كولومبس الشرق
أفاقت بقعة من بقاع القارة الأفريقية، ذات يوم من أيام القرن الأول قبل المسيح، فرأت طائفة من الغرباء قد حطُّوا فيها رحالهم.
كان الغرباء هؤلاء عربًا حِمْيَريين غادروا أحد الشواطئ في جنوب شبه الجزيرة العربية، وركبوا زوارقهم وجذَّفوا بسواعدهم الفتيلة إلى مكان من الشاطئ المقابل في الغرب.
واستقروا في الحبشة.
فكانوا نواة الأمة الحبشية، وأول حجر في بناء دولتها، وأبكر غرس من أغراس مدنيَّتها، واستمرت لهم علاقات بالدولة الحِمْيَرية، وشاركوها الأعمال وقاسموها الأرباح.
ثم أخذوا يتذمَّرون.
فالحِمْيَريون أنسباؤهم يستأثرون لأنفسهم بالحصة الكبرى من الأعمال والأرباح التجارية، وهكذا اتجه نظر الأحباش شطر جيرانهم في الشمال: البطالسة في مصر، وشد ما كان البطالسة يتضايقون من الدولة الحِمْيَرية، وإشرافها على الشريان العظيم الذي يربط العالم بالهند، فمدُّوا إلى الأحباش يدًا حارة، وأقبل الكثيرون من المصريين يعملون في الأسطول الحبشي التجاري.
وهنا تومئ كفُّ التاريخ إيماءة سريعة إلى حادثة بسيطة لم ينتبه لها الناس يوم وقعت، ثم ما لبثوا أن نسوها بعد وقوعها، ولكنها حادثة قُدِّر لها أن تكون فاتحة انحطاط الدولة الحِمْيَرية.
قيل إن رجلًا من سكان مصر، ضائع الأصل بين الإغريقية والرومانية، دخل يومًا في خدمة البطالسة، واستهواه البحر، فلحق بإحدى سفن الأحباش وتلقى ثقافة بحرية رائعة.
ثم تفتق عقله عن جرأة وعبقرية استحق لهما لقب كولومبس الشرق. ذلك أنه ركب يومًا سفينة، وقذف بها وبنفسه في غمار العباب، وانطوت أشهرٌ حسب فيها الناس أن العباب افترسه، وكفَّ من ينتظره عن انتظاره.
ولكن شراع سفينته لاح يومًا في الأفق مقابل ثغر الإسكندرية وكأنه هبط هبوطًا من زرقة الجلد.
لقد مخر هذا الملَّاح الجريء البحر الأحمر، وتحدَّى رياحه، وكعم أمواجه وبلغ الهند، وانقلب سالمًا غانمًا.
على أن عمل هذا الملَّاح الذي سماه التاريخ هيبالوس لم يكن مغامرة على العمياء، فإنه أتقن دراسة العواصف في البحر الأحمر، فوجدها تهب على مواقيت، وتبين في ثنايا العباب مسالك خفية تأمن فيها السفن على نفسها.
وكان أن غزا الرومان مصر، وانتزعوها من البطالسة، فبنوا على ما أثبته هيبالوس من قواعد الملاحة في بحر شَكِسٍ قويِّ المراس كالبحر الأحمر.
ورأى الحِمْيَريون أن طريق الاتصال بالهند — هذا الشريان العظيم الذي كان يمر بأرضهم فيغذِّيها — قد أخذ في النضوب والتكمش، ولاحت أمائر الشحوب على نجمهم المتألق.
وتوالت عليهم غارات أنسبائهم الأحباش، وظل الاستعمار الروماني يزيد في إضرام الحريق بين الشعبين الشقيقين.
فاستطاع الأحباش، في أواسط القرن الرابع بعد الميلاد، أن يحتلوا اليمن نحوًا من ربع قرن، وهو أول احتلال حبشي دام أمدًا طويلًا، غير أن نداءً كان أبدًا يهيب بالحِمْيَريين إلى الكفاح.
ذلك هو الروح الطبيعي في الأمم، روح الوثوب والانعتاق من النير، فطرد الحِمْيَريون الأحباش، وتمكنت الدولة الحِمْيَرية الأخيرة — أو دولة التبابعة — من أن تبقي النجم الحِمْيَري بازغًا في الأفق، يشع بنور شاحب، ولكنه نور على كل حال.
غير أن الأحباش الأكسوميين لم يفروا من اليمن إلَّا وهم يحلمون بالكرَّة بعد الفرَّة.