لغز الرجل الأزرق
قال «مولود» وهو يبتسم: إن الزعيم يطلب أن يراكما!
لم يرد «تختخ» ولا «لوزة»، بل قاما يسيران … كانت «لوزة» ما تزال تشعر بالدُّوار … ولكنها متماسكةٌ … وكانت تفكِّر أن هذه أغرب مغامرةٍ مرَّتْ بها في حياتها …
وكانت برغم كل شيء تشعر بنوع من الاستمتاع بهذا الجو الغريب.
وسارا خلف «مولود» خلال دهاليز صخرية مظلمة … تُضيئها مشاعل متباعدة، ولا يُسمع فيها سوى رنين الأقدام … ونزلوا سلالم منحوتة في الصخر … ثم انحرفوا يمينًا … وبدأت بعض الأصوات تتَّضح … كأنما حديث يدور من بعيدٍ … ثم ازدادت الإضاءة، وزاد عدد المشاعل … وبدأ بعض الأشخاص يظهرون … كانوا جميعًا من الأعراب الملثَّمِينَ … أقوياء البنية … يحملون خناجر مُعلَّقةً في خصورهم … وظهر باب واسعٌ من بعيد … وقف عليه رجلان كحارسَينِ … ومضى «مولود» وخلفه «تختخ» و«لوزة» … حتى دخلا الغرفة.
كانت غرفةً واسعةً منحوتة في الصخر … قد فُرشِتَ على الطراز العربي … تضيئها عشرات المشاعل المتراقصة … وبها منافذ عالية للتهوية … وفي وسط القاعدة بجوار الجدار … كانت هناك مفاجأةٌ في انتظار «لوزة» … فقد كان «ماكلاجلن» يجلس على كرسيٍّ ضخم … ولكن ليس «ماكلاجلن» الذي عرفَتْهُ في الملابس الإفرنجية؛ فقد كان يرتدي الملابس العربية … ولدهشة «لوزة» الشديدة كان لونه أزرق … لون جلده … تصوَّرَتْ «لوزة» أنها أخطأَتْ … فأخذت تُغمض عينَيْها وتفتحهما … ولكن من المؤكَّد أنه «ماكلاجلن» برغم اللون الأزرق الذي وضعه على وجهه، والملابس العربية التي يرتديها!
وأمسكت «لوزة» بذراع «تختخ» وقالت: إنه «ماكلاجلن»!
ردَّ «تختخ»: نعم … إنه «ماكلاجلن» أو الزعيم الأزرق، فكلاهما شخصٌ واحد.
لوزة: غير معقول.
همس «تختخ»: بل هو المعقول الوحيد … فعندما عرف الزعيم الأزرق أن الخريطة قد ضاعَتْ منه فكَّر أننا لا بد أن نكون قد حصلنا عليها … وهكذا تخلَّى عن شخصية الزعيم الأزرق، وتقمَّص شخصية العالِم، وحضر إلينا … وكنا من الغباء بحيث قلنا له إننا عثرنا على الخريطة فعلًا … وهكذا وضع خطته لاستعادتها … ليس هذا فقط … ولكن القبض على كل مَن شاهد «وادي المساخيط».
لوزة: ولكن «محب» … ما زال بعيدًا.
قال «تختخ»: هذه كانت خُطتي … أن يظل واحد منَّا بعيدًا؛ ليتدخل في الوقت المناسب … وقد كانت إصابة «محب» سببًا معقولًا ليتخلَّف عنا.
كانا يتحدثان وهما واقفان بالباب … بينما تقدَّم «مولود» وتحدَّث مع «ماكلاجلن» أو الزعيم الأزرق … الذي أشار له بيده … فانصرف على الفور.
كان الرجل الأزرق يبتسم في ثقةٍ … وينظر إلى «تختخ» في سخريةٍ … ثم أشار بيده فاقترب «تختخ» و«لوزة».
وقال «تختخ» على الفور: أين بقية أصدقائنا؟ ردَّ الزعيم الأزرق باللغة العربية: إنهم جميعًا في خير … وسيحضرون فورًا.
