نصف شعبان
في هذا الشهر، في ليلة الخميس الفائتة مثلت لفئة من الناس ليلة لها ميزة عندهم على ما تقدمتها من ليالٍ وعلى ما يعقبها من ليالٍ، تلك ليلة النصف من شهر شعبان.
لكن شعبان قد حلَّ على كثير من الناس دون أن يتنبهوا لمقدمه، ودون أن يحفلوا بمجيئه، وقد أرخت لياليه سدولها على جهات من المدينة دون أن يظهر في هذه الليالي أثر من آثاره. وقد بلَّل طلّ شعبان حدائق بعض القصور دون أن يشعر أهلها بأن هذا الطلّ والندى يغاير كل طلّ وندى. وقد غمرت أضواء بدره كثيرًا من المساكن دون أن يكون في ضياء البدر ما ينبئ بشيء خاص عن شهر شعبان؛ وذلك لأن الحياة الاجتماعية وأحوالها أنست الناس شهورًا بشهور، وبدَّلت التواريخ بتواريخ، وأظهرت أيامًا ومسخت أيامًا. وهذا من شؤون الحياة، والحياة تظهر وتخفي، وتمسح وتثبت، وللحياة الاجتماعية سلطان قادر، وحكم قاهر.
وبينما كنت أسير في ناحية من المدينة طبع عليها مظهر الحياة الغربية، إذا أقبل عليَّ رجل معمم رث البزة سقيم المنظر، وفى يد الرجل صحف فيها دعاء نصف شعبان، وألحَّ عليَّ أن أبتاع من بضاعته. ولست أدري ما الذي حمله على أن يتوجه ببضاعته ناحيتي، دون جماعة من المطربشين، كانوا على مقربة مني ومنه، لولا أن رآني أسير بجانب شيخ صديق، ينبعث من وجهه نور الإيمان، وتبدو تقوى الله على محياه.
•••
شريت من الرجل صحيفة من صحفه وطويتها بجيبي، ثمَّ مضيت في سبيلي، ومضى الرجل في سبيله في هذا الحي الأوروبي، على أنني تذكرت عندئذٍ أننا الآن في شهر شعبان، وخيِّل إليَّ أن بائع هذه الدعوات رسول غريب من قرية بعيدة نائية إلى هذه الجهة التي كان يسعى فيها بصحفه، ويعرض على الناس بها بضاعته؛ بل خيل إليَّ أنه رسول الغابر إلى الحاضر؛ ليذكر أن بين الغابر والحاضر رابطة لا تنقطع وحبلًا موصولًا؛ بل خيل إليَّ أن الرجل وما يحمل كأنه صورة من تلك الصور التي تبعث إلى النفس التأمل، فتحرك فيها المستقر من الخواطر.
•••
الناس لاهون بأعمالهم في الحي الفرنجي من المدينة عن شعبان. والقهوات غاصة في ليلته بمن هم في شغل عن دعواته. وأهل السمر يسمرون في نواديهم. وأهل الخلاعة يقطعون الليل، أو شطرًا من الليل في ملاهيهم. ومع ذلك فالرجل الذي جاء من حي وطني في بعض منازله، يقرأ القرآن احتفاءً بليلة شعبان، ويصلي المصلون، ويبتهل المبتهلون، كأنه يقول لهذا الحي الأوروبي من المدينة ولمن من أهله لا يدرون ما شعبان وما ليلته. أن الناس جميعًا يتشابهون عند الشدائد، وتدق قلوبهم على وتيرة واحدة في المحن، مهما اختلفت سحنهم، وتغيرت شهورهم، وتعددت طقوسهم، وأنه عند دقات قلوبهم المتشابة في الخوف والرجاء يهتفون لله بمعنى واحد، لا يخرج عما في صحيفة دعاء نصف شعبان: اللهم أنك ظهر اللاجئين، وأمان الخائفين، وجار المستجيرين.