحقيقة واحد من وسطه إلى أسفله، ثم هو اثنان من وسطه إلى أعلاه!
أجل! هو اثنان برأسين ووجهين وأربع أيدٍ، هو اثنان برأسين تجول فيهما الأفكار مؤتلفة ومتناقضة، هو اثنان بوجهين صادقَين ومنافقَين، هو اثنان بأربع أيدٍ: عاملة وكسلى، خادمة للخير وآثمة، بانية وهادمة، هو اثنان إذا أكل أكل اثنان، بل ربما أكل واحد وجاع واحد، وإذا شرب شرب اثنان، بل ربما شرب واحد وظمئ واحد، هو اثنان يتقاتلان فيما بينهما ويتلاطمان ويصطلحان، واحد مقهور وواحد منصور، واحد باكٍ وواحد ضاحك، واحد حاقد وواحد غافر، هو اثنان، هو الشخص المنقسم على نفسه، يهرم واحد منه أو يمرض، فينقلب خطرًا على الآخر أو ضررًا، فيحتاج الآخر إلى علاج، علاج جراحي مستأصل، فيُربَط الهرِم أو المريض بحبل وثيق في أسفله حتى يذبل فيُقطَع.
ولو أن الراوية كان شاهد المخلوق اليمني يوم قُطعَ عنه شقه، لرأى كيف ألقاه في الكفن والنعش، وكيف حمله إلى القبر، ثم لرأى أن الإنسان يحتاج من نفسه لنفسه إلى العلاج الجراحي، ويحتاج أن يقيم لنفسه من نفسه الجنازة، وأن يكون منه الدافن والمدفون، وكل ذلك في سبيل الحياة والتجديد.
ولو أن الراوية انتظر يوم رأى المخلوق اليمني ذاهبًا وراجعًا في السوق، وقد قُطع عنه شقه الآخر، لو أنه انتظر هنيهة لرأى شقًّا آخر ينبت في موضع الشق المقطوع، ثم لرأى رأسًا جديدًا ينمو، ووجهًا جديدًا ينمو، ويدين جديدتين تنموان، ولرأى الشخص يعود إلى ازدواجه وانقسامه على نفسه، فقال: سنَّة الحياة، سُخِّر لها حتى الموت! ولن تجد لسنة الحياة تبديلًا.