قال «تختخ»: أرجو أن تعرف أنني شككتُ في شخصيتك … ولكن للأسف شكوكي جاءت متأخرةً.
الرجل الأزرق: وكيف شككتَ؟
تختخ: عندما اقتربتُ من المقطورة التي كنتَ بها أنت و«مولود» سمعتُ حديثًا، والمفروض أنك لا تعرف العربية … ولا «مولود» يعرف الإنجليزية … والحديث بالطبع لا يدور بين شخصَينِ لا يفهم أحدهما الآخَر.
ضحك الزعيم وقال: إنك شديد الذكاء … هل هناك أسباب أخرى؟
تختخ: إنك كنتَ شبحَ ليلةِ أمس الذي طاردناه في الظلام … فلم يكن في المعسكر شخصٌ يمكن أن يهتم بالخريطة سواك؛ لأن «مولود» كان بعيدًا … وقد كنتَ تتجسَّس علينا، وتحاول أن تجد فرصة لسرقة الخريطة.
قال الزعيم: إنك ولدٌ شديد الذكاء … ولكن ذكاءك لم ينقذك من أن تقع أنت وأصدقاؤك في يدي.
أخفى «تختخ» ابتسامةً كادت تصعد إلى شفتيه، وقال: نعم، لقد كنت أذكى منَّا، وفي هذه اللحظة دخل «كوكس» … و«عاطف» و«نوسة» وطلب الزعيم إغلاق الباب، ثم قال: لقد كان بيدكم أهمُّ وثيقةٍ تاريخية … ولكنكم أضعتموها … وهذه الوثيقة أضعتُ عمري كله حتى حصلتُ عليها.
قال «كوكس» الذي لم يكن مباليًا بما يحدث: ولماذا لا تُعلن هذه الوثيقة على العالَم وستحصل على شهرةٍ عالمية؟
ضحك الرجل الأزرق وقال: شهرة؟ وماذا بعد الشهرة؟! إنَّ ما أبحث عنه هو كنزٌ يساوي ملايين الجنيهات … وإذا عثرتُ عليه سيكون من حق الحكومة المصرية، لأنه في أراضيها.
كوكس: كنز؟ أيُّ كنزٍ؟
الرجل الأزرق: لو لم أكن واثقًا أنكم لن تستطيعوا إفشاء سرِّي … لأنكم لن تخرجوا من هنا أحياء … لما قلتُ لكم … ولكن اسمعوا هذه المفاجأة … لقد ظننتم أن الخريطة التي عثرتم عليها تمثِّل طريقًا إلى «وادي المساخيط» … ولكن الحقيقة أنها طريق سرِّي تحت الأرض إلى تاج «الإسكندر الأكبر»!
بدَتِ الدهشة والذهول على وجه الجميع، ومضى الرجل الأزرق يقول: وحتى الآن لم نَصِلْ إلى فكِّ رموز الكتابة التي على ظهر الخريطة.
كوكس: ولكن كيف تأكدتَ من وجود هذا التاج؟
الرجل الأزرق: لقد ثبتَ تاريخيًّا أن «الإسكندر» عندما دخل للحديث مع الإله «آمون» في واحة «سيوة» دخل وهو يلبس تاجه الشهير «ذا القرنين» … وهو تاج ذهب مرصَّع بالماس النادر … وعندما خرج من مقابلته التي استمرت ٦ ساعات … لم يكن التاج على رأسه.
كوكس: شيءٌ مدهش!
الرجل الأزرق: إنني شخصيًّا عالِم آثار … وقد قضيتُ عمري أبحث عن هذا التاج، ومعلوماتي تقول إنه مدفونٌ في مكان بين واحة سيوة ووادي المساخيط … وليس في الوادي نفسه … وقد حضرتُ مرتَينِ من قبلُ للبحث عنه … ولكني لم أعثر عليه … لأن الخريطة لا تكفي، ولا بد من فكِّ رموز الكتابة التي عليها … وأنا ما زلت أقوم بأبحاث لفك هذه الرموز.
تختخ: إنك لست من رجال الطوارق!
