نتائج زيادة النيل ونقصانه في عهد العرب
لما فقدت مصر استقلالها قبل ألفي سنة تهاون ولاة الأمور الأجانب في شئون البلاد، حتى أهملوا نظام الري وتعطلت زراعة الأرض، ونضبت موارد المعيشة على الناس، فهاجروا وهجروا البلاد فصارت بعدهم أطلالًا بالية وآثارًا خاوية، وأصبح كثير من الجهات حُفرًا ومستنقعات، ولو كان في هذه العصور حكومة وطنية تهتم بالمصالح الحيوية لما تمادت على هذا الإهمال الذي أوقع البلاد في مهاوي الدمار والخراب.
وكانت زيادة النيل في هذه العصور تهاجم المدن والقرى فتدمرها لعدم إقامة الجسور واختلال نظام الري الذي عليه مدار الحياة، ومن طبيعة الحكومة الوطنية أن تحافظ على نظامها المرتبط بحياة الأمة، ولكن من سوء حظ مصر أن توالت عليها إذ ذاك حكومات أجنبية مختلفة لم تهتم بمصلحة البلاد، ولا بنظام شئونها كما هي العادة قديمًا وحديثًا في كل زمان ومكان.
ومن المأثور عن نابليون بونابرت قوله: «من علامة حسن الإدارة في البلاد أن ترى نظام الري معتدلًا، والترع مطهرة والفيضان منتفعًا به في كل مكان، وإن علامة ضعف الحكومة واختلال شئونها أن ترى الترع معطلة؛ لعدم تطهيرها، والجسور مهدمة، ونظام الري فاسدًا وقوانين توزيع المياه جائرة.»
كم تحكمت في مصر حكومات أجنبية أثقلت عواتق الرعية بالضرائب الباهظة والغرامات الفادحة، فكنت ترى أفراد الهيئة الحاكمة من الوالي إلى الجندي البسيط لا همَّ للجميع إلا جمع المال وإحراز الثروة، وأوقعوا النهب والسلب في المصريين وأذلوهم وأذاقوهم الأمرَّين حتى سئموا الحياة واضطروا للثورات السياسية.
إن نيل مصر يمدُّ وقت نضوب مياه الأرض، وذلك في شمس السرطان والأسد والسنبلة، فيعلو على الأرض ويقيم أيامًا، فإذا نزل عنها حُرثت وزُرعت ثم يكثر الندا في الليل جدًّا، وبه يتغذى الزرع إلى أن يُستحصد، ونهاية ما تدعو إليه الحاجة من الزيادة ثماني عشرة ذراعًا فإن زاد على ذلك فإنه يروي أمكنة مستعلية.
وروى لنا ما رآه بعينه من الفظائع التي وقعت في مصر سنة ٥٩٧: دخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد، وشمل أهلها البلاء وهرجوا من خوف الجوع، وانضوى أهلي السواد كالريف إلى أمهات البلاد، وانجلى كثير منهم إلى الشأم والمغرب والحجاز واليمن، وتفرقوا في البلاد أياديَ سَبَا ومُزقوا كل ممزق، ودخل إلى القاهرة ومصر منهم خلقٌ عظيم، واشتد بهم الجوع ووقع فيهم الموت، وعند نزول الشمس بالحمل وبرد الهواء ووقع المرض والموت واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرًا ما يُعثر عليهم ومعهم صغار مشويُّون أو مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل.
ورأيت صغيرًا مشويًّا في قفة، وقد أُحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما.
ووُجد في رمضان بمصر رجل وقد جُرِّدت عظامه من اللحم، فأُكل وبقي قفصًا كما يفعل الطباخون بالغنم، ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته؛ ولذلك تطلبه بكل حيلة وكذلك كل من آثر الاطلاع على علم التشريح، وحينما نَشَّم الفقراء في أكل بني آدم كان الناس يتناقلون أخبارهم ويفيضون في ذلك استفظاعًا لأمره وتعجبًا من نذوره.
