الوطن
… وكنت كمن نقل إلى عالم آخر حين صعدت إلى الباخرة، للمرة الأولى، بعد عشر سنين لم أبرح في أثنائها مصر، ولم أعبر في خلالها بحرًا، فتذكرت أيامًا خلت، كابدت فيها أسفارًا، وقطعت فيها أمصارًا. تذكرت عمرًا كان الصق بالشباب، ونفسًا كانت أكثر قبولًا لمعاني الحياة، وخيالًا كان أوسع لصور الأمل. تذكرت نفسي إذ كنت أقل تجارب في العيش، وأكثر جرأة في سبيله، وأقلّ حملًا من تبعاته. تذكرت النفس في الغابر، وعرضت لها في الحاضر، ونظرت بين النفس إذ كانت في ضحاها، وبينها وقد أثقلتها التكاليف فمالت بها عن سمت الشباب، ثمَّ حسبت أن شئون الحياة هي مصدر ما يألم منه الفؤاد، ثمَّ حسبت أن ذلك المكان من الأرض الذي أبرحه مصدر ما يضيق به الصدر، فكدت أقول للباخرة: اقلعي سريعًا، وتوغلي على اليم، وسيري إلى حيث لا أرى من شرفاتك إلا أفق الماء والسماء، فأرسل أفكاري متواصلة في عظمة الكون، فلا دارًا أراها تذكرني بوحوش البشر، ولا ضوضاء أسمعها، ولا بغضاء أشهد آثارها، ولا أوراقًا أقرأ فيها اللغو والباطل، ولا وجوهًا كريهة، ولا سحنًا منحطة.
فإلى بحر الظلمات، أيتها الباخرة، أو إلى بحر الزمهرير، أو إلى منطقة يجهلها الإنسان، فأنسى عند هذا العالم الجديد الذي تذهبين بي إليه كل ما يسوء الماضي، وكل منظر مكروه من مناظر الغبراء. فلا أرى شكلًا من أشكال الشقاء، ولا أرى صورة من صور الخداع والنفاق، ولا أرى صورة من صور المذلة والخنوع، ولا أخضع لقانون من تلك القوانين الفاسدة التي ينوء بها ظهر الأرض، ويروجها الإنسان بحماقته وظلمه.
ولكن الباخرة لم تكد تتحرك حتى ضعفت في نفسي سورة الغضب، ثمَّ أخذت تخف قليلًا قليلًا مع سير السفينة. ولما كاد يختفي عن ناظري مرأى الشاطئ وما عليه ومن عليه من الأهل والإخوان خمدت السورة، وخبت النار، وحل محلها في القلب نسيم الحنين.
أقول للباخرة عندئذ سيري في رعاية الله، أيتها الباخرة، ثمَّ عودي بي إلى أرض أحفظ منها صورة ابتسامة مشرقة، وأعي منها صدى دعوات خالصة، وأعرف لي فيها إخوانًا وأحباءً، وأصيب من جهود عاملها خيرًا، وأرعى فيها صبيةً وصغارًا، وأعالج فيها أملًا عزيزًا.
سيري أيتها الباخرة، ثمَّ عودي بي إلى أرض الأحباء. حيَّا الله مصر. حيَّا الله الوطن.