العيش الحقير والعيش الكبير
ليست الحياة ملهى نتوجه فيه بأبصارنا إلى مسرحه الواسع لنشهد أدوار الممثلين. إنما الحياة تدعونا؛ لأن يمثل كلّ منَّا دوره، ويقوم بنصيبه في روايتها التي تتعدد فصولها ما تعددت الذراري وما تعاقبت الأجيال.
من الناس من يتهافتون على الخير الذي يصيب عشيرتهم وأمتهم من غير أن يكون لهم في جلب ذلك الخير نصيب، ومن غير أن يدفعوا في مشتراه ثمنًا. وأنهم كذلك قد يتوقَّون الشر إذا نزل بالجماعة التي يعيشون فيها؛ بل قد يبالغون في سبيل الوقاية، وما كانوا ليتنبهوا إلى الشَّر لولا أن جاءهم بذلك نبأ من غيرهم. ومثل هؤلاء الناس مثل الرجل الخامل في القافلة يقطع معها الصحراء كيفما تسير، حتى إذا بلغت القافلة ماء بعد جهد وعناء، أخذ ذلك الخامل يروى ظمأه، ويسيغ الماء عذبًا فراتًا كما يسيغه من أرشد إليه، وأتعب النفس للحصول عليه.
إننا نعيش في حياة اجتماعية نحتمي بنظمها، ونتنعم بخيراتها، ونتكون من عناصرها، ولم تكن تلك الحياة الاجتماعية من عمل فرد معين، أو من عمل ظرف معين. ولكنها من عمل الجماعة في أجزائها وفي كليتها، ومن عمل كل ظرف يحيط بالجماعة في غابرها وحاضرها وسيرها. وعلى ذلك فقد يكون من العدل أن نرد بمجهودنا وأعمالنا إلى تلك الجماعة ثمن ما يصيبنا من حياتها ونظمها.
وفي الحق إنها لحياة حقيرة، تلك التي يظهر فيها الفرد مستفيدًا من كل شيء دون أن يفيد. متأثرًا بكل شيء دون أن يؤثر. منفعلًا بكل شيء دون أن يكون لبعض شؤون الحياة فاعلًا. إنها لحياة حقيرة تشبه حياة الحيوان الدنيء، أو النبات الطفيلي.
لكن للإنسان حياة أعلى من ذلك وأكبر؛ لأن للإنسان عقلًا وإرادة. فيستطيع بالعقل أن يجعل للحياة قصدًا يسير إليه، وأن يرسم لعيشه نموذجًا ومثالًا حسنًا. وإنه بالإرادة قد يوجه جهوده إلى الوصول لقصده، ولتحقيق ما رسمه لنفسه من مثال حسن.
نعيش في بيئة مكونة من مخلفات من سبقونا. وفيها أعمال لمن عاصرونا. ولقد يكون لنا من مخلفات هؤلاء وأعمال هؤلاء ما نستفيد منه ونحمدهم عليه. وقد يكون لنا كذلك من مخلفات هؤلاء وأعمال هؤلاء ما فيه لنا تعس وشقوة. أفنقصر همتنا على الحمد تارة وعلى الذم أخرى! …
يحركني لمعالجة هذا الموضوع أن أرى فئة من الناس من مواطنينا لا هم لهم إلا أن يستفيدوا لأنفسهم من العيش دون أن يحاسبوا ضمائرهم، فيفكروا في مصلحة الجماعة، ويتذكروا أن ما يصيبهم من خير كانت الجماعة منشأه، وما قد يصيبهم من سوء قد تكون الجماعة مصدره. إن الإنسان الرشيد مكلَّف في كلتا الحالتين أن يعمل لتمكين الخير أو لدرء الشر.
لقد أكره الجامد الذي يحرص على ما ألفه من حياة، فينظر فيما خلفه، ويقلب النظر فيما حوله، ولا يضرب ببصره فيما يمكن أن يكون أمامه في الطريق. ذلك هو أعمى النفس وأعمى الفؤاد.
ولقد لا أحب الذي يذهب به خياله الطائش، فيترك سبيل خير معروف لسبيل قد يتوهم فيه خيرًا كبيرًا. ومثله مثل الكلب الطمَّاع الذي عبر النهر بقطعة من اللحم، فرأى خيال اللحم فظن أن الخيال حقيقة، وترك ما كان عنده لينال هذا الخيال فباء بالخسران.
أكره طريق الأول ولا أحب طريق الثاني. وإنما أبغض منهما إلى نفسي ذلك الذي لا يحب من الحياة مثالًا يتطاول إليه. ولا يحب منها حالة يعمل على استبقائها. ذلك هو الطفيلي الذي يكسب لنفسه من وراء كد الغير.
كن ثائرًا إن شئت، ولتكن الحياة في نظرك تافهة مرذولة، فلا تريدها في شيء، ولا تريد أن تستبقي من شؤونها شأنًا، ولا تريد إلا الهدم لما نظنه لا يصلح إلا للهدم.
وكن محافظًا جامدًا إن شئت. تريد أن تحيى على ما وجدت نفسك عليه؛ لأنك ترى الخير كل الخير في حياتك، فتحارب كل هدَّام، وتقف في وجه كل جديد؛ لأنك لا ترى خيرًا في الهدم، ولا ترى خيرًا في الجديد. ولكن حذار أن تكون طفيليًا، تمر بك الحياة، فتأخذ منها دون أن تؤدي إليها. واعلم أن حياة ذات قصد تعتمد على الفكر لهي شريفة لنسبتها للفكر والقصد والعمل. وأن حياة لا قصد لها إلا الأنانية، ولا يوجهها فكر من الأفكار، لهي حياة منحطة حقيرة. واعلم أن خير العيش أن تعرف أن الحياة حقٌّ، وأن التقدم المعقول حقٌّ، وأنه من الواجب عليك أن تشترك بشيء من جهودك في هذا التقدم المعقول. بذلك تدخل في عيش الأبرار، وقد تتوصل منه إلى عيش العظماء والأطهار، فاعمل لغيرك واعمل للتقدم دائمًا.