ابتسم الرجل الأزرق ابتسامةً مخيفةً وقال: ليس مسموحًا لأحد أن يقول هذه الحقيقة … فلا يعلمها بين رجالي إلا «مولود»؛ لأنه شريكي في البحث عن تاج «الإسكندر»!
تختخ: معنى هذا أن البعثة التي تحدثتَ أنك كنت فيها مجرد أكذوبة!
ضحك الرجل الأزرق وقال: ليست أكذوبةً كاملةً … فقد كنتُ عضوًا في بعثة آثار فعلًا منذ خمس سنوات … وعندما عثرتُ على الخريطة تخلَّصتُ من البعثة، واستطاع «مولود» أن يقدِّمَني إلى الطوارق على أنني زعيمهم، فقد كانت عندهم أسطورة عن زعيم غائب سيعود يومًا.
تختخ: وما هو مصيرنا؟
الرجل الأزرق: آسف جدًّا … لا بد من التخلُّص منكم جميعًا، وسيتم هذا بهدوءٍ شديدٍ دون أن تشعروا بأي ألمٍ.
تختخ: بزيادة كمية المخدِّر في المياه … أليس كذلك؟
الرجل الأزرق: بالضبط، وأنا آسف لأنك عدوِّي … إن ولدًا في مثل ذكائك يمكن أن يكون مساعدًا عظيمًا.
ساد الصمت … وصفَّق الرجل الأزرق بيدَيهِ … ففُتحَ الباب … وقال: العشاء! وسرعان ما ظهر عددٌ من الرجال يحملون الخراف المشوية … والأرز.
وقال الرجل الأزرق: كلوا واشربوا كما تشاءون.
تختخ: والمخدر؟!
ضحك الرجل الأزرق وقال: ليس مع العشاء … في وقت آخَر.
وخرج الزعيم وخلفه «مولود» … وأغلق الباب على «كوكس» والمغامرين.
قام «تختخ» سريعًا وأسرع إلى الباب ووقف خلفه يتصنَّت قليلًا، ثم دقَّ الباب … وبعد لحظات فتح … وظهر أحد الطوارق فقال «تختخ»: هل أستطيع الحديث معك؟
قال الطارقي بأدبٍ: لا يا سيدي!
تختخ: إنها مسألةٌ تهمُّكم جميعًا … إن الزعيم الأزرق ليس منكم … إنه رجلٌ إنجليزيٌّ أبيض … صبغ نفسه باللون الأزرق.
كان «تختخ» يتحدث وقلبه يدقُّ بشدةٍ … لقد كان يعرف أن كلماته قد تعني إنقاذهم … وقد تعني نهايتهم بأسرع مما يتوقعون.
صمت الطارقي لحظات ثم قال: هل أنت متأكدٌ؟
أحس «تختخ» أنه يسير في الطريق الصحيح، وأنه قد أثار الشك في نفس الرجل … فعاد يقول: أؤكد لك هذا … والمسألة كلها لا تحتاج إلا أن تغسلوا وجه الرجل وستعرفون الحقيقة.
الطارقي: إنني لا أستطيع أن أفعل هذا، وإلا كان جزائي الموت … ولكن …
تختخ: ولكن ماذا؟
الطارقي: سأبحث الأمر مع زملائي، ولحسن الحظ أن الزعيم ذهب إلى مكان آخَر.
تختخ: إنني في انتظار قراركم … ولكن أين ذهب الزعيم؟
الطارقي: لقد انتقل إلى القسم الآخَر من الكهف … حيث يُجري بعض أبحاثه.
تختخ: إنني من مصر … وعربيٌّ مثلكم … وإنني أؤكِّد لك كل كلمة قلتُها … فحاوِلْ قدر ما تستطيع.
أحنى الرجل رأسه ثم أغلق الباب، وخرج، وعاد «تختخ» فقال «كوكس»: ماذا كنت تقول له؟
تختخ: إنني أحاول إنقاذ رءوسنا!
كوكس: كيف؟
تختخ: تعالوا نتعشَّى أولًا … ثم نرى بعد ذلك ما يمكن عمله … لقد وضعتُ خطةً قد تتحقق … وحاولتُ محاولة قد تنجح … وقد تفشل الاثنتان … وتكون هذه هي النهاية.