عام ١٩٣٠
اليوم! … تنفصل عن العمر لبنةً من لبنات الأعمار، ويمتد إلى النفس مجرى من مجاري الحياة والأقدار، فشيء يبيد، وشيء يزيد.
ولماذا أخاطبك أيها العام، وبماذا أتحدث إليك، ولقد كان لي مع سابقيك قول وخطاب. ولقد كان لي في مثل هذا اليوم مع نفسي، وبيني وبين مستهلات بعض السنين تذاكر وحساب. وهاأنذا أنتظر القول فلا يدنو إليَّ، وأهم بالحديث فيلتوي عليَّ، واليوم هو أحق الأيام لتحصى النفوس على وضح الحقيقة ما كسبت وما اكتسبت، وما كان لها وما عليها، وما فرطت فيه، وما تطمح إليه. وإن هذه الليلة لهي أولى الليالي التي يحسن فيها بالمرء أن ينفرد وقتًا ما بنفسه تحت جناح الهدآت والسكون، ليستعرض شخصيته الدانية، ويستبين آثار ما تدرج إليها من نتائج التجارب، وما اندس فيها من معاملة الناس، حتى إذا دنت منه شخصيته الصحيحة وبرزت إليه، على ما هي عليه، أخذ حينئذ في أن يوجه إليها نظرات نفسه الخفية، ونقدات بصيرته الفطرية النقية، ليحاول تطهيرها من الذنب والدنس، وتخليصها مما لحق بها من سوء، وإبرائها مما أصابها من ضعف ووهن … ثمَّ يعمل على تزويدها بالنصح، وتقويتها بالصبر والاحتمال، وإنعاشها بالإيمان والأمل. بذلك كله تعد النفوس؛ لترقى مما هي عليه إلى ما ينبغي أن تصير إليه وهى شاخصة إلى ما يتألق أمامها من مثل الخير النيرة. وبذلك كله نستطيع أن نقول لنفوسنا استقبلي العام الوليد، وسيرى على بركة الله في المجرى الجديد.
لكن … لكن مهما يكن الأمر من تجهيز النفس وإعدادها، فهل سنلقي في عامنا اللاحق، غير ما لقينا في عامنا السابق؟
أحسبني لا أخطئ إذا قلت كلَّا. وأخالني لا أتجاوز الصواب. إذ أرى الحياة تتشابه في مجاميع ما تسوق، وفى كليات ما ترسل، وفى مجردات ما تنتهي إليه من الأمور.
ماذا؟؟؟ نواح مستنيرة بيضاء، وأخرى مظلمة سوداء، وأخرى تمتزج فيها الظلمة بالضياء.
ثم ماذا؟؟ ألسنا نجد في بعض هذه النواحي اليسر والفرح والرخاء، وفى بعض آخر نجد العسر والكآبة والشقاء، وفى آخر يكون العدل والجود والتفريط والإفراط والكدّ والرخاء؟
ثم ماذا؟ ألسنا نجد في ناحية من النواحي الفوز، والسبق، والانتهاز والغلبة، وفى أخرى الانكسار والاندحار، وفي أخرى ما هو معروف من اليقين، أو الارتياب، أو ما هو مألوف من السكون، أو الاضطراب، أو ما هو معلوم من خسة، ودناءة، وخديعة ومكر؛ وغفلة وحذر؛ وإساءة وإحسان، ونكران وعرفان، وغير ذلك مما تنطوي أشباحه في صور الخير والشر. وقد يصيب الناس رشاش من بعض هذا، أو من كل هذا في عامهم الجديد، كما أصيبوا به في عامهم المنصرم. وقد تتصل الحياة بكل هذه النواحي، أو ببعض هذه النواحي فيصيبها شيء من ظلماتها، أو أضوائها! وكذلك الحال في حياة الأمم والجماعات كما هو في حياة الأفراد فقد تتحقق لها آمال، وقد تجد يسرًا، وقد تصادف عسرًا.
مهما يكن الأمر فيما وجدنا وفيما سنجد، فخير موقف نقفه عند استقبال عام ووداع آخر يجود بالنفس الأخير، أن نرفع وجوهنا إلى السماء عند دقة الساعة، وفى مفترق العامين، ونقول عندما نتمثل صور الألم والمتألمين، رضاءً وصبرًا … وعندما نتمثل الإساءة تقع من أنفسنا ومن غيرنا، نرجو من الله ومن الناس مغفرةً وعذرًا … وعندما نتمثل أمتنا في نهوضها وشبابنا في آماله، نسأل الله توفيقًا وخيرًا … وعندما نتمثل شؤوننا وشؤون الناس نرسل إليك اللهم حمدًا وشكرًا، ويطيب للنفس أن تتغنَّى بالثناء، وللسان أن يردد: حمدًا لله وشكرًا … حمدًا لله وشكرًا …