الأمير سيف عند كسرى
قالت أم سيف لولدها: «إنك لا تزال تطلب أمرًا أظن فيه هلاكك كما هلك أبوك من قبل، فارفق بنفسك يا بني، ولقد هممتَ بالخروج يوم ارتدَّ أبرهة بفلول جيشه عن مكة، ثم رأيت أن لا تفعل، ونعم ما رأيت يا بني آنئذ، فليس يغنيك هؤلاء الفتية اليمنيون المتحمِّسون الذين يدفعون بك إلى التمرد، وبعد، فما أنت في ملك الأحباش بمغبون، ولو كان كسرى هذا الذي تتحدث عنه ينوي إمداد اليمنيين بالجند والسلاح لما قال لأبيك: «أكره أن أغامر بجيشي في موامي الأثل والسدر».»
بمثل هذا كانت أم سيف تخاطب ابنها كلما أتاها مستشيرًا، وكان سيف لا يستسهل الهدف الذي عكفت نفسه على نشدانه، بل كان يدري أن كلام العجوز ليس خوفًا كله وهراء وضعف امرأة.
على أنه كان قد عقد العزم فلا تردُّد ولا نكوص، وها هي الظروف جميعها مؤاتية، لقد مات أبرهة، ومات خَلَفه وولده يكسوم، فاعتلى العرش مسروق، ومسروق ليس بالرجل الكفؤ الخطير، والأحباش في زمنه يرون الهدوء مخيِّمًا على البلاد، ويحسبون أن مُلك اليمن مستتب لهم أبد الدهر.
وكان يوم دعا فيه نوال بن عتيك إلى مجلس سري، ونوال هذا مولى سيف، وصاحبه ورجله القوي، فشهد المجلس نفر من زعماء اليمن الموالين لسيف.
قال أحد هؤلاء: إن كسرى، أيُّها الأمير، خذل أباك، فلو لجأت أنت إلى قيصر الروم، وعرَّفته أننا خير له من الأحباش لأعانك عليهم، أو لأَمرهم بترك البلاد، فبتنا أحرارًا وكفانا ذلك مئونة الثورة.
فضحك سيف ضحكة ساذجة كالكلام الذي سمعه.
ولكن زعيمًا آخر قال: يجب أن لا يطول بنا الجدال، فلا استعانة لنا إلا بملك الفرس لأنه عدوُّ الروم، وما دام ملك الروم يؤيد الأحباش لأسباب اقتضتها مصالحه، فإن ملك الفرس خليق بتأييدنا للأسباب نفسها، وأظن الأمير يستطيع أن يُقنع كسرى بما له من منفعة في صداقتنا، ولئن كان والد الأمير لم ينجح من قبل، فالزمان قد تبدَّل اليوم، والفرس أشد قوة، وملك الحيرة مقبول الكلام عندهم، فليمضِ الأمير إلى ملك الحيرة وليسعَ سعيه المبرور.
وكأنما نطق الزعيم بالقرار الذي انفضَّ عليه المجلس.
وكان صباح خرج في غرَّته الأمير سيف بن ذي يزن، يركب ناقة نشيطة، وإلى جانبه مولاه نوال، وكلاهما يغذُّ السير في طريق الحيرة.
وتنبه مسروق إلى خروج سيف من اليمن، فبعث في طلبه ولكنه فاته، وضحك مسروق وهو يقول: إن هذا رجل يأبى إلا أن يموت ميتة أبيه.
وأطلَّ سيف ومولاه على خضرة الحيرة، وقابل ملكها النعمان بن المنذر، وشكا إليه ما تلقى اليمن من عسف الاحتلال الحبشي.
فقال النعمان: قضى أبوك، يا ابن العم، حياته مكرَّمًا في ملكنا، فإذا شئت أن تمكث لدينا فعلى الرحب والسعة.
فأجابه سيف: لم آتك هاربًا بنفسي ألتمس ملجأ، وإنما أتيتك مستنجدًا على فاتحين يظلمون قومي وقومك، وأنا أعرف لك مكانة عند كسرى، وأعرف لكسرى منفعة في شد أزرنا على الأحباش، فالأحباش صنائع الروم، والروم أعداء الفرس، وطرد الأحباش ضربة على نفوذ الروم، فمهِّد لي لقاء كسرى واغنم شكري وشكر اليمن، فإنها أصلكم ومنبتكم.
فقال النعمان: حبًّا وكرامة يا ابن العم.
ولم يلبث الأمير سيف أن وجد نفسه في المدائن، في قصرها الملكي العظيم، ينتظر الإذن بمقابلة كسرى.
ثم أُذن له، فمثل بين يدي الملك.
قال سيف: إنك لتذكر، أيها الملك، رجلًا من بني حِمْيَر خان الحظ بلاده، فاجتاحها الأحباش، وأذاقوا أهلها مرَّ العذاب، فأتى المدائن مستغيثًا وقد غصبه قائد الأحباش امرأته، ولكنه قضى نحبه في غم الانتظار، ذلك، أيها الملك، والدي! ولقد سمعت أنه تلقى وعدًا أكيدًا بالمعونة، فلنا عليكم الدَّين الذي هو وعد الحر. وإن إخراج الأحباش من اليمن لصدمة قاسية يمنى بها نفوذ الروم، وهم ألد أعدائكم، وبينكم وبينهم المكايدة الشديدة، وأهل اليمن أهل معروف، ووفاء بالمعروف، وبلادهم خيِّرة غنية، فلن تضيع لكم في ذمتهم جهود تبذلونها من أجلهم.
فانبسط وجه كسرى لما نقل إليه الترجمان الكلام وتأمل الحزن المكبوت والعزم الصادق في محيَّا هذا الأمير العربي الجميل، وأحسَّ ما يحسه من ألم ثقيل في قرار نفسه، ورأى حقًّا أن للدولة الفارسية مصلحة في طرد الأحباش من اليمن وإضعاف نفوذ الروم، ولكن أين المدائن من اليمن، وبينهما المسافات الشاسعة، وجلها فراغ موحش، قفر وفلاة؟ غير أنه أبى أن يواجه سيفًا بما يسوءه، فطيَّب خاطره، وأمر له بصلة، وصرفه إلى حين آخر.
حمل سيف الصلة، فجعل ينثرها، وهو منصرف، على خدم القصر.
فردَّه إليه كسرى وسأله عن سبب ما يصنع، فأجابه: ما أتيتك أطلب الذهب، وأرض بلادي ذهب، ولكني جئت أطلب الغوث لقوم مظلومين.
فأعظمه كسرى، وأكبر مروءته، وبرق له بارق خلَّاب من تلك البلاد التي زعم الأمير العربي أن أرضها ذهب!
وراح العاهل الفارسي يقلِّب الأمر على وجوهه، وأخيرًا جمع مرازبته للنظر.