ثم اشتد إليه اضطرارهم بحيث اتخذوه معيشة ومَطْيَبَة ومُدَّخرًا، وتفننوا فيه وفشا عنهم، ووُجد بكل مكان من ديار مصر، فسقط حينئذٍ التعجب والاستشناع واستهجن الكلام فيه والسماع له، ولقد رأيتُ امرأة مثحجة يسحبها الرعاع في السوق، وقد ظفر معها بصغير مشوي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم، لم أرَ فيهم من يعجب لذلك أو يُنكره، فعاد تعجبي منهم أشد، وما ذلك إلا لكثرة تكرُّره على إحساسهم، حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يُتعجب منه.
ورأيتُ قبل ذلك بيومين صبيًّا نحو الرهاق مشويًّا، وقد أُخذ به شابان أَمرا بقتله وشيِّه وأكل بعضه. وفي بعض الليالي بعد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير، فبينما هو إلى جانبها انتهزت غفلتها عنه صعلوكةٌ، فبقرت بطنه وجعلت تأكل منه نيًّا. وحكت لي عدة نساء أنه يُتوثب عليهن لاقتناص أولادهن ويحامين عنهم بجهدهن.
ورأيت مع امرأة فطيمًا لحيمًا فاستحسنته وأوصيتها بحفظه، فحكت لي أنها بينا تمشي على الخليج انقضَّ عليها رجلٌ جاف ينازعها ولدها، فترامت على الولد نحو الأرض حتى أدركها فارس وطرده عنها، وزعمت أنه كان يهمُّ بكل عضو يظهر منه أن يأكله، وأن الولد بقي مدة مريضًا لشدة تجاذبه بين المرأة والمفترس.
وتجد أطفال الفقراء وصبيانهم ممن لم يبق له كفيل ولا حارس، منبثين في جميع أقطار البلاد وأزقة الدروب كالجراد المنتشر، ورجال الفقراء ونساؤهم يتصيدون هؤلاء الصغار ويتغذون بهم، وإنما يعثر عليهم في الندرة وإذا لم يحسنوا التحفظ.
وأكثر ما كان يقع من ذلك مع النساء، وما أظن العلة فيه إلا أن النساء أقل حيلة من الرجال، وأضعف عن التباعد والاستتار، ولقد أُحرق بمصر خاصة في أيام يسيرة ثلاثون امرأة كل منهن تُقرُّ أنها أكلت جماعة، فرأيت امرأة قد أُحضرت إلى الوالي وفي عنقها طفل مشوي فضُربت أكثر من ٢٠٠ سوط على أن تقرَّ فلا تحير جوابًا، بل تجدها قد انخلعت عن الطباع البشرية، ثم سحبت فماتت على مكان.
وإذا أحرق آكل أصبح وقد صار مأكولًا؛ لأنه يعود شواء ويستغنى عن طبخه.
ثم نشأ فيهم أكل بعضهم بعضًا حتى تفانى أكثرهم، ودخل في ذلك جماعة من المياسير والمساتير منهم من يفعله حاجة ومنهم من يفعله استطابة.
