الله أكبر
قصدت إلى سطح الصخرة حيث بقية هياكل الآلهة.
لقيني دليل فرددته، إذ أحسبني لست أحتاج إلى دليل، فإذا بشيخ هرم، رث البزة، كريه المنظر، قد اقترب مني، وخاطبني بلسان فرنسي، تنسحب عبارته السقيمة متعثرة بين فكين ارتخت عضلاتهما، ووهنت أدواتهما، ففهمت منه أنه يريد إرشادي، وأنه لن يلح ولن يغلو في الأجر، وأنه يفخر بنفسه، فيحسب أنه يعلم مالا يعلمون.
أخذتني رأفة بذلك الشيخ الفاني، وقلت لعل الخير عند هؤلاء الشيوخ، فأومأت إليه بالقول، فتقدم متوكئًا، متباطئًا في صعوده، حذرًا في خطاه، وكنت أحوطه بنظراتي حرصًا عليه من السقوط. فلمَّا جئنا إلى مكان يشرف على هضاب أثينا ومنازلها، أشار الدليل الشيخ بعصاه إلى هضبة وقال: هنا على هذه الهضبة من نحو ثلاثة وعشرين قرنًا كان يقف «ذيموستينس» خطيبًا بين أهل أثينا، ثمَّ نظر إليَّ وقال: أتدرى من «ذيموستينس»؟ فتجاهلت، فقال: كان فصيحًا كبيرًا، فقلت: وكم في الناس اليوم يا شيخ من طلق اللسان فصيح! فقال: أجل، ولكنهم يخدمون الباطل بفصاحتهم. أمَّا «ذيموستينس» فكان يخدم الحق بفصاحته.
ثم أشار بعصاه إلى هضبة أخرى وقال: وعلى هذه الهضبة كان مجلس قضاة «أثينا» ليحكموا بين الناس بالعدل تحت سماء الله، وعلى مرأى من تمثال ربِّ العدل، ثمَّ استطرد الشيخ من أمر القضاة في «أثينا» البائدة إلى القدح في قضاة هذا الزمان وشئون هذا الزمان. وصبرت على شرحه؛ بل صبرت على تشاؤمه حتى بلغنا معبد البتول «أثينا» ربة الحكمة.
لا أريد أن أتحدث بمَّا تحدث به الدليل «ديمتري» من خطأ في التاريخ، أو صواب. ولا أريد أن أذكر لك كيف استحال هيكل الربَّة البتول «أثينا» إلى كنيسة للبتول مريم بعد نحو اثني عشر قرنًا من تشييده. ولا أريد أن أذكر لك كيف استحال هذا المعبد بعد نحو التسعة عشر قرنًا من تشييده إلى مخزن لذخائر الترك ومعدات قتالهم. ولا أريد أن أذكر لك ما أدَّى إليه حصار أهل البندقية من تخريب هذا الأثر البديع وتحطيمه. ولا أريد أن أحدثك بما حمله لورد الإنجليز إلى بلاده من كنوز هذا المعبد في القرن التاسع عشر. على أنني أعيد خواتم الجمل التي كان يختم بها «ديمتري» الدليل شرحه وحديثه: «آه لو قدَّر القساوسة الفن، فلم يحولوا ذلك المعبد إلى كنيسة. وآه لو فهم الترك جمال الفن فلم يحولوا ذلك المعبد إلى دار لذخائرهم، أو دار لربّهم! وآه لو أخطأت قذائف المتحاربين هذه الآثار المقدسة، فلم يهدم منها ما تهدَّم! وآه لو أبقت اللوردات في تلك المعابد كنوزها وآثارها! ثمَّ آه لو احترم الناس نتائج العبقريات ومجهود العقول!» جملٌ فيها حسرة وعبرة.
أمَّا جمال هذا المعبد، وروعة هذه البقايا والآثار، ونظام هذه العمد، ونسق تلك النسب، فلا أحدِّثك به مهما أطرقت إليَّ، ورغبت في قولي، فلا القلم قادر على ضبط تصوير هذه الدقائق، ولا أذنك قادرة على وعي ذلك الضرب من الحسن، إنَّما هي عينك، وإنَّما هو فؤادك. فأقبل إليَّ، وقف معي وقفة «بالأكروبوليس»، ثمَّ حقق النظر يتحرك الفؤاد.
ولكن شيئًا يبقى بالمعبد من أثر النصارى. ولكن شيئًا يبقى بالمعبد من أثر المسلمين! آلهة حلت الدار إثر آلهة. وزمان استخلف على هذه الآثار إثر زمان. وأحداث وغير تمر على تلك الأحجار والأنقاض خلَّف أحداث وغير. ودول تأتي وأخرى تدول. فمن رب الأرباب ومن رب المكان والزمان، ومن محدث الأحداث ومغير الغير ومعز الدول ومذل الملوك والقرى؟
سبحانه سبحانه ما أكبر شأنه.
عفوًا أيها الإله الأعظم وغفرانًا، إذا أنا بقيت ساعة بهذا المعبد أناجي ربته الأولى، وأتمثل قرونًا خلت ومدنيات عظمت.
إنكم معشر الآلهة تتعالون عن التعدد، فأنتم واحد وإن تعددت أسماؤكم، ووحدة وإن تعددت صفاتكم. وفي ذكر أحدكم ذكر للآخر كما يعلم الراسخون.
لقد كنتم دهورًا، وكانت عروشكم قمم هذه الجبال، ومعابدكم من مرمر مسنون، وفي خدامكم عذارى يشرق جمالهن حول تلك المعابد، وينتشر عطرهن حول ما يحرق من بخور.
كنتم تخاطبون الناس على قدر عقولهم أيها الآلهة يوم كانت عقول البشر أقل مرانًا على فهم المعاني العالية، فتصورون أنفسكم في حدود تصوراتهن، وتشكلون عظمتكم بأشكال خصالهم، فتقتتلون مثلما يقتتل الإنسان، وتغضبون مثلما يغضب، وتلعبون مثلما يلعب، وتمكرون مثلما يمكر. اختلطتم بأهل الأرض، وكنتم تعيشون بينهم، وتتبادلون وإياهم المشاعر، وكنتم ضيوفًا عندهم، وكانوا عيالًا عليكم، وكانت حياة البشر حقًّا مقدسًا.
ولكنكم قدرتم أيها الآلهة أن عقول الناس قد مرنت، وأن بصائرهم قد صفت، وأن قلوبهم قد رقت، فتحولتم في الأذهان إلى آلهة ذوات معان دقيقة وصفات لطيفة لم يفهمها الناس حق فهمها فتباعدت المسافة حينئذ بينكم وبين نفوس الناس، ثمَّ تحولتم بعد ذلك إلى ربوبية واحدة ومعنى أوسع وقوة أشمل. كانت بيوتكم هياكل، وكانت كنائس، وكانت مساجد، وإن تلك الهياكل التي شادتها يد الإنسان ستزول. وإن تلك المساجد التي دعمتها يد الإنسان ستزول. ولكن عروشكم الأولى القائمة على جلال الكون وجمال الطبيعة باقية لا تزول.
والآن أجلس في بيت من بيوتك يا ربة الحكمة، فلا هو بالهيكل، ولا هو بالكنيسة، ولا هو بالمسجد، ولكنه بيت يحفظه التاريخ، ويحوطه العلم، وتحترمه الحكومات، وتحج إليه العلماء، ويطوف به أهل الفن، ويذكر في عرصاته الذاكرون كيف تتغير الأحوال، وكيف تستحيل المدنيات، وكيف يفهم الجمال؟!
تحولوا ما شئتم أيها الآلهة، حسبما تجدون من ظروف الأرض والزمان واستعداد العقول، ولتسعد بكم أحزابكم، فلقد تبينت ربي، وعرفت إلهي.
هو ربّ أبي مذ كنت في صلبه، وربّ أمي مذ تكونت في أحشائها، هو ربّ كما تعلمون واسع باسط. له بيت من حجر، لا نقوش عليه كبيوتكم، ولا فن فيه. لا يضره إذا فتت بيته واستحال رمالًا، تذروها رياح الصحراء الملتهبة. ولا يفرحه أن سبكت له مدنيات الدنيا وفنونها؛ لأن كل شيء ما خلاه باطل، فهو غني بنفسه، وهو قانع من المعابد والبيوت بكتلة من الحجر الأسود لا نسق فيها ولا جمال.
ربي، يا ربة الدار، بدوي الطبع، يقنع من الأرض بالرمل الواسع، ومن السماء بكواكبها وغيثها، وحسبه الشعور بوفرة العزة والكرامة.
ذلك هو ربنا، يا ربة الدار. ذلك هو رب الكعبة الذي نودي اسمه بعد عشرين قرنًا مضت على هيكلك بين جدرانه. فقال قائلنا حينئذ: الله أكبر، الله أكبر، حي على الفلاح.