مقدمة
على غير ما اعتاده بعض الكُتَّاب من اتِّخاذهم عادة في ما يؤلِّفون ويكتبون وضعَ مقدمات كبيان للفن الذي يشتغلون به، أو المواضع التي يوَفَّقون للإجادة في مباحثها تشويقًا للقراء، وتنبيهًا عن أهمية ما يتصدرون للإطناب فيه، بما أوتوا من براعة واقتدار؛ حتى يكون المطَّلِع على اشتياق لما تزفُّه الأقلامُ للأفهام.
قد رأيت في هذا المؤلَّف اجتنابَ الإطالة في التمهيدات والمقدمات اكتفاء بأن الموضوع المقصود بالبحث والبيان هو النيل، والنيل ذو أهمية بذاته لا تحتاج معالجة لإثارة الأشواق واستفزاز الفِطَن؛ لأن النيل ومزاياه وتوقف حياة البلاد عليه تكاد أن تكون في حُكم المعلومات الفطرية، التي تنبعث الأذهان بطبيعتها إلى حب الاطلاع على كل ما يتعلق به من المباحث التاريخية، والمعلومات الفنية التي جادت بها القرائح في قرون ماضية، لا زلنا نقتفي آثارها في الارتشاف من مناهلها، والحرص على الاستفادة من كل جديدٍ مفيد.
النيل في عصر الفراعنة، وفي عصور الفتوحات الاستعمارية، إلى عصر الفتح الإسلامي وما يليه، أخذ عناية دائمة بالمحافظة على فوائده من كل دولة كان لها حق السيطرة على هذه البلاد.
لهذا تحتَّم عندي التلخيص بأقصى مستطاع لكل المعلومات الزمنية للنيل وتطوراته في كل هذه العصور، اعترافًا للرجال المصلحين في كل أمة بالفضل الذي بذلوه لفائدة العمران في المحافظة على مياهه، وانتفاع بلاده ببركات فيضه.
فلنا المعذرة إذا قَصَرْنَا بحثنا على أدقِّ ما يهمُّ الاطلاع عليه، خصوصًا فيما يتعلق بالمناطق الشهيرة التي نرى في الإلماع إليها أتمَّ كفاية لمن يهمه أمثال مباحثها العمرانية والتاريخية.
فلهذه الأسباب يكون اقتناء كتابي هذا، والتكرم بالاطلاع عليه كتشجيع أدبي لكل قارئ فيه حظ الارتياح وامتنان الثناء؛ لأن كل فرد من سائر الطبقات المصرية يشتاق لتبادل وتعميم هذه المباحث العمومية، بقدر الارتباط العام لكل فرد ممن أقلَّته أرضُ مصر ببركات النيل وفيوضاته.