حول الديمقراطية
لصغار اليوم ورجال الغد
يوم الخميس، أمس الأول، كان علىَّ أن ألقي درسًا في مدرسة المعلمين، وفي ساعة يعقبها انصراف الطلاب إلى دورهم. وما هو إلا أن ألقيت درسي حتى انحدرت إلى منزلي من غير إبطاء. وبينما أنا في طريقي مسرعًا. إذ حانت مني التفاتة عند مدرسة المنيرة الابتدائية، فوجدت سربًا من صغار التلاميذ يحومون حول شاب طويل القامة، رث الثياب، قاتم اللون، يتحرك بينهم حركات تنم عن ضجر، دون أن تبدو على وجهه الأشعث الأغبر علامات الغضب؛ بل كان يبدو في ثنايا سحنته المظلمة البائسة شيء من العطف غير يسير. وكأن هؤلاء الصبية يحومون حوله كما يحوم النحل حول شجرة باسقة، ولأصواتهم أزيز يشبه أزيزه، ويرسلون أكفهم الصغيرة لشيء بين كفيه الضخمتين القويتين إرسال من يريد أن يخطف شيئًا عز عليه أن يناله.
•••
مرَّ بنفسي خاطر من السوء نحو هذا الفتى الوضيع طبقةً في عرف الناس، ودفعتني عواطف أبوية؛ بل دفعتني مهنة المعلم إلى أن أقصد إلى هذا الجمع من التلاميذ لأتبيَّن سره وغايته، وأعمل عندئذ بما يوحيه إليَّ واجب المرشد إزاء ما يستجلي من أمر.
لما تقدمت إلى الجمع صاح الفتى «الديموقراطي» بصوت أجش: إنها مئتان!! مئتان، قد نفدتا في هذا المكان. والله إنها مئتان! وأصوات الصغار تردد مقاطعة: هات واحدة؛ بل هات واحدة. إنَّ لم نأخذ منك ولا واحدة!
ولما رآني الفتى مقبلًا عليه مدَّ إليَّ يمينه من فوق رءوس هذا الجمع بشيء مما معه، فتبيَّنت إذ ذاك أنها كراسة بيضاء عليها إعلان لإحدى دور الصور المتحركة، وأن الصغار يتهافتون ليصيبوا من هذه الكراسات التي توزع بلا ثمن، وأن الفتى المنكود المكدود يقوم بما سخر له من توزيع الإعلان بذمة ونشاط.
•••
حينئذ بدد ضياء الحقيقة ما هجس في خاطري من سوء الظن، وفاضت نفسي بعطف سابغ حول هذا الجمع البريء، وتمنيت لهؤلاء الصبية الصغار الذين هم عقول المستقبل، وضياؤه وعدَّته، أن يدنيهم هذا المستقبل من ذوي الأذرع العاملة المنتجين، فيلتفوا حيال الديموقراطية، إيمانًا بما عندها من خير وثمر، كما يلتفون اليوم حول واحد من ممثليها التعساء، ويتخاطفون بغبطة ما تمده إليهم يده المنتجة العاملة!!