سرابٌ وواحة
يتحدث الناس عن سفَرٍ من صقع في الأرض إلى صقع، وقلَّ أن يتحدثوا عن سفر من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل.
ولكن صاحبنا هذا عربي من الجاهلية تخطَّى مسافة الوقت إلى القرن العشرين، أو هو عربي من القرن العشرين طوى الزمان القهقرى إلى الجاهلية.
وخاض الصحراء، ووقع عليه ليلٌ كليلِ امرئ القيس أو الشنفرى، وسمع الذئاب تعوي، وانغمر بإحساس أفاضه عليه ما يحيق به من ظلام وفراغ، وخُيِّل إليه أن الصمت حوله يتحدث بهمس وينادي بجَهْر، فأقام يتلقى الأصداء من صوب إلى صوب، وأصبح يقص القصص عن الجن والغيلان وشياطين الشعر.
إلا أن نهاره كان أجدى من ليله في صحرائه.
لقد اندفع يمشي، والشمس فوقه كرة من نار مشبوبة، تبسط تحته بساطًا من لهيب، وتنشر في الفضاء أمامه بريقًا يكدُّ عصب العينين، وتسكب في حلقه الظمأ، فتساوي الدنيا عنده قطرة ماء، ويحلم بالسلسبيل الرقراق، وإذا هو يرى الدنيا تنبع له الماء حقًّا، على بُعد غير بعيد، ويرى الماء يتألق صفاء ويدعوه، ويشهد مع الماء ألوانًا كأغرب الألوان وأفتنها، فيستشعر الراحة وكأنه يحس بالنسيم البليل يمسح محياه، وبالعذب البارد يقع على غلته فينقعها.
ويسعى، يسعى شيقًا لهفان، فلا يلحق بالماء حتى يهرب منه، ويتمثل له مرة أخرى، على بعد غير بعيد، صافيًا، لامع الصفحة، محفوفًا بعجائب الألوان، فيتبعه، ويظل يتبعه، حتى يعلم أنه السراب.
ثم ماذا؟ يقول للصحراء من حلق جاف وقلب ناقم: شد ما تعذِّبين أبناءك وتهزئين بهم يا قاسية، فتبقى الصحراء على صمتها الذي لا أثر فيه للحنان، ويضمحل السراب كالوهم الذي افتضح أمره.
فيحمل صاحبنا نفسه بعناد كعناد حب الحياة، ويمشي، والصحراء كأنها بساط لا يُطوى وراءه حتى يُنشر أمامه، وإذا به يجد نفسه قد أطلَّ على خضرة ونضارة، فيتهم عينَيه، ويتهم الصحراء، ويقول في أعماقه: سراب آخر! سراب آخر!
ولكنه لا يلبث أن يدرك الخضرة والنضارة، فيلمس النبات يجادله في حقيقة وجوده، ويرى الماء، فيغمس فيه إصبعه متردِّدًا في أن يصدق اليقين.
غير أن النبات والماء لا ينبسان بكلام، فالوجود حقيقة تقنع بذاتها، واليقين لا يتنازل للشك.
فيكبُّ بشفتيه على الماء، ويغرق براحتيه، فيسقي وجهه وينام على بساط العشب، ويسمع صوتًا يأتيه من السكون: «أنا الصحراء! قلت لي من قبل: شدَّ ما تعذِّبين أبناءك وتهزئين بهم يا قاسية. ولقد أخطأت؛ كنت ظمآن والشمس تلفعك بحرِّها فتمنَّيت وتشهَّيت، فلوَّحت لك بالسراب فصدقت، فوقعت في الخيبة، وما كان لك أن تصدق السراب، إنه تخييل أمنية تمجَّدت بذاتها، وشهوة تبجحت بنفسها، وعينَين زوَّر عليهما العصب المكدود، وإني لا أكافئ النفوس التي تتوهَّم، ولقد أقبلت على هذه الواحة وفيها الماء والعشب، فأطفأت من صدرك شعلة مشبوبة، واسترحت على الأخضر اللين، ونسيت أن تفكر، نسيت أن هذا الماء لو لم تتعهَّده يدٌ لغاضَ، ولما نبت هذا النبات، ولكانت هذه الخضرة والنضارة زوالًا من الزوال، إني أكافئ اليد التي تنشئ وتبدع».
فتحرَّك العربي وقال: «سمعتُ الصوت، وعرفتُ أيتها الصحراء، عرفتُ فيك السراب، وعرفتُ فيك الواحة، وفهمتُ الرمز، فهمتُ أنك كالحياة أو أن الحياة مثلك، وفهمت أنك كالدهور أو أن الدهور مثلك، سراب وواحة.
أما السراب فجمالٌ هنيهة وعزاءٌ شرٌّ من المصيبة، وأينما كنت من بقاع الأرض، وأينما كنت من عصور الزمان، فسأدعو هذا الدعاء: «اللهم جنِّبني من كل شيء سرابه، وأدخلني منه في الواحة»!»