منابع النيل حسب عقيدة قدماء المصريين وتقاليدهم
قليلٌ من المصريين من يشاهَد عليه الاعتناء بالنيل ومعرفة تطوراته، بحسب النظامات الحكومية التي طرأت عليه لمناسبات تحسين الري، وحسن التصريف في كميات الفيضان، وقلَّ أن تجد حتى عند ذوي الاطلاع معلومات تدلُّ على اهتمام القوم بهذا النهر، الذي هو مصدر الثروة وينبوع الحياة، بل إن أغلب الأمة المصرية لا تذكر شيئًا عن النيل إلَّا في أوان التحاريق، بمناسبة التشديدات التي تتخذها مصلحة الري في وضع المناوبات، واحتياجهم إلى تلقي الأخبار المنبئة عن بدء الفيضان، وهذا هو منتهى اهتمام الزرَّاع وأرباب الأطيان الواسعة، وأما أغلبية الطبقات من الأمة حتى المشتغلين بالعلوم العامة في المدارس بأنواعها وطبقات الصناع والتجار، فلا يحسِبون للنيل حسابًا ولا يعتنون بشيء من أخباره إلَّا في مقتضيات محدودة من الزمن، مثل حفلة وفاء النيل وباقي الأعياد المتداخلة في أشهر الفيضان عند بعض الطوائف، فإذا انقضت هذه المدة أغفلوا ذكر النيل جانبًا، كأنهم ليسوا من سكان واديه، أو من القاطنين في أراضيه التي كرَّمها الله بالخصب والرغد، وجعله لها مصدر السعادة ومهاد الثروة.
أفردَ كثيرٌ من المؤرخين النيلَ بمباحث مطوَّلة عن البعثات التي كُلفت باكتشاف ينابيعه وطُرق سريانه في الأودية، ووسائل الانتفاع به وما تحويه مسالكه من المعادن والأتربة ذات الخواص، وهذا المبحث مفيد من الوجهة العلمية، التي تقبل المزيد من الوضوح، كلما تقدَّم العقل العرفانيُّ في ارتقائه ووصوله إلى حقائق لم تكن معلومة من ذي قبل، وغرضنا في هذا الكتاب البحث الآن عما كان للنيل من المزايا الخاصة، المترتبة على عقائد وتقاليد تداولها قدماء المصريين حسب اعتقادهم، فمن ذلك ما قاله هيردوت: «إنما مصر هدية من هدايا النيل.» وكلمته هذه الصغيرة تشمل وادي النيل بأسره؛ لأن النيل كشريان الحياة، بفيضاناته الدورية التي يعبر عنها في أقاليم الصعيد بلفظة «دميرة».
والبداهة ترشدنا إلى أن مجرى النيل وما يحيط بشواطئه كلها جزء اغتصبته سطوة النيل من مجموعة الأقاليم، واختص هذا الجزء المغتصب بالمقتضيات الطبيعية من الخصوبة، فجاد بحسن الإنبات وامتاز بالموقع الثمين، وأحاسن المجهودات الإنسانية التي ابتدع الأهالي طرائقها ووسائلها في تقسيم المناطق إلى بلدان وحِيضان وحدائق، واتخذوا لكل موقع ما يناسبه من الاحتياطات الزراعية، ولم يشيدوا المباني في البلاد إلَّا بأماكن محدودة من أطرافها؛ لتكون مناطق المزارع خالية من عوائق التقسيم والترتيب وحرية الانتفاع، وليكون أهل كل قرية عونًّا لبعضهم في حقوق الجوار والارتفاق وصد الطوارئ، جريًا على عادة المجاملات التي كانت راسخة في أخلاق المصريين قبل أن يتغلب عليها التقليد الأجنبي الحاضر، الذي أفقد النفوس كثيرًا من مزايا التعاون والمحبة والإخلاص.
وكان قدماء المصريين يجعلون للنيل احترامًا اعتقاديًّا؛ لكونه السبب الفعال في صيانة أرواحهم من مهالك القحط والجدب، وانتشار الفاقة واستحكام الضيق؛ إذ كان عوامُّ الناس وخاصتهم مقبلين على الزراعة والاعتناء بها أكثر من كل شيء، ولم يكن الاعتناء بالصناعات والأحوال الأخرى الأدبية إلَّا في بعض المدائن التي كانت تقوم بالحاجة الكافية لمجموع الأهالي، وبهذا كانت التجارب على جانب من الرواج، وأُولو البراعة في العلوم كانوا على منتهى درجات الاحترام والتوقير، اعترافًا بفضلهم وتشجيعًا لذوي الاستطاعة، على أن يحذو النجباء حذوهم في فضلهم ومعارفهم، وكانوا يقدِّمون للنيل بعض اعتبارات كالعبادة ويسمونه «حعبي»؛ أي الإله المقدس.
وعدم إلمام المصريين القدماء بمعلومات عن منابع النيل كان شأنًا عامًّا، ولا يعدونه تقصيرًا في الوجهة العلمية، وقد لاحظ ذلك المؤرخ الشهير هيردوت الذي قَدِم لمصر قاصدًا البحث وجمع الاستدلالات في هذا الشأن، حتى قال: «لم يعرِّفني أحدٌ شيئًا من منابع النيل.» وأيدتْ رأيه أنشودةُ النيل القديمة التي كانوا يترنمون بها في المواسم والأعياد، ويعترفون فيها «بأن النيل آتٍ من الظلمات.»
وذُكر في كتاب الموتى: «أن النيل مولود من رع»؛ أي الشمس التي هي أكبر الآلهة عند المصريين القدماء، ويقرب من هذا المعنى أنه وجد مكتوبًا في ورقة بردية، «من ضمن أوراق كتب التحنيط»، نصٌّ بالمعنى الآتي، «في بطاقة عند مقبرة أحد الموتى»: «إنك أيها الراحل في لحد الخلود، سيفيض عليك النيل في مضجعك الأخير أثرًا من بركاته؛ لأن ماءَه آتٍ من مدينة أبو «أي جزيرة أسوان»، وهذا النيل ينفجر من هُوَّتِهِ، هذا «نو» الخارج من ينبوع صخري، كأن الفيضان يفور من خزانته والمياه تتدفق من ينبوعها.»
وقد قال المؤرخ هيردوت أن أمين معبد الآلهة «نيت» بمدينة سايس أخبره بأن بين مدينة «سين» بطيبة ومدينة جزيرة أسوان جبلين؛ أولهما يُدعى باللغة المصرية القديمة «كروفي»؛ أي هوته، والثاني «موفي»؛ أي مياهه، وبين هذين الجبلين تتفجر منابع النيل من هوَّةٍ عظيمة، وينصبُّ الماء منها طبقًا لطبيعة الحواجز الصخرية هناك إلى شطرين؛ أحدهما إلى مصر في الشمال والآخر إلى إثيوبيا في الجنوب.
وقد اجتهد هيردوت لمَّا أتى مصر بمباحثه العلمية من الوجهة الجغرافية، وعالج كثيرًا من طبقات الكهنة، فلم يبوحوا له بشيءٍ من معلوماتهم، إلا فيما يتعلق بعظمته المشهورة ومكانته الراسخة في النفوس، كمعبود يؤدون له فرائض العبادة والإجلال ما استطاعوا، وخصوصًا في الأوقات التي حددوها لذلك عند بدئه في الزِّيادة، وبلوغه منتهى الفيضان، ومبادئ تصريفِه في الأقاليم، ورتَّبوا على ذلك الأعياد والمواسم الشهيرة، التي لا زالت تُراعى في الاحتفالات والمظاهر السنوية ترحيبًا بوفائه، وشكرًا لما يغدقه على الأرض من نِعيم الخصوبة والرغد.
