الدعوات
على ذكر الحرب
لأهل القرى أصوات أجهر من أصوات المتحضرين؛ وربما كان ذلك؛ لأن صدور القرويين هي أقدر على دفع الهواء وهزه بقوة، أو لأن هواء القرية غير ممزق بالحركات المختلفة التي تقوم عليها المدينة، أو لأنه بليل برطوبة النبت الغض والحقول العطرة، أو من هذه الأسباب جميعًا. ولقد طوح النوم عني صوت علا غير بعيد من نافذة غرفتي يدعو لآخر بالبركات. وبمقدار ما آلمني أن أتخلَّى عن راحة كنت في حاجة شديدة إليها، سرني أن استقبل الصباح على صوت امرئ من الأنس يبغي الخير لأخيه.
أثار ذلك الحادث في نفسي خواطر شتَّى، تطوف حول الدعوات، وتجرُّ إلى البحث في ماهية الأماني، وما ينجم من الشعور بالضعف عند عدم نيلها، وما يكون من الاستنجاد بقوى عظمى تذعن لها قلوب الناس يوم تظل عقولهم وقدرتهم قاصرة عن إدراك ما يطمع العلم في كشف أسبابه، وغير ذلك من المسائل التي يطرحها أهل العلم للتنقيب.
وقد يكون للسادة رجال الدين آراء في تلك المطالب التي يوجهها العبد إلى رب حكيم قدير، إن شاء ردها، وإن شاء لقيها بقبول.
لست اليوم أبحث في الدعوات من سبيل السادة أهل العلم، أو من وجهة السادة أهل الدين، وحسبي أنَّها نزعات فطرية موجودة في البشر منذ علم للبشر تاريخ. يسجل القلب تلك النزعات، ثمَّ يرفعها اللسان نحو ملكوت مسير الأمور ومصرف الأحوال.
ولقد كان الناس قديمًا يوجهون دعواتهم عند رحاب أنصاب معظمة، أو أرباب مكرمة، ويقول المتدينون: إن الله يتقبل الدعوات إذا صدرت عن قلوب طاهرة، ليس فيها غل ولا دنس.
كم في الأرض من دعوة رفعت عن لسان والد يطلب الخير لذريته، أو نبي يطلب الغفران لملته، أو حاكم ينشد التوفيق لأمته، فهل من دعوة رفعت إلى الله من قلب نقي؛ ليصير السلم عامًا والنار سلامًا.
•••
يقولون: إن بعد الشدة الرخاء. ولقد شهدنا شعوبًا غرس الله بهم زرعًا، وشاد بهم عمرانًا وأقام لهم مجدًا فحل بهم القضاء، وجرت في أوديتهم الدماء، وكم من قلب يرجو لو وضعت الحرب أوزارها فما لله لا يستجيب؟ ألأن قلوب البشر لم تزل غير نقية لا يرضيه دعواتها؟
•••
تداول الدعوات بين الناس نذير بأن القلوب تتهيأ للحب، ومتى ساد الحب القلوب، ساد الأرض السلام.