سيف بن ذي يَزَن على سد مأرب
كان في حاشية أبرهة، لما زار مأرب ليحمل منها مادة البناء للقليس، فتًى وضيء الطلعة تنطق سيماؤه بالذكاء المتقد، والحمية الزاخرة.
لم يكن يراه إنسان إلا استرعى نظره، فتأمَّل الصباحة في محيَّاه، وأُعجب برجولته العارمة، ولكن ربَّما حار في تفسير تلك الكآبة التي تحوم عليه.
فسيف أمير في ذروة من النعمة والجاه، ولئن كان أبرهة قد انتزع أم سيف، ريحانة بنت علقمة، من عصمة زوجها، أبي مرة ذي يزن، فالعهد بسيف أنه يجهل ذلك كله، ويجهل أن ذا يزن أبوه، وقد أفاق على نفسه وهو لدى أبرهة في منزله بغمدان، وكل يقينه أن القائد الحبشي والده، وكل يقينه أن «مسروقًا» الذي نسلته أمه من أبرهة إنما هو أخوه لأبيه وأمه.
فماذا به حتى أخذت الكآبة منه وطفت على قسمات وجهه في الأعوام الأخيرة؟
لا شك في أنه استطاع أن يعرف الأمور على حقيقتها، فتبين أن القائد الحبشي اغتصب أمه من والده اغتصابًا، وعلم أن أباه إنما هو ذو يزن من أشراف حِمْيَر وسادتها. ولم يُطلعه غريب على هذه الأسرار كلها، ولكنه اضطر أمه اضطرارًا أن تبوح له بما غاب عنه، ففي يوم عالج أخاه مسروقًا ونافسه، وكان يعلم أن مسروقًا يحسد في قرارة نفسه بشرته الضاربة إلى بياض واستشراق، غير أن سيفًا كان يعتقد ذاته محظوظًا إذ شاءت الطبيعة أن تجيء بشرته لأمه، لا لأبيه أبرهة، فلما قسا عليه أخوه في الكلام أغضى وتحمَّل، ثم سمع شيئًا أقامه وأقعده، فإن مسروقًا شتمه وشتم أباه.
فلمع في ذهنه خاطرٌ كلمع البرق: أيمكن أن يسبَّ مسروق أباه وهو أبرهة؟ كلا! وإذن، فالمرجح أن أباه غير القائد الحبشي.
وانطلق سيف إلى أمه، ومنذ ذلك اليوم لم يهدأ عنها حتى أفضت إليه بكل شيء، وحدثته حديثًا محزنًا مثيرًا عن أبيه ذي يزن، فانفجرت عيناه بالعبرات، وقام في صدره حقد لاهب، وحرَّكته همة عنيدة إلى الانتقام.
لقد حدَّثته أن أباه، لما اضطهده أبرهة واستبدَّ به، فرَّ من اليمن فأتى مدينة في العراق يُقال لها الحيرة، كان قد نزح إليها قوم من عرب اليمن من بني لخم وغيرهم، فأنشأوا فيها ملكًا.
ثم حدثته كيف أن ملك الحيرة انطلق بأبيه إلى ملك الفرس الذي يُقال له كسرى، فناشده أن يعينه على أبرهة والأحباش، فوعده ملك الفرس الوعود، ولكنه ماطله حتى مات حزينًا مقهورًا.
… وها هو سيف الآن في حاشية أبرهة يزور مأرب! طالما سمع عن المدينة وأمجادها وسدها العظيم، طالما قال له الوطنيون اليمنيون الذين أصبح على صلة وثيقة بهم: أيغلبنا هؤلاء الأحباش، وما أول أمر الحبشة إلا نفر من أجدادنا هاجروا إليها؟ أنقعد عاجزين ونحن بناة قصر غمدان وسدِّ مأرب؟
وأبى سيف إلا أن يشاهد السدَّ العظيم، وكان السدُّ لا يزال صامدًا يخزن المياه الغامرة، وقد طرأت عليه بضعة فتوق أصلحها أبرهة.
وقف الأمير الشاب يلحظ غمر المياه الصافية، بعد أن اجتمعت وهدأت ورسبت أكدارها في القرار، وراح يتأمل الحجارة الضخمة التي اقتطعتها وبنتها السواعد الجبارة، فكبر قلبه بما أبصر من آثار الجِدِّ والعظمة في بلاده، وفي هنيهة تطلقت أسارير وجهه من قبضة الكآبة، وابتسم ابتسامة مَنْ أعجبه شيء وسلَّاه شيء.
فأسرَّ إليه أحد اليمنيين ممن أحاطوا به: ولِمَ يبتسم الأمير؟
فأجابه الأمير: ذكَّرني هذا السد بأسطورة الجرذ، فقد سمعت من عجوز أن أميرًا من أمرائنا سُمي لي مزيقيا، عمرو بن عامر ماء السماء، ركب يومًا فأتى هذا المكان، فنظر إلى جرذ ينشب أسنانه في السد، فأدرك أنه سينقبه فيفيض السد وتخرب البلاد ويتشتت العباد، فقفل راجعًا إلى بيته ودعا بابنه فأخبره الخبر وقال له: «لا بد من النزوح، ولكن لا بد قبل ذلك من بيع أرضنا، فإذا اجتمع لديَّ الوجهاء فأغْضِبْني فإني سأزجرك، فتحمَّس والطمْني، فتجدني قد صحت: وا ذلَّاه! وحلفتُ أن لا أقيم في بلد يلطمني فيه ولدي جهارًا نهارًا، ثم تجدني قد عرضت أرضنا للبيع بثمن بخس، وأظن أن وجهاءنا سيغتنمون غضبي وسيشترون»، وحقًّا مثَّل الأب والابن الرواية، المهزلة، وباعا الأرض ورحلا، ثم لم يلبث السد أن انفجر بفعل الجرذ الذي زحزح حجرًا من حجارته ربما احتاج إلى سواعد خمسين من الرجال، فنزح من الناس خلق كثير، وأصبحوا وهم المناذرة في العراق والغساسنة في الشام.
وهنا أذن الأمير سيف لنفسه بأن يضحك وقال لمحدِّثه: شد ما ظلمنا المناذرة والغساسنة حين جعلنا جرذًا يغلبهم على السدِّ فيُبعدهم عن أوطانهم، وهم من نعلم، قد استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم دولتين عربيتين منظورتين، كلا! ليس الجرذ الذي دفع بهم إلى النزوح، ولئن كان هذا السد، قد نُقب من قبل، فإنهم ما كانوا ليعجزوا عن ترميمه، ولقد نُقب في زمننا هذا فاستطاع أبرهة أن يصلحه.
وعادت الكآبة فطفت على وجه سيف وهو يتمتم: إن سفن الرومان ذللت البحر الأحمر وحوَّلت عنا طريق الهند … ليس بدعًا أن يقهرنا الأحباش إذا كنا قبلنا أن يكون الجرذ هو الذي جلانا عن بلادنا.
فأجابه أحد الذين يحيطون به: إنها أسطورة أيها الأمير فلا تُزعَج بها.
فقال سيف: ولكن الأساطير قطعٌ من العقول، وصور من مدى الهمم، بئس ما كافأنا به أجدادَنا، بنوا لنا هذا السد العظيم فقابلناهم بأسطورة الجرذ الذي خرَّبه.
فقال الرجل، وقد أدرك مغزى كلام سيف: لا تزال لنا عقول، ولا تزال لنا همم، أيها الأمير، وإننا لنكافئ بغير أساطير الجرذان. اطلب تجد!