في شم النسيم
… وكانت أكثر الحوانيت مغلقة في ذلك اليوم. حتى حانوت صاحبي الحلاق الإيطالي، حتى حانوت الأرمني بائع الدخان الذي كنت أحسبه مفتوحًا، فقصدت إليه لابتاع من بضاعته ما اعتدت أن أشتري. وبينما أنا أضرب في المناهج الوسطى في المدينة كنت أجد أحيانًا جماعات من نساء الفرنجة ورجالهم، أو ممن تشبهوا بهم من الشرقيين يتأهبون لركوب المركبات والسيارات ومعهم صناديق فيها طعام وشراب. وكانت رياح حفيفة تهب أحيانًا على وجهي فترمي عليه مما كانت تحمله من خلاصة الرمل والطمي. وكنت كلما تنحيت لأنجو من أثر العفر، أو كلما أخرجت من جيبي خرقتي أمسح بها وجهي وعيني، كنت كثيرًا ما أتذكر النيل والصحراء، وكلاهما مصدر لهذا التراب. وفي هذا التراب خير مصر من تبر ونبت، ينعم به أهلها الزارعون، وينعم أهلها الحاصدون.
ولكن خاطرًا قد تولد في ذهني من إجماع أهل الأديان والأجناس المختلفة على أن يحتفلوا بيوم شم النسيم.
لقد رأيت مرة بينما كنت أسير خلف دار الأوبرا صبية من لمَّامي أعقاب السجاير يرتعون ويلعبون. فوقفت في ناحية لأنظر إلى مرحهم، وأضحك من هذه السذاجة الرثة اللاعبة … وبينما كانوا في شغلهم إذ أقبل عليهم صغير من مساحي الأحذية، ووضع صندوق عدته بجانب الجدار، ونسى واجبه من السعي على الرزق، وأخذ يلعب هو الآخر مع نظرائه اللاعبين. وبعد قليل أقبل عليهم صغير رومي ممن يتجرون بالكعك والحلوى، فوضع بجانب صندوق المساح سلة تجارته وحيا الصغار بابتسامة، فحيوه بأحسن منها، ثمَّ أخذ يشاطرهم أصناف اللعب من جرى ووثب. عندئذ أيقنت أن للطبيعة حكمًا أقوى من حكم الأجناس وأوضاع الحياة وشؤونها. إنهم صبية نسوا أن وراءهم أعمالهم التي يكسبون منها أقواتهم، ونسوا أنهم من أجناس ولغات وديانات مختلفة. نسوا كل ذلك، فجمع الصبا وشئون الصبا فيما بينهم، وعلى ذلك علا صوت الطبيعة على صوت الآراء الاجتماعية التي طالما كان من أمرها أن تفرق بين الناس، وطالما كان من أمرها أن تدعوهم للتنابذ والشقاق.
وكان الأمر كذلك في شم النسيم. فقد اجتمع أهل مصر على الاحتفال به، فأغلق صاحبي الحلاق حانوته. وأغلق بائع الدخان الأرمني حانوته، كذلك واجتمع الفرنجة والنصارى والمسلمون واليهود في مصر على أمر واحد، على تحية الربيع وتفريح النفس بمقدم الربيع.
وكم من صوت للطبيعة يدعو الناس للتقرب، ولكنَّ الأفكار الفاسدة ووساوس القلوب المعتلة طالما سمعت للتفريق.