لقاء الوطن
… وحينما كانت تسير بنا السفينة في الليل، حيث لا نرى إلا نجوم السماء، والأفق مظلم من جميع النواحي التي تحيط بالفلك، يممت نحو ربان الباخرة، حيث كان في غرفة عمله، فحييته وقلت: أنحن الآن في منطقة مصرية أيها الربان؟ فقال: نعم. فقلت: ومتى إن شاء الله نرسى على بر مصر؟ قال: في ضحى الغد. عندئذ تولاني ضرب من السرور، وسرى إلى فؤادي نوع من الاطمئنان، ولبست درعًا من العزة، فأشعلت غليوني، ثمَّ أخذت أسير على ظهر الباخرة، وأخرجت من محفظة أوراقي كتبًا، وردت إليَّ وأنا في بلاد الغربة من أهلٍ وأصدقاء، كتبًا كنت هممت بتمزيقها وطرحها بعد أن علمت ما بها إلا أن عاطفة حالت بيني وبين أن أقبر تلك الرسائل في أرض غريبة نائية، فلمَّا علمت أنني أتنفس من هواء مصر، وتظلني سماؤها، ويحملني ماؤها، ألقيت في اليم بتلك الكتب التي قدرت أن لا فائدة من حملها، وقلت في نفسي: اليوم لا ضرار، فالآن تزول حروفها في ماء الوطن وتتحلل مادتها.
ثمَّ نزلت إلى غرفة نومي، وأوصيت الخادم أن يوقظني مبكرًا، حتى أتخير مكانًا على ظهر السفينة أستطيع أن أعتزل فيه لأتبين منه أرض مصر من بعيد وقتما يقدر النظر على تبينها، ثمَّ ألقيت بنفسي على مضجعي، ولكن خواطر كانت تضطرب في رأسي حالت بيني وبين نعاس كنت في حاجة إليه، ثمَّ غلبني النعاس أخيرًا، ثمَّ أوقظت وقتما أردت، ثمَّ صعدت إلى ظهر الباخرة، وشخصت ببصري إلى حيث يمكن أن يلوح الشاطئ، وكان الفلك يسير. وكأنَّ الفلك كان سيره بطيئًا. ومن بعيد بعيد تبينت خطًا طويلًا قائمًا يتجلى في الأفق. تبينت تلك الأرض التي طالما قدرت لها جميلًا. وتجاوزت لها عن ذنوب وسيئات، فنهضت واقفًا، ومددت ذراعي إلى حيث أرى ذلك الشبح المحبوب، وقلت سلامًا، وتحيةً ورحمة من الله عليك مصر أمنا الرءوم. لو أن الله قضى على الساعة بالموت للقيته مستريحًا، وأغمضت عيني على شعاع من النور، يفيض من شمسك، ولفظت آخر زفير يحمله الصدر من هوائك. ولو كان للساني أن ينطق وقتئذ بكلمة لكانت دعوة لك صالحة ختامها الحمد لله رب العالمين، ثمَّ انتقلت من مكاني إلى مكان آخر حيث أحضر لي قلم وقرطاس، فكتبت هذه الكلمات «أحب مصر؛ لأن كل ما يتصل بي من خير إنما هو من فضلها وبركاتها. أحب مصر؛ لأني أحب آمالًا تولدت في منها؛ ولأني أحب خيرًا يوحيه إلي ما فيها من شر؛ ولأني أحب صالحًا يوحيه إلي ما فيها من فاسد؛ ولأني أدرك فيها نقصًا يحبب إلي الكمال.
أحب مصر؛ لأني أراها مزرعة واسعة ضعفت أرضها وهرم شجرها المثمر، وأساءت الحشائش المفسدة إلى نبتها الطيب، فلعلي أصلح فيها باعًا من الأرض، ولعلي أعين فيها نبتة نافعة على النماء، ولعلي أستمتع يومًا فيها بثمرة ناضجة. أحب مصر مستودع عظام ودماء أنا جزء منها، ومستودع تاريخ وأحلام لي في جميعها نصيب، ومستودع قلوب تحنو علي، وتتصل دقاتها بدقات فؤادي.»
ثم أحضر لي الخادم طعامًا وبعد أن طعمت صعدت مرة أخرى على ظهر الباخرة. تبينت عن بعد دور الإسكندرية العالية فقلت: «سلام عليك أيتها الدور مادام في أهليك من يتقي الله في حق هذه البلاد. سلام عليك ما ظلت فيك نفوس ترعى بإخلاص صالح هذا الوطن»
ثم أفلتت دمعة من عيني من أثر الانفعال، فنزلت إلى غرفتي لأهيئ متاعي، وأنزل إلى البر وألقي أرض الوطن.