أصحاب الأخدود
ضرب طيطش الحصار على أورشليم، وفتحها عنوة في السنة ٧٠ بعد الميلاد.
وصبَّ نار نقمته على المدينة وأهلها، فنجا منهم جماعة هاموا على وجوههم إلى أن بلغوا اليمن، وفيها الحِمْيَريون.
وهكذا انتقلت اليهودية إلى اليمن، وثبتت لها قدمٌ فيها.
واشتدت النزاعات المذهبية في سوريا بين المسيحيين من نساطرة ويعاقبة، فكان المضطهَدون يفرُّون بأنفسهم إلى شبه الجزيرة العربية، وبات الذين يرون فساد العالم ويتوقعون نهايته الوشيكة يتخذون من بعض القفار العربية مواضع عزلة ينصبون فيها الخيام صوامع لهم، وينقطعون إلى العبادة.
ولما رأى امرؤ القيس الشاعر لمعان البرق في ظلمة الفضاء المنذر بالمطر، فوق هضبات نجد، تذكَّر سراج أحد أولئك الرهبان، وهو قعيد خيمته بالصحراء في عتمة الليل ووحشته.
وأقبل يوم أخذت فيه إحدى القوافل التجارية العربية راهبًا يعقوبيًّا اسمه فيميون.
وأقبل يوم آخر من السنة ٣٥٦ بعد الميلاد، فوصلت إلى اليمن بعثة دينية نسطورية قدمت من القسطنطينية عاصمة البيزنطيين.
وراح الراهب فيلوس، رئيس البعثة، ينشئ عددًا من الكنائس بالمال الذي زوَّده به الإمبراطور البيزنطي.
وبدأت صفحة من الخلافات الدينية في دولة الحِمْيَريين التبابعة، ولم تلبث هذه الخلافات أن اختلطت بالأغراض السياسية وتسخَّرت للمصالح.
أما المسيحيون فمالوا إلى الدولة الحبشية الأكسومية التي تدين بالدين المسيحي.
والدولة الحبشية هي صديقة الروم البيزنطيين، ولها كما للإمبراطور البيزنطي مصلحة في تقويض الدولة الحِمْيَرية.
وأما اليهود فكان ميلهم شديدًا إلى حفظ مملكة الحِمْيَريين وتهويدها إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فاعتنق الملك ذو نواس اليهودية.
أكان دافعه اقتناعًا دينيًّا أم كان يفكر في الخطر الحبشي، ويرى اليهود جماعة لا يتمنون فتحًا حبشيًّا لليمن ولا يؤيدونه؟
تلك مسألة لم تنفرج عن جواب لها شفتا التاريخ.
إلا أن التاريخ لم يبخل بحكم عام يصدره على ذي نواس وسيرته في الجملة.
لقد كان هذا الملك حِمْيَريًّا عربيًّا يغار على الدولة الحِمْيَرية واستقلالها، غير أنه كان قليل الكفاءة السياسية، فاقترف حماقة وفظاعة أضاعتا الدولة.
السنة ٥٢٣، الشهر هو تشرين الأول، والناس في اليمن يتناقلون الأحاديث.
فمن قائل: إن بعض اليهود المقرَّبين من الملك هم الذين أوحوا إليه بهذه الفكرة حنقًا على النصارى.
ومن قائل: كلا، بل الملك تأكد من تعلُّق النصارى بالأحباش والبيزنطيين، فهو عازم على أن ينتقم منهم.
ومن قائل: إن لليد الغريبة شأنها، فالبيزنطيون والأحباش يتمنون أن يقدم الملك على مثل هذا الأمر، فيتسنى لهم أن يوقدوا الحماسة ليجردوا عليه حملة عظيمة.
ومن قائل: إن الملك لن يقترف هذه الحماقة والفظاعة.
فيجيبه آخر: بل جاءنا الخبر أن الملك قطع عزمًا لا نكوص عنه.
وحقًّا أقبل يوم من أيام تشرين، من السنة ٥٢٣ بعد الميلاد، فشهدت نجران هولًا وهمجية، وشهدت بطولةً وإيمانًا، كل ذلك في مزيج واحد، في ساعة من تلك الساعات الحاشدة العنيفة العجيبة التي لا يجهلها التاريخ.
قيل: أَمر ذو نواس فحفر أخدودًا واسعًا في الأرض، ثم أمر فأضرمت نار عظيمة في الأخدود، ودفع بنصارى نجران إلى أشداق النار، واحدًا واحدًا، فكانوا يستقبلونها شجعانًا صابرين، يتحدَّونها ويتحدَّون المخلوق الذي أمر بهذا التحريق البشري المنكر.
ولم ينجُ من الضحايا إلا رجل سمَّته الرواية ثعلبان.
فمضى ينتفض رعبًا، ويغلي حقدًا، حتى أتى القسطنطينية، فقابل الإمبراطور يوستين الأول وأخبره النبأ الهائل.
فأنفذ يوستين إلى ملك الحبشة رسالة خطها بيدٍ راعشة، وفي هذه السنة نفسها — ٥٢٣ بعد الميلاد — تحركت حملة حبشية تضمُّ في صفوفها نحوًا من سبعين ألف رجل، وعبرت البحر إلى اليمن بقيادة أرياط.
واندحر الحِمْيَريون، ولكنهم تابعوا القتال سنتين، فلم يستسلموا إلا في السنة ٥٢٥، بعد أن تجددت الحملة بقيادة أَبرهة.
أما ذو نواس فإنه حين أحسَّ بانهيار ملكه ركض بجواده إلى البحر، ودخل في الأمواج وفي تاريخ الحمقى المتوَّجين.