وقفة بالحصن المقدس
العرق دساس
خرجت وقد قنعت من زيارة الأمس بالاستمتاع بدقة الرسم المنخوت على رأس العمود الملقى بين الأحجار على جانب أحد طريقي «الأكروبولس». وكان لتلك الزيارة أثر رغبني في الفن والحسن، حتى أخذني هيام وولوع بالجمال. آليت على نفسي بعد ذلك اليوم أن أتجمل، فقلت والله لأقصرنَّ شاربي، وأرجلنَّ شعري، وأعطرنَّ لباسي. ووالله لأجرؤنَّ في سبيل التأنق، فأثبت على صدري زهرة غضة، وأزين أظافري، وأضع في أصبعي خاتمًا يتلألأ نوره، وأرسل على صدري سلسلة من الذهب البراق، وأمشي بوطء خفيف عندما يحسن الوطء الخفيف، وأسير مرحًا عندما يحسن السير مرحًا.
لا أريد أن يكون شفيعي بين سبيل التأنق وفرة مالٍ، فالمال حقير. ولا أريد أن يكون شفيعي في سبيله علمًا، ففي العلم باطل وغرور. ولا أريد أن يكون شفيعي في سبيله جاهًا وحسبًا، فالمرء ابن نفسه، وكل امرئ عن نفسه مسئول. حتى ولا أريد أن يكون شفيعي في سبيله ملكًا، فالملك لله جميعًا. إنما رضيت أن يكون شفيعي في سبيله عبوديتي وخضوعي لربِّ الحسن والجمال، أعبده مخلصًا لوجهه العبادة، ولقد كان من عبادة آلهة الغابرين منذ القدم أن يتشبه الإنسان ببعض أوصافها.
أخذتني تلك النشوة؛ بل أخذتني تلك الجذبة، وأخذت أقول في نفسي: الجمال فضيلة، ومن الخير أن يعمل الإنسان الحيلة ليتصل بجميع الفضائل، ثمَّ شرعت في الذهاب إلى حانوت لأبتاع منه بعض ما أستعين به على التجمل والتأنق.
طلبت إلى صاحب الحانوت أن يعرض عليَّ أثمن ما عنده من العصا دون أن يحسب للاتفاق حسابًا، وبينما هو يعرض على أرشقها وأظرفها شكلًا، إذ حانت منِّي التفاتة إلى عصا غليظة، خلت من الحسن، ولكن ملامح البأس والمتانة تبدو عليها، فلم أردّ البصر عنها حتى انتزعتها من بين أخواتها، ثمَّ عجمت عودها، فهززتها بعنف، واتكأت عليها بقوة، ثمَّ مثلت عندي فضيلة المتانة، وما أطيب المتانة في الجسم، وفي الخلق، وفي العصا.
•••
عفوًا يا ربة الحسن إذا لم أف بالعهد، فخنثت في خلفي، وعدلت عن سبيلك إلى سبيل ربّ القوة.
عفوًا يا ربة الحسن، فالعرق دساس فإني من بلد شيدت فيه الأهرام، وأكبر أهله الأقدمون البأس قبل أن يكبروا الجمال.
أغريتني يا ربة الحسن، فكدت أغفل لحظة عن ربّ القوة فلما توجهت إلى أنظاره، واخترقت حجب خمسين قرنًا مضت، وناداني من خلف معبد من تلك المعابد القديمة القائمة على ضفاف النيل، أبت إليه تائبًا نادمًا، وانتزعت العصا المتينة رمزًا لتقديم القوة وإجلال المتانة، ثمَّ هرولت أضرب بها في مناهج أثينا الجميلة، ذاكرًا اسم الله القوى الدائم قبل اسمك الجميل.