وحكى لنا رجلٌ أنه كان له صديق أدقع في هذه النازلة، فدعاه صديقه هذا إلى منزله ليأكل عنده على ما جرت به عادتهما قبل، فلما دخل منزله وجد عنده جماعة عليهم رثاثة الفقر، وبين أيديهم طبيخ كبير اللحم وليس معه خبز، فرابه ذلك وطلب المرحاض، فصادف عنده خزانة مشحونة برمم الآدمي، وباللحم الطري، فارتاع وخرج فارًّا. وظهر من هؤلاء الخبثاء من يتصيد الناس بأصناف الحبايل، ويجتلبونهم إلى مكانهم بأنواع المخاتل، وقد جرى ذلك لثلاثة من الأطباء: أما أحدهم فإن أباه خرج فلم يرجع، وأما الآخر فإن امرأة أعطته درهمين على أن يصحبها إلى مريضها، فلما توغلت به مضايق الطرق استراب وامتنع عنها وشنع عليها، فتركت درهميها وانسلَّت، وأما الثالث فإن رجلًا استصحبه إلى مريضه في الشارع يزعمه وجعل في أثناء الطريق يصدِف «بالكسر»، ويقول: اليوم يغتنم الثواب ويتضاعف الأجر، ولمثل هذا فليعمل العاملون، ثم كثر حتى ارتاب منه الطبيب، ومع ذلك فحسن الظن يغلبه وقوة الطبع تجذبه، حتى أدخل دارًا خربة فزاد استشعاره وتوقف في الدرج.
وسبق الرجل فاستفتح فخرج إليه رفيقه يقول له: هل مع إبطائك حصل صيد ينفع، فخرج الطبيب لما سمع ذلك، وألقى نفسه إلى إصطبل من طاقة صادفها لسعادته، فقام إليه صاحب الإصطبل يسأل عن قضيته، فأخفاها عنه خوفًا منه أيضًا، فقال له: قد علمت حالك، فإن أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالخَتْل.
ووُجد بأطفيح عند عطار عدة خوابي ملأى بلحم الآدمي وعليه الماء والملح، فسألوه عن علة اتخاذه والاستكثار منه فقال: خفت إذا دام الجدب أن يَهْزِل الناس.
وكان جماعة من الفقراء قد آووا إلى جزيرة وتستروا ببيوت طين يتصيدون فيها الناس، ففُطن لهم وطلب قتلهم فهربوا، ووجد في بيوتهم من عظام بني آدم شيء كثير، وخبرني الثقة أن الذي وُجد في بيوتهم أربعمائة جمجمة.
ومما شاع وسُمع من لفظ الوالي، أن امرأة أتته سافرة مذعورة، تذكر أنها قابلة وأن قومًا استدعوها وقدموا لها صحنًا فيه مكباج محكم الصنعة مكمل التوابل فألفته كثير اللحم مُباينًا للحم المعهود، فتقززت منه ثم وجدت خلوة ببنت صغيرة فسألتها عن اللحم فقالت: إن فلانة السمينة دخلت لتزورها فذبحها أبي وها هي معلقة إِرَبًا، فقامت القابلة إلى الخزانة فوجدتها أنابير لحم، فلما قصت على الوالي القصة، أرسل معها من هجم الدار وأخذ مَن فيها، وهرب صاحب المنزل ثم صانع عن نفسه في خفية بثلاثمائة دينار ليحقن بذلك دمه.
ومن غريب ما حدث من ذلك أن امرأة من نساء الأجناد ذات مال ويسار كانت حاملًا، وزوجها غائب في الخدمة، وكان يجاورها صعاليك فشمت عندهم رائحة طبيخ فطلبت منه، كما من عادة الحبالى، فألفته لذيذًا فاستزادتهم فزعموا أنه نفد، فسألتهم عن كيفية عمله فأسروا إليها أنه لحم بني آدم، فواطأتهم على أن يتصيدوا لها الصغار وتجزل لهم العطاء، فلما تكرر ذلك منها وضَرِيَت وغلبت عليها الطباع السبعية، وشى بها جواريها خوفًا منها، فهُجم عليها فوُجد عندها من اللحم والعظام ما يشهد بصحة ذلك فحُبست مقيدة وأرجئ قتلها احترامًا لزوجها وإبقاء على الولد في جوفها.
ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر، وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانَّه، وإنما هو شيء صدفناه اتفاقًا، بل كثيرًا ما كنتُ أفرُّ من رؤيته لبشاعة منظره.
