في ذكرى عام
للمرء أن يتسمع ما يخفق به قلبه، ويقيد ما يمر من الخواطر بوجدانه. وله أن يخفي منها ما شاء، وله أن يعلن منها ما شاء، ما دام الناس لا يصيبهم أذى من سره ولا مكروه من جهره.
أقيد بعض ما اتصل بنفسي في الساعة التي كانت برزخًا بين العام الميلادي الذي رحل وذلك الآخر الذي حل.
غشيت قبل منتصف الليل داري. والتحفت حرصًا على الدفء بدثاري في ساعة كان بردها على شديدًا. وأخذت على نفسي ألَّا أضجع، وألَّا أنام حتى يلفظ العام نفسه الأخير. فأذكر له بالخير ما أحسن به إليَّ، وأسامحه فيما أساء. ولكل راحل إلى الله حق في الذكرى وحق في المغفرة.
جلست على مائدة كتابتي. وأخذت أعدُّ بطاقات، أكتب عليها كلمات التهانيء والمجاملة. وأخذت أحصي الأسماء على قطعة من الورق. فلمَّا انتهيت من ذلك الإحصاء، وأعدت عليه النظر، تولاني خاطر مزعج، اضطربت له النفس. وقد يزعج النفس الأليمة ما قلَّ، كما يزعجها ما جلَّ.
غدًا أرسل لزيد تلك البطاقة. وفي غدٍ يحمل البريد لخالد تلك الأخرى. وفي غدٍ أغشى دار بكر لأبسم في وجهه.
في غدٍ يحصل كل ذلك، ولكن كم من هؤلاء الذين أذكرهم غدًا لا يسعدني وجودهم، ولا يشقيني غيابهم. ولا يسعدهم وجودي، ولا يألمون لفقدي. على أني أجامل الناس كما يجاملونني، وأخضع معهم لقوانين النفاق الاجتماعي كما يخضعون … فتبًا لأساليب الحياة. تعلم الناس النفاق باسم الجميل والأدب.
وفي اليوم الذي أحيى فيه من لا تسعدني بسماتهم ولا خير لي ولهم في تبادل التحيات، يحول الزمان وصروف الدهر والغير بيني وبين من كانت تشرق لي بسماتهم، ومن كان الله يجعل لي من دعواتهم ظفرًا وسعادةً … إن الحياة تقوم حقًّا على معاندة الإنسان.
تركتُ مائدة كتابتي، وفتحت بابًا لأصل بين غرفة نومي وغرفة عملي؛ حتى يتسع المكان لسيري وخطواتي التي يستفزني إليها القلق، ثمَّ جعلت أدخن بشدة بين جيئة وذهاب في مدى الغرفتين، ثمَّ استلقيت على كرسي كبير، وشرعت أتسلى برؤية ما أدفعه في جو الغرفة من دخان يذهب من صدري ذرات متآلفة متقاربة، ثمَّ ينتشر، ثمَّ ينبسط، ثمَّ يتلاشى في الجو كأنه لم يكن.
أخذت أتذكر في مكان الله الواسع، أراضي أحببتها ونعمت فيها حينًا. وتذكرت في زمان الله الواسع أيامًا كالعسل قد مضت وانقضت. وتذكرت من خلق الله الذي لا يحصى عددًا أشباحًا تلاشت في ظلمات الثرى. تذكرت وتذكرت وتذكرت كثيرًا.
ثم أخذت أحاسب نفسي على زلاتها. وأزن أمامها آمالها. وأتبين في ذهني؛ بل في غشاء قلبي؛ بل في لحمي وعظمي ما فعله به الزمن. وما رسمته عليه السنون.
وبينما أنا مستغرق في أمري، نبهتني من غرفة أخرى دقات الساعة الكبيرة إلى الأهبة لوداع عام يفوت …
كأنَّ دقات الساعة كلمات يعدد بها العام المنصرم بعض ما يذكره لنفسه من خيرٍ وشرٍ. كان العام يقول في دقائقه الأخيرة:
وما كادت تضمحلُّ في أذني الرنة الأخيرة التي كانت تمام الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل لآخر شهر ديسمبر من سنة ١٩٢٢، حتى تصعدت من قلبي زفرة، وحارت في عيني دمعة. عندئذ وجهت وجهي شطر السماء قائلًا:
أيتها الأزلية التي تجتمع فيها الأزمان المتوالية، وتستقرّ عندها الأحقاب المتتابعة. وتتوحد في وحدتها جميع الخلائق. مغفرة لما قدَّمنا من ذنوبنا وما أخرنا. وصفاء لنفوسنا بما تصفو به نفوس الصالحين … اللهم آمين.