ساعة عبادة
في طريق الرمل رقت سلم الترام مع أمها، وأظن أنها تسكن في «حلة قيصر». صعدت حيث يصعد الناس على ظهر المركبة رغبةً في الهواء الجاري وتسريحًا للنظر، ينطلق في امتدادات الأفق المتصل ببحر الروم. استقلت الفتاة بمجلس كان من الحق أن يشغله اثنان، واستباحت لنفسها أن تستأثر بالمكان وحدها لقلة الذين كانوا في المركبة وقتئذ.
جلست بمعزل متجهة إلى الحر، متخذة سياج المركبة مسندًا لظهرها، ووضعت ذراعها على متكأ المقعد، ثمَّ أسندت رأسها على ذلك المعصم الجميل النحيل. شخصت الفتاة بعينيها السوداويين الطويلي الهدبين إلى الأفق المتدلي على البحر، وانفرجت شفتاها الورديتان عن ابتسامة، تكاد تتفتق كما تتفتق الأكمام في أول تحولها إلى زهر نضير، وغابت بذهنها عن الناس كأنها كانت تخاطب خلقًا في الملكوت الأعلى. وكان النسيم يعبث بخصل شعرها الطويل المرسل الأسود، فيطوحه برفق إلى صدرها، ثمَّ ينزعه برفق عن هذا الصدر المشرق المزدان بصليب ذهبي، وهاج متصل بسلسلة ذهبية تطوق عنقًا لا يعيبه طول، وقد تجاوز حد القصر.
اتجهت حيث يقع بصري على هذا الخلق الفتان. لم أختلس النظرات اختلاسًا، وإنما رأيت أن أشبعها حسنًا غير مكترث بما قد يأخذني به الناس من تلك النظرات؛ لأني كنت حينئذ طاهر النية أمام الله، فلا يخجلني أن أتمتع متاعًا طاهرًا بجمال فتاة لا تكاد تبلغ الرابعة عشرة. الفتاة ذات سمرة تبعدها وأهلها أن يكونوا من أهل الشمال، والفتاة صغيرة السن، لم تتعلم من الناس بعد أن الجمال كثيرًا ما يتخذ وسيلة للخيلاء والغرور، والفتاة لم تتعلم بعد من الغزل إلا ما علمتها الطبيعة من الميل إلى كل شيء جميل، فكأنها كانت تغازل البحر والنسيم، أو كأنها كانت تداعب الأملاك الذين يخفون صورهم عن خيالنا المنطفئ، ويظهرونها في رؤوس الأطفال، فتراهم يسرون ويبسمون لنغم مريح يسمعونه ولا نسمعه. الفتاة جميلة جميلة!! على المقعد الجنيب لمقعدي كان يجلس قس شيخ بمسوحه السوداء، وبيده كتاب من تلك الكتب المنزلة، وكان القس يقطع سطوره صامتًا متعبدًا.
ليت شعري! أي العبادات كانت إلى الله أقرب يا صاحبي القس؟ أعبادة رجل يرى الله في الكتاب! أم عبادة من كان يعجب بالمصور الأكبر في صورة بديعة صورها!؟