وقد اكتشفوا في معبد بيلاق الذي شيده الإمبراطور «تراجان»، واحتفظ عليه خلفاؤه من بعده رسمًا يمثل لنا الإله حعبي «النيل» في مخبئه، وتفسير هذا الرمز أنه يوجد فوق صخور مرتفعة عليها رسما الصقر والباشق، وفي حجرة يرى بداخلها هيكل إلهي لإله راكع، حاملًا في يديه آنية تخرج منها فيوضات النيل المباركة، ويجد الرائي مرسومًا على رأس الحجرة حية ملتفة على نفسها، وبين رأسها وذَنَبها منفذ ضيق لمرور النيل، وهذا الرسم فسَّره كاهن مدينة سايس للمؤرخ هيردوت بأنه منتهى معلوماتهم عن منابع النيل، فهو فيض من عند الله لم تصل استطاعة أمثالهم لاكتشاف أوائله غير ما هو مشاهد للزائرين في أطراف وادي النيل، ويقصد الكهنة بذلك وقوف الأمة عند هذه النقطة، وعدم التطلع إلى مباحث أخرى.
وكان علماء المصريين مع كثرة الرموز العلمية وسعة المعلومات المحفوظة في الصدور، والمرموز إليها في بعض المخلدات الأثرية، لا يسمحون لمعاصريهم ولا لزائريهم من فجاج الممالك بالتوسُّع في مباحث عن ينابيع النيل وأوائل مصدر فيضه؛ لأنهم يعتقدون سعة البحث في ذلك ممنوعة دينيًّا، وتعرِّض المشتغلين بها لحلول النقمات التي تنذر بها الكتب المقدسة كل مَن يسعى إلى عمل يؤدي إلى كفر أو ضلال، وكانوا يعتقدون أن النيل فيض من البركات الإلهية، يتنزل من السموات العلا إلى عالم الأرض، فيكون منها الرغد والسخاء وصلاحية الأرض لكل نبات يحتاجه الإنسان في أدواره المعاشية، ولهذا كانوا يسمونه أبا الآلهة «أتِفْ نترو»، ولم يلتفت قدماء الباحثين من المصريين إلى أسباب الزيادة في النيل في أزمنة الفيضان؛ لاعتقادهم أنه قدسيٌّ في تكوينه، وفي تأثيره وفيما تبصر الخلائق عنه؛ لأنه سرٌّ من فيض البركات الإلهية، اختص الله بها هذا الوادي السعيد، وجعله إلى الأبد مصدر الرفاهية والسعة والإغداق بأنواع الأرزاق التي تفي باحتياجات قاطنيه، وبسدِّ العوزِ لكل الطبقات التي تأوي إليه، ويجدون فيه ومن سجايا أهله حرمًا آمنًا.
وقد اجتهد علماء المباحث المصرية عن النيل وينابيعه ومصادره العليا، مثل هيردوت وسترابون وديودور الصقلِّي، وعلماء الرومان كالمؤرخ بلين وسنيك وغيرهم من الفلاسفة، فلم يستطيعوا سوى الوقوف عند ما ألقاه إليهم الكهنة عن عظمة النيل، وإن عجائبه ترجع إلى قدسية مصدره الإلهي، فاضطروا للإذعان خاضعين لعقائد وتقاليد قدماء المصريين في شأنه، ولم يتجاوزوا في مباحثه إلى ما وراء الشلالات، وإلى ذلك أشار هيردوت بقوله: «إن النيل يُعرف مبدؤه بعد سفر أربعة أشهر، سواء كان ذلك برًّا أو بحرًا، وهي المدة التي كان يستغرقها المسافر في وصوله إلى جزيرة أسوان.»
واستمر الناس على الاعتقاد بأن ينابيع النيل مما يعسر على الباحثين حلُّ غوامضه إلى عصر الرومان، فأرسل نيرون بعثة رسمية لاكتشاف هذه المنابع، فوصلت بعد مستنقعات واسعة إلى صخرين تجري فيهما المياه فظنوهما المنابع الأولى للنيل، وعادوا يتوهمون لأنفسهم الظَّفَر بما لم يستطع غيرهم الوصول إليه.
وقال المقريزي في وصف مصر: «إن النيل يظهر على الأرض بقرب وادي القمر، الواقع بقرب الاستواء.» وقال جرانفيل: «إن النيل فردوس أرضيٌّ.» ولا تزال هذه العقيدة عند قدماء النوبيين رغمًا عن توالي السنين وظهور الاكتشافات العلمية التي تحتم بمقتضاها أن يتحول الناس عن عقائدهم الأولى التي توارثوها في أجيال ماضية.