وأما من يتحين ذلك بدار الوالي فإنه يجد منه أصنافًا تحضر مع آناء الليل والنهار، وقد يوجد في قِدْر واحدة اثنان وثلاثة وأكثر، ووُجد في بعض الأيام قِدْر فيها عشر أيدٍ كما تُطبخ أكارع الغنم، ووُجد مرة أخرى قِدْر كبيرة وفيها رأس كبيرة وبعض الأطراف مطبوخًا بقمح وأصناف من هذا الجنس تفوت الإحصاء.
وكان عند جامع ابن طولون قوم يتخطفون الناس، ووقع في حِبَالتهم شيخ كُتبِيٌّ بَدِينٌ ممن يبتاعون الكتب، فأفلت بِجُرَيْعة الذَّقَن.
وكذلك بعض أقوام من جامع مصر وقع في حِبَالة قوم آخرين بالقرافة، فتداركه الناس فخلص من الوَهَق وله حُصَاص، وأما من خرج عن أهله فلم يرجع إليهم فخلق كثير.
وحكى لي من أثق به أنه اجتاز على امرأة بخَرِبَة، وبين يديها ميت قد انتفخ وتفجر، وهي تأكل من أفخاذه، فأنكر عليها، فزعمت أنه زوجها، وكثيرًا ما يدَّعي الآكل أن المأكول ولده أو زوجه أو نحو ذلك، ورُؤي مع عجوزٍ صغيرٌ تأكله فاعتذرت بأن قالت: إنما هو ولد ابنتي وليس بأجنبي مني، ولأنْ آكله أنا خير من أن يأكله غيري. وأشباه هذا كثير جدًّا حتى إنك لا تجد أحدًا في ديار مصر إلَّا وقد رأى شيئًا من ذلك، حتى أرباب الزوايا والنساء في خدورهن.
ومما شاع أيضًا نبش القبور وأكل الموتى، وبيع لحومهم، وهذه البلية التي شرحناها وجدت في جميع بلاد مصر، ليس فيها بلد إلَّا وقد أكل فيه الناس أكلًا ذريعًا، من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والإسكندرية ودمياط وسائر النواحي.
وخبَّرني بعض أصحابي، وهو تاجر مأمون حين ورد من الإسكندرية بكثرة ما عاين بها من ذلك، وأعجب ما حكى لي أنه عاين رءوس خمسة صغار مطبوخة في قدر واحدة بالتوابل الجيدة. وهذا المقدار في هذا الاقتصاص كان، فإني وإن كنت قد أسهبت أعتقد أني قد قصرت، وأما القتل والفتك في النواحي فكثير فاشٍ في كل فج، ولا سيما طريقي الفيوم والإسكندرية، وقد كان بطريق الفيوم ناس في مراكب يرخِّصون الأجرة على الركاب، فإذا توسطوا بهم الطرق ذبحوهم وتساهموا أسلابهم، وظفر الوالي منهم بجماعة فمثَّل بهم، وأقر بعضهم عندما أُوجع ضربًا أن الذي خصه دون رفقائه ستة آلاف دينار. وأما موت الفقراء هُزالًا وجوعًا فأمر لا يحيط علمه إلا الله سبحانه وتعالى، وإنما نذكر منه كالأنموذج يستدل به اللبيب على فظاعة الأمر.
فالذي شاهدنا بمصر والقاهرة وما يليهما أن الماشي أين كان لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميت، أو مَن هو في السِّيَاق أو على جمع كثير بهذه الحال، وكان يرفع من القاهرة خاصة إلى الميضاة كل يوم ما بين مائة إلى ٥٠٠.
وأما مصر فليس لموتاها عدد، ويُرْمَوْن ولا يُوارَوْن، وأما من عجزوا عن رميهم فبقوا في الأسواق، وبين البيوت والدكاكين وفيها، والميت منهم قد تقطع وإلى جانبه الشَّوَّاء والخَبَّاز ونحوه.
وأما الضواحي والقرى فإنه هلك أهلها قاطبة إلى ما شاء الله، وبعضهم انجلى عنها، اللهم إلَّا الأمهات والقرى الكبار كقوص والأشمونين والمحلة ونحو ذلك، ومع هذا أيضًا فلم يبقَ فيها إلَّا تَحِلَّة القسم، وإن المسافر ليمر بالبلدة فلا يجد فها نافخ ضَرَمَة، ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى متقابلين بعضهم قد ورم وبعضهم طري، وربما وجد في البيت أثاثه وليس له من يأخذه.
حدثني ذلك غير واحد كل منهم حكى ما يعضد به قول الآخر، قال أحدهم: دخلنا مدينة فلم نجد فيها حيوانًا في الأرض ولا في السماء، فتخللنا البيوت فألفينا أهلها كما قال الله عزَّ وجل: جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ، فنجد ساكن كل دار موتى فيها الرجل وزوجه وأولاده، قال: ثم انتقلنا إلى بلد آخر ذُكر لنا أنه كان فيه أربعمائة دكان للحياكة، فوجدناها كالتي قبلها في الخراب، وإن الحايك في بير حياكته ميت وأهله موتى حوله، فحضر لي قول الله تعالى: إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، قال: ثم انتقلنا إلى بلدٍ آخر فوجدناه كالذي قبله ليس به أنيس وهو مشحون بموتى أهله. قال: واحتجنا إلى الإقامة به لأجل الزراعة، فاستأجرنا من ينقل الموتى مما حولنا إلى النيل، كل عشرة بدرهم. قال: ولكن قد بدلت البلاد بالذئاب والضباع ترتع في لحوم أهلها.
ومن عجيب ما شاهدتُ أني كنت يومًا مشرفًا على النيل مع جماعة، فاجتاز علينا في نحو ساعة نحو عشرة موتى كأنهم القِرب المنفوخة، هذا من غير أن نتقصد رؤيتهم ولا أحطنا بعرض البحر، وفي غد ذلك اليوم ركبنا سفينة فرأينا أشلاء الموتى في الخليج وسائر الشطوط، كما شبهها ابن حجر بأنابيش الفصل، وخبرت عن صياد بفُرْضَة تنيس أنه مرَّ به في بعض نهار أربعمائة غريق يقذف بهم النيل إلى البحر الملح.
وأما طريق الشأم فقد تواترت الأخبار أنها صارت مزرعة لبني آدم، بل محصدة، وأنها عادت مَأْدُبَة بلحومهم للطير والسباع، وأن كلابهم التي صحبتهم من مُنْجَلَاهم هي التي تأكل فيهم.
وأول مَن هلك في هذا الطريق أهل الحوف، عندما انتجعوا إلى الشأم وانتشروا في هذه المسافة مع طولها كالجراد المحسوس، ولم تزل تتواصل هلكاهم إلى الآن، وانتهى انتجاعهم إلى الموصل وبغداد وخرسان، وإلى بلاد الروم والمغرب واليمن، ومُزقوا في البلاد كل ممزق.
وكثيرًا ما كانت المرأة تملص من صِبْيتها في الزحام، فيتضوَّرون حتى يموتوا.
وأما بيع الأحرار فشاع وذاع عند من لا يُراقب الله حتى تُباع الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وعُرض عليَّ جاريتان مراهقتان بدينار واحد، ورأيت مرة أخرى جاريتين إحداهما بكر يُنادى عليهما بأحد عشر درهمًا.
وسألتني امرأة أن أشتري ابنتها، وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم، فعرَّفتها أن ذلك حرام، فقالت: خذها هدية، وكثيرًا ما يترامى النساء والولدان الذين فيهم صباحة على الناس بأن يشتروهم أو يبيعوهم، وقد استحل ذلك خلق عظيم، ووصل سبيهم إلى العراق وأعماق خراسان.
وباشرنا لبعض الرؤساء زراعة فأرسل من يقوم بها، ثم بعث يسأل عنهم فجاء الخبر بموتهم أجمعين، فأرسل عوضهم فمات أكثرهم هكذا مرات في عدة جهات.
وسمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركة واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثًا.
ومن عجيب الكائنات في هذه المدة، أنه وُلد مولود أبيض الشعر ورأيته.
وأما خراب البلاد والقرى وخلو المساكن والدكاكين فهو مما يلزم هذه الجملة التي قصصناها، وناهيك أن القرية التي كانت تشتمل على زها عشرة آلاف نسمة تمرُّ عليها فتراها دمنة، وربما وجد فيها نفرٌ وربما لم يوجد، وأما مصر فخلا معظمها، وأما بيوت الخليج وزقاق البركة وحلب والمقس وما تاخم ذلك فلم يبقَ فيها بيت مسكون أصلًا، بعدما كان كل قطر منها قدر مدينة في زحمة من الناس، حتى إن الرباع والمساكن والدكاكين التي في سُرَّة القاهرة وخيارها أكثرها خالٍ خراب.
ولم يبقَ لأهل المدينة وقود في تنانيرهم وأفرانهم وبيوتهم إلا خشب السقوف والأبواب والزروب، ومما يقضي منه العجب أن جماعة من الذين ما زالوا محدودين سعدوا في دنياهم هذه السنة، فمنهم من أثرى بسبب متجرة من القمح، ومنهم من أثرى بسبب مال انتقل إليه بالإرث، ومنهم من حسنت حاله لا بسبب معروف، فتبارك من بيده القبض والبسط، ولكل مخلوق من عنايته قسط.
وأما خير النيل في هذه السنة فإنه احترق في برمودة احتراقًا كثيرًا، وصار المقياس في أرض جُرْز، وانحسر الماء عنه نحو الجيزة، وظهر في وسطه جزيرة عظيمة طويلة ومقطعات أبنية، وتغير الماء في ريحه وطعمه، ثم تزايد التغير ثم انكشف أمره عن خضرة طحلبية، كلما تطاول الأيام ظهرت وكثرت كالتي ظهرت في أبيب من السنة الحالية، ولم تزل الخضرة تتزايد إلى آخر شعبان، ثم تناقصت إلى أن ذهبت وبقي في الماء أجزاء نباتية منبثة فقط، وطاب طعمه وريحه، ثم أخذ في رمضان ينمو وتقوى جريته إلى اليوم السادس عشر منه، فقاس فيه ابن أبي الرداد قاع البركة فكان ذراعين، وأخذ في زيادة ضعيفة أضعف من السنة الخالية، ولم يزل في زيادة ضعيفة إلى ثامن ذي القعدة، وهو السابع عشر من مسرى، فزاد أصبعًا ثم وقف ثلاثة أيام، فأيقن الناس بِالبَلَا واستسلموا للهلكة، ثم أخذ في زيادات قوية أكثرها ذراع إلى ثالث ذي الحجة، وهو السادس من توت، فبلغ خمس عشرة ذراعًا وست عشرة أصبعًا، ثم انحط من يومه وانهزم على فوره، ومس بعض البلاد تَحِلَّة القسم فكأنما زارها طيف خياله في الحلم.
وإنما انتفع به ما كان في البلاد مطمأنًا فأروى المنخفضات كالغربية ونحوها، غير أن القرى خالية عن فلاح أو حراث أصلًا فهم كما قال الله تعالى: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وإنما أرباب الجدات يجمعون شذاذهم ويلتقطون أفرادهم، وقد عزَّ الحراث والبقر جدًّا حتى بِيع الثور الواحد بسبعين دينارًا، والهزيل بدون ذلك.
وكثير من البلاد ينحسر عنها الماء بغير حقه ولغير وقته؛ إذ ليس بها من يمسك الماء ويحبسه فيها فتبور لذلك مع ريها، وكثير مما رُوي يبور لعجز أهله عن تقاويه والقيام عليه، وكثير مما زُرع أكلته الدودة، وكثير مما سلم منها أضوى وعطب، ونهاية سعر القمح في هذه السنة خمسة دنانير للإردب، والفول والشعير بأربعة دنانير، وأما بقوص والإسكندرية فبلغ ستة دنانير.
ومنَّ الله سبحانه برجوع الفرج وهو المُتِيح للخير بمنِّه وجوده.
وفي حوادث سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، دخلت هذه السنة والأحوال التي شرحناها في السنة الخالية على ذلك النظام إلى زها نصفها، فتناقص موت الفقراء لقلتهم لا لارتفاع السبب الموجب.
وحُكي أنه كان في مصر تسعمائة منسج للحصر، فلم يبقَ إلا خمسة عشر منسجًا، وقس على هذا سائر ما جرت العادة أن يكون في المدينة من باعة وخبازين وعطارين وأساكفة وخياطين وغير ذلك من الأصناف، فإنه لم يبق من كل صنف من هؤلاء إلا نحو ما بقي من الحصيرين أو أقل من ذلك.
وأما الدجاج فعدم رأسًا، لولا أنه جلب منه شيء من الشأم، وحُكي لي أن رجلًا مصريًّا شارف الفقر، فألهم أن اشترى من الشأم دجاجًا بستين دينارًا، وباعها بالقاهرة على القماطين بنحو ثمانيمائة دينار، ولما وجد البيض بيع بيضة بدرهم ثم بيضتان ثم ثلاثًا ثم أربع واستمر على ذلك، وأما الفراريج فبيع الفروج بمائة درهم، ولبث برهة يباع الفروج بدينار فصاعدًا.
والذي دخل تحت الإحصاء من الموتى ممن كُفن، وجرى له اسم في الديوان وضمته الميضاة في مدة اثنين وعشرين شهرًا أولها شوال في سنة ست وتسعين، إلى رجب في سنة ثمان وتسعين، مائة ألف نفس وأحد عشر ألفًا إلا آحادًا، وهذا مع كثرته نَزْرٌ في جنب الذين هلكوا في دورهم وفي أطراف المدينة وأصول الحيطان، وجميع ذلك نَزْرٌ في جنب من هلك بمصر وما تاخمها، وجميع ذلك نَزْرٌ في جنب من أُكل في البلدين، وجميع ذلك نَزْرٌ جدًّا في جنب من هلك وأُكل في سائر البلاد والنواحي والطرقات، وخاصة طريق الشأم فإنه لم يرد أحد من ناحيته فسألته عن الطرق إلَّا ذكر أنها مزرعة بالأشلا والرمم، وهكذا ما سلكته منها، ثم إنه وقع بالفيوم والغربية ودمياط والإسكندرية موت عظيم ووباء شديد، ولا سيما عند وقت الزراعة، فيموت على المحراث الواحد عدة فلاحين، حُكي لنا أن الذين بذروا غير الذين حرثوا كذلك الذين حصدوا.
وباشرنا لبعض الرؤساء زراعة فأرسل من يقوم بها، ثم بعث يسأل عنهم فجاء الخبر بموتهم أجمعين، فأرسل عوضهم فمات أكثرهم، هكذا مرات في عدة جهات.
وأعجب من جميع ما اقتصصناه أن الناس، مع ترادف هذه الآيات، عاكفون على أصنام شهواتهم لا يرعوون، مغمسون في بحر ضلالاتهم، كأنهم هم المستثنَوْن، فمن ذلك اتخاذهم بيع الأحرار متجرًا ومكتسبًا، ومنه عهارهم بهؤلاء النسوة، حتى إن منهم من يزعم أنه افتَضَّ خمسين بكرًا، ومنهم من يقول سبعين.
وسمعنا من الثقات عن الإسكندرية أن الإمام صلى يوم الجمعة على سبعمائة جنازة، وأن تركة واحدة انتقلت في مدة شهر إلى أربعة عشر وارثًا